إياد الجعفريصفحات المستقبل

سوريا عام 2017/ إياد الجعفري

 

 

في ما يلي أحد السيناريوهات المُحتملة لمستقبل سوريا في المدى المنظور. قد لا يتحقق إذا امتلك بعض المؤثرين في الأحداث مناهج مختلفة في إدارة جانبهم من الصراع، عن تلك التي ما تزال سائدة حتى اليوم. أو قد يتدخل القدر لترتيب مشاهد مختلفة.

***

بدأ من بقي من سكان دمشق يعتادون بسرعة على التعايش مع قوانين “دولة الخلافة”، بعد أن انسحب الإيرانيون وأتباعهم بصورة مفاجئة، فيما انسحق من بقي وراءهم دون كثير مقاومة.

في صيف العام 2017، بات المشهد في العاصمة السورية، مختلفاً تماماً. حيث سادت رايات تنظيم “الدولة الإسلامية”، بعيد أشهر من نحر حاكم دمشق قرب أحد منازله غير المعروفة في الريف القريب من العاصمة.

تختلف الروايات حول كيفية سقوط العاصمة في قبضة “الإرهابيين”. لكن أكثرها رواجاً أن الإيرانيين أحسوا بخيانةٍ من حاكم دمشق، وخيوط تمتد، دون علمهم، بينه وبين الغرب، بحثاً عن تسوية ما. خاصةً بعد أن قام الرجل بتصفية معظم منافسيه على كرسي الحكم من أبناء طائفته، ممن كان من المحتمل أن تُطرح أسمائهم كبدائل عنه، في تسوية مع الغرب، بإدارة إيرانية، تضمن لطهران جزءاً كبيراً من النفوذ في سوريا.

يُقال أن الإيرانيين أحسوا بعد أكثر من عامين من انخفاض أسعار النفط، بثقل الاستنزاف في سوريا، بعد أن اقتنعوا أخيراً أن الغرب ودول الإقليم المتعاونة معه، تحاول إطالة أمد استنزافهم بسوريا تحديداً، أكبر قدر ممكن.

آلاف من مقاتلي حزب الله ضرجوا الساحة السورية بدمائهم، ولم تنتهِ مسرحيات الصراع، بل تفاقمت. فبعد أن نجح “التحالف الدولي”، بإدارة أمريكية، في طرد مقاتلي تنظيم “الدولة” من معظم العراق، وصدهم عن حدود مُفترضة لـ “دويلة كردية” لم ترَ النور حتى الآن (2017)، بات النشاط الميداني للتنظيم متركزاً، بعشرات الآلاف من المقاتلين، في سوريا، وكأن التنظيم فهم الرسالة الغربية، أن عليك استنزاف “المحور الإيراني” في سوريا حصراً، لأن للعراق أهمية خاصة بالنسبة للأمريكيين، الذين تمكنوا عبر تسليح الآلاف من أبناء العشائر السنية في الوسط العراقي، من تكوين قوة موازنة لحلفاء إيران من الشيعة، ووصلت الأمور إلى توازن يصعب خرقه، لمصلحة الطرفين.

في سوريا…لم تنجح كل مساعي الحل السياسي خلال السنوات الماضية بين عامي 2015 و2017، ويعود ذلك أساساً إلى أن نخبة النظام الضيقة المحسوبة على حاكم دمشق لم تكن مستعدة لأي تسويات تخسر فيها مواقع حساسة في الحكم. ولم تُرضِ المبادرات الإيرانية الغرب، أو حلفاءه الإقليميين، خاصة في الخليج، الذين وجدوا في اليمن ساحة مناسبة لاستنزاف إيران أيضاً، عبر دعم “الإرهابيين” ذاتهم، للمرة الثالثة في تاريخهم، فهم يعلمون، رغم خشيتهم من انقلاب هؤلاء عليهم، أنهم الأداة الأمثل لاستنزاف خصومهم. وبالفعل تحول اليمن إلى ساحة صراع بين أتباع “القاعدة”، وتنظيم “الدولة”، وبين الحوثيين حلفاء إيران.

خلال العام 2015، أطلقت روسيا عدداً من المبادرات الواهِنة، في محاولةٍ منها لإعادة تعزيز دورها الذي شعرت أنه سُلب إيرانياً، لكن تلك المبادرات ذهبت هباءاً، ومعها الوزن الروسي في المشهد السوري، الذي أصبح هامشياً للغاية.

في الخفاء، كان حاكم دمشق يمدّ خيوطاً قديمة مع الغرب، محاولاً أن يحصل منهم على إعادة تكليف لمواجهة “الإرهاب”، على أساس الاعتراف به حاكماً أوحد لسوريا. في الوقت نفسه، كان يحاول التملص بهدوء من السيطرة الإيرانية المتزايدة على مساحته المتبقية من سوريا.

في هذه الأثناء، كانت “جبهة النُصرة” قد التهمت معظم الفصائل المسلحة المحسوبة على المعارضة المعتدلة، ليبدأ مطلع العام 2016 بمواجهة بين “النُصرة”، وبين فصائل محسوبة على “الجبهة الإسلامية”، بعد انهيار كل خطوط التواصل، والتحالف السابق، بين الطرفين.

خلال العام 2016، وتحت الضغط، اضطر “جيش الإسلام” في غوطة دمشق للتوصل إلى تسويات وتفاهمات “محلية” مع حاكم دمشق، فكانت النتيجة عكسية، وإلتهم كلٌ من “النُصرة”، و”الدولة الإسلامية”، القاعدة الفاعلة من مقاتليه وأنصاره الأكثر تطرفاً، والأشد ميلاً للانتقام من حاكم دمشق جراء جرائمه المروعة في الريف.

رويداً رويداً، وحتى خريف العام 2016، كان ريف دمشق يزخر بالنشاط الميداني الفاعل للتنظيمين الأكبر وزناً في سوريا، “الدولة”، و”النُصرة”. وبعيد ذلك، وفي الأشهر الأخيرة من العام 2016، وبشكل دراماتيكي، إنهارت “النُصرة”، لصالح تنظيم “الدولة”، الذي إلتهم معظم قاعدتها القتالية، وعقولها المُدبرة، بعد انشقاق معظم مقاتلي النُصرة، ليبايعوا “الخليفة”، ومقتل معظم من أصرّ على ولائه للتنظيم السابق.

في مطلع العام 2017، شعرت طهران بثقل المواجهة مع تنظيم “الدولة”، في ريف دمشق، خاصة بعد سيطرة التنظيم على كامل القلمون، وعلى جيوب ثابتة داخل لبنان، شكلت صداعاً مُزمناً لحزب الله، وللجيش اللبناني.

تضاعف عدد مقاتلي تنظيم “الدولة”، وبات أكثر تنظيماً وكفاءةً في التخطيط والأداء، بفعل استيعابه للمقاتلين الفاعلين في معظم الفصائل المشتتة، سابقاً، على التراب السوري، الذين انتسبوا للتنظيم على أمل أن يروا على يديه نهاية حاكم دمشق، الذي يحظى بدعمٍ غربي – إيراني – روسي مشترك، في حرب “دينية – مذهبية” ضد “السُنة”، فيما كان الأمر بالنسبة للغرب استنزافاً مزمناً لكل الأطراف، خاصة لإيران. وكان هدف الغرب ترتيب تسوية مع طهران بالصورة التي يريدها الغرب تماماً، في سوريا، وفي جارها اللبناني، وفق قاعدة تصفية حزب الله كمجموعة مسلحة، وتحويله إلى حزب سياسي لا أكثر، وترتيب المشهد بسوريا وفق قاعدة المحاصصة الطائفية، على أن يكون لحاكم دمشق من يمثله في الحكم، دون أن يكون هو بذاته الحاكم.

لم يُرضِ العرض طهران، لكن حاكم دمشق وجده أفضل المتاح في نهاية المطاف، بعد أن استشعر أن قاعدته الموالية استُنزفت حتى النهاية، وبات في أي لحظة، عُرضةً لفقدانها تماماً.

قررت طهران، في ربيع العام 2017، قلب الطاولة على الجميع، فانسحبت بكل الميليشيات الموالية لها من دمشق، وبخبرائها، وبقياديها، وبفرق عسكرية كاملة موالية لحاكم دمشق سابقاً، انحازت لها خشيةً من مصير قاتم على يدِ مقاتلي تنظيم “الدولة”.

جاء انسحاب إيران بعد ترتيب سرّي مع تنظيم “الدولة”، أعلمت بموجبه “الخليفة” بمكان تواجد حاكم دمشق، والسبل التي يمكن أن يسلكها في حال حاول الهرب.

أرادت طهران أن تضرب عدة عصافير بحجر واحد: أن تتخلص من عبء حاكم دمشق الثقيل على كاهلها، وأن تخفف جزءاً من موجبات كراهية بعض “السُنة” تجاهها، بسبب دعمها له. وأن تترك غالبيتهم تحت وطأة استبداد “دولة الخلافة” الثقيل، ليكون ذلك الاستبداد عدوهم.

في الوقت نفسه، أرادت طهران أن تتخلص من عبء استنزافها في سوريا، وأن تركز على حماية أتباعها في لبنان. وأيضاً، أرادت طهران أن تقلب الطاولة على الغرب، وإسرائيل، عبر فتح الطريق أمام تنظيم “الدولة” ليصل إلى حدود إسرائيل في الجولان، دون أن يكون في ظهره من يهدده، بعد أن سيطر على دمشق، وبات من الممكن له أن يولّي وجهه شطر الصراع مع إسرائيل.

كما أرادت إيران أيضاً إعادة شحن الإيمان الغيبي لأنصارها من الشيعة في الداخل وفي الدول العربية، عبر تحقيق إحدى النبوءات المتواترة في “أدبيات شيعية”، وهي نحر “القائم بدمشق”. على أمل استعادة حماسة وولاء أنصارها الذين فتِرت قناعاتهم الغيبية بفعل الاستنزاف المستمر لهم جراء سياسات إيران الإقليمية.

***

حتى صيف العام 2017، كان المشهد استنزافاً مزدوجاً بين “متطرفي” السُنة والشيعة في سوريا، حسب التصوير الغربي، لكنه منذ ذلك التاريخ، تحول إلى استنزاف ثلاثي الأبعاد، بحيث باتت إسرائيل أحد المستنزفين فيه أيضاً. وبذلك حلّت “لعنة سوريا” على جميع من أراد مفاقمة أزمتها، وإفشال أية حلول سياسية أو عسكرية مبكرة ممكنة لإنهاء مأساة أهلها.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى