صفحات العالم

هل يكفي أن تتغيّر الأسماء حتى يصبح القتل مشروعاً؟


هلا رشيد أمون()

«الثورة» هي حربُ الحرِّيَّةِ ضدّ أعدائها، وهي تُستعمل للدلالةِ على جميع حركات التغيير والتجديد في الشؤون الاجتماعية والفكريَّة والسياسيّة و… وهي بمعناها السياسي الحديث، فعلٌ سياسيّ وعسكريٌّ عنيفٌ لا يستقيم إلاّ إذا تضمَّن عنصرين متكاملين: عنصر الهدم، ويهدف إلى إسقاط النظام السياسي القائم، وعنصر البناء، ويهدف إلى تسلـُّم السلطة، وتحويل النظرة الجديدة للمجتمع والقِيَم والعلاقات الإنسانيَّة أي الأيديولوجيَّة إلى قوانين ودساتير وأعراف وأنظمة.

ولقد قدًّمت الثورةُ الفرنسيَّة للفكر السياسي، العناصرَ الأساسيَّةِ لمفهوم الثورة. وأبرزها: 1- أنها عمليـَّة مواجهةٍ سياسيةٍ وعسكريَّةٍ بين الشعب والحاكم. ويفقد مفهومُ الثورة دلالتـَه النوعيَّة، إذا لم يتضمَّن إسقاط الحاكم، ليس بشخصه فحسب، بل والنظام السياسي والإجتماعي الذي يمثـِّله ويحافظ عليه ويحرص على استمراره؛ 2- تشكـِّل مقولةُ الشعب عنصراً رئيسياً في مفهوم الثورة الرامية إلى هدم الحكم القائم، أمَّا إذا انحصر الفعلُ الثوريُّ بأقليَّةٍ من الشعب، ودون أن يكسب تأييد الأكثريَّة الشعبيّة، فغالباً ما تنحدر الحركةُ التي أُريد بها ثورة، إلى درجةِ التمرُّد أو العصيان المدني الذي لا يُعبِّر عن إرادة الشعب المشتركة، ولا يتمتـَّع بشرعيتها؛ 3- تحتاج الثورةُ إلى ممارسة العنف بجميع درجاته ووسائله، وهذا العنف الثوري يستمدُّ دوافعه من الأيديولوجيّة الثوريَّة التي توجِّههُ، والتي ترمي إلى إرساء قواعد ومفاهيم وقِيَم جديدة أكثر تقدُّماً وملاءمة للواقع الحضاري الراهن.

هذه هي أبرز العناصر التي تشكـِّل مفهوم «الثورة». فما هي الأساليب التي يبتدعها النظامُ السوري للحؤول دون التعامل مع ما يجري في سوريا على أنـَّه ثورة شعبيّة حقيقيَّة؟

يستطيع أيُّ مُراقبٍ لمسار الإنتفاضة السوريّة، أن يلاحظ أنّ السلطة السياسيّة هناك، تناضل بكلِّ ما أوتيت من وسائل القوَّة والبطش والقمع والترهيب، من أجل سلـْب هذه الحركة الشعبيَّة كلِّ المقوِّمات التي تجعلها مستحِقـِّة لاسم «ثورة»، ومن أجل تحويلها إلى مجرّد حركة عصيانٍ وشغبٍ وتخريبٍ وإرهابٍ، يُفترض بالدولة التصدِّي لها بكلِّ عنفٍ، ومقاومتها بلا هوادة، حماية للسِّلـْم والأمن الوطنِيَّيْن. وفي سبيل ذلك، فإنَّ تلك السلطة تحاول أن تثبت أنَّ أغلبيَّة الشعب السوري مؤيِّدةٌ لبقاء النظام ورافضةٌ للانخراط في أيِّ حركة احتجاج أو اعتراضٍ، وهي، إمعاناً منها في إظهار أنَّ ما يحدث في الشارع ليس أكثر من انقسامٍ حاصلٍ بين فئات الشعب حول قضيَّةٍ معينة، ولا يرقى بأيِّ حالٍ إلى مستوى «ثورة»، تحرص على تنظيم المظاهرات الحاشدة المؤيِّدة للنظام، بُغية إظهار أنَّ هذا الأخير ما زال يتمتـَّع بالشرعيَّة القانونيَّة التي يستمدّها من القاعدة الشعبيّة العريضة التي تساندهُ. وفي الوقت عينه، فإنَّ هذه السلطة لا تتأخـَّر أبداً في الإنقضاض بشكلٍ دموي ولا أخلاقي، على كلّ ما ترى فيه بداية لتشكـُّل نواةٍ مُولـِّدةٍ لتيار شعبي جارف، يؤكـِّدُ للرأي العام العالمي بأنَّ الإرادة الشعبيّة بأكثريتها قد توحَّدت في وجه عدوٍ واحدٍ، لإنجاز هدفٍ واحد.

ولا شكّ أنّ هلع النظام من اتـِّساع دوائر الإعتراض والرفض التي قد تقتلعه من جذوره على غرار أشباهه من الأنظمة الإستبداديّة التي اقتلعها الربيعُ العربي، هو الذي يدفعه إلى التمادي في عمليات القتل والتنكيل بشعبه، وليس بأعدائه، مبرِّراً أفعالهُ الإجراميَّة تلك، بالإستناد إلى تعريف العنف الذي ينصُّ على أنه «استخدامُ القوة بصورةٍ غير مشروعةٍ أو غير مُطابقةٍ للقانون». فهذا الربط بين العنف والقانون، يعني أنه إذا كان العنف فعلاً غير قانوني، فإنَّ الأفعال الصادرة عن السلطة السياسية القائمة وعن أجهزتها الأمنيّة، والتي تتصف بطابع القوة والشدَّة، كالقتل والقمع والإضطهاد والإعتقال العشوائي، هي أفعالٌ غير عُنفيَّة، لأنها قانونيَّة، بمعنى أنها مُؤَيَّدة ومُبرَّرة بالقوانين التي تضعها تلك السلطة وتسهر على تطبيقها وتفرض على الشعب واجب الخضوع لها. ومما لا شكّ فيه أن هذا التعريف للعنف قد شجَّع هذا النظام التسلـُّطي على استخدام المزيد من القوّة الغاشمة؛ وهو الذي يدفعه إلى رفض أيِّ مبادرةٍ سِلميَّة للحلّ، من أيِّ جهةٍ أتت، معتبراً إيَّاها انتهاكاً لسيادة الدولة وتدخـُّلاً سافراً في شؤونها الداخليَّة، مدعياً أنَّ من حقِّ الدولة فرض سيطرتها وهيبتها على المجتمع بكلِّ الوسائل التي تراها مناسبة.

ولا عجب في ذلك، فإنَّ العنف المادي، هو جزء لا يتجزأ من عقلية النظام في ممارسة الحكم. ولكنه بالإضافة إلى العنف المادي الذي نشهد فصوله الدمويَّة كلّ يوم، عبر شاشات التلفزة والإنترنت، هناك العنفُ المعنوي الذي هو أدهى وأشدّ، والذي يُمكِنُ تعريفه بأنه «كلُّ مبادرةٍ تتدخل بصورةٍ خطرة في حرية الآخر، وتحاول أن تحرمه حريَّة التفكير والرأي والتقرير، وتحوِّلـُهُ إلى وسيلةٍ أو أداةٍ في مشروعٍ ما». وهذان النوعان من العنف يمارسَان على الشعب السوريّ منذ عهودٍ، من قِبَل الدولة الأمنية والإستخبارتيَّة التي انقادت إلى تكريس العنف أو الإرهاب السياسي باعتباره عنصراً عادياً، وواقعاً لا يمكن تلافيه، بل يجب اعتياده والتكيُّف معه.

ولمّا كان الإرهاب المؤسَّسي هو الذي يقود إلى الإرهاب الثوري المضاد، فإنّ مواجهة أساليب البطش والتنكيل المُتجَذرَة والمكرَّسة في بنية النظام الأمني السوري، لا يمكن أن تتمّ بعيداً عن استخدام بعض العنف الثوري الذي يستمدُّ شرعِيَّته من إيديولوجيَّة الثورة، والذي يخضع لأحكام الحالة الإستثنائية التي يمرُّ بها المجتمع الثائر، والتي تعطيه حداً معيناً من الشرعية. ولعل هنا يكمن أساس الدعوة إلى إيجاد ممرَّات أمنية، وإلى عسكرة الثورة – وإنْ تكن نتائج هذا العمل غير محمودة العواقب ولا سيَّما بعد ترْك المجتمع الدولي الشعب السوري في عين العاصفة، يواجه مأساته وحيداً، ويدفع الأثمان الباهظة لصراع إرادات القوى العظمى، وتضارب مصالحها.

والحقيقة أنه من المستحيل على الثوَّار أن يتمسّكوا برفع شعار «سلميَّة»، ولا سيّما في مواجهة نظامٍ يشهد له تاريخهُ غير البعيد بأنه نظامٌ قتل شعبه بدمٍ بارد، ثم طوى صفحة المجزرة ومضى في حكمه. وكأنَّ شيئاً لم يحدث، نظامٌ يعتمد دائماً في تصفية أزماته على الحلِّ الأمني والعسكري، وعلى استراتيجيّة الأرض المحروقة، لأنهما أقصر الطرق إلى هزيمة الخصم وإخضاعه، وما مأساة حي بابا عمرو في حمص سوى نموذج صارخ لتلك الإستراتيجية الجهنميَّة. ولا شكّ أنَّ هذا النظام يودُّ لو تبقى كلُّ التحرُّكات الإعتراضيَّة سلميَّة؛ ولو يرفع المتظاهرون شعار (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ)، حتى تـُسوِّل له نفسُهُ الفتك بها، وتصيُّد أعضائها العُزَّل بسهولةٍ وبدون أدنى مقاومة، ولكنه لا يُمانع في الوقت عينه، من أن يُمارس المنتفضون بعض العنف للدفاع عن أنفسهم، كي يستغلَّ هذا الواقع، فيسارع إلى استحضار شبح القاعدة والتطرُّف الديني، ويُعطي لنفسه الحق والذريعة لمواجهة ما يصفـُه بالجماعات الإرهابيّة والتخريبيّة، والتي باتت ذريعة ممجوجة وفاقدة للمصداقيَّة، ولكن النظام يستخدمها على الدوام للقضاء على أيِّ تحرُّك يطالب بإسقاطه.

ومن الوسائل التي يعتمدها النظام لحرمان الثورة معناها، هو إنكارُه الدائم لوجود ثورةٍ شعبيّة، وإلحاحُه على أنَّ ما يجري ما هو سوى مؤامرة خارجيّة. ففي الوقت الذي كانت فيه الإنتفاضة في تونس ومصر وليبيا واليمن، ثورةً مجيدةً ومباركة أطاحت رؤوس الفساد وأنصاف الرجال وأزلام الغرب، فإنَّ انتفاضة الشعب السوري هي مجرّد دسيسةٍ ومؤامرةٍ كونيَّة غربيَّة وعربيَّة، مشروعها، إسقاط النظام الداعم لكلِّ المقاومات في العالم العربي. فكلُّ القيادات في تلك الدول الثائرة كانت قياداتٍ متواطئة مع الغرب عملية لإسرائيل، أما القيادة ها هنا، فهي قيادة حكيمة عروبيَّة وطنيَّة مقاوِمة وممانِعة. بل إنَّ هناك تلازماً أو تطابقاً تاماً بين العروبة والممانعة والمقاومة، والنظام السوري، بحيث إنه لا يستطيع أيُّ عقلٍ تصوُّر وجود أحدهما دون وجود الآخر. وكلُّ مَنْ هم خارج هذا التطابق الثنائي الفريد، ما هم سوى مستعربون وعملاء وخـَوَنة!!

ولكن ما بالُ توأم المقاومة والممانعة هذا، يطالبنا بأن نثور ونغضب لإجرام إسرائيل وهمجيّتها وبربريَّتها وعنفها غير المسبوق ضد الشعب الفلسطيني واللبناني، وبأن نبقى صامتين متفرجين أمام آلة قتلِهِ التي كلما سُئلـَتْ: هل شبعتِ من سفكِ الدم؟ أجابَتْ: القبُور لم تمتلئ بعد، فهل من مزيد!! وما بالُ البعض ممَّن تحجَّرت أفئدتـُهم، وتبلَّدت مشاعرهم، وماتت ضمائرهم، وتساوى عندهم الدمُ السوري بالماء، يتجاهلون أنَّ مَنْ يسقطون في سوريا من قتلى وجرحى هم أهلنا ولحمنا ودمنا؛ وكيف يسمحون للوحش أن ينهش لحمنا ودمنا، وأن يُقدِّم الذبائح البشريَّة كلّ يوم تضحياتٍ باسم العروبة الكاذبة والممانعة الزائفة، ثم يقولون لنا: لا تبكوا ولا تنفطر قلوبكم حزناً واسى على الضحايا البريئة، إذ يكفيكم عزاءً أنَّ مَنْ يُقيم حفلة الذبح والقتلِ والسَّحْلِ والجنون في مدن سوريا وأحيائها وقراها، ليس عدوَّنا، بل هو شقيقنا وحليفنا. إنَّه الشقيق الذي حطـَّم كلّ الشرائع والقِيَم الأخلاقيَّة والدينيَّة والإنسانيَّة على مذبح الغباء والعناد والشهوة المريضة إلى السلطة والحكم.

وبالرغم من كلّ شيء، فإنَّ ما يحدث في سوريا هو ثورة شعبٍ، وليس شغباً. وكلُّ ضربةٍ من النظام لا تستأصلها، فهي تقوِّيها. ولا شكّ أنّ ربيع درعا وحمص وحماة وإدلب وكلّ سوريا، سوف يُزهِرُ قريباً حرِّيَةً وكرامةً وعدالةً، وأنّ النظام الطاغية آيلٌ إلى الزوال والإنقضاء حتماً، شاء أدعياء وحدة المسار والمصير، أم أبوا.

() أستاذة الفلسفة في الجامعة اللبنانية

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى