«الإخوان المسلمون» وهواجس البطريرك
جوزيف الياس
سمعتُ ما سمعتُ عبر موجاتِ الأثير، وقرأتُ ما قرأتُ، يوم 9 أيلول 2011، على صفحات الصحف؛ وفيه ما نُسِبَ من أقوال إلى البطريرك المارونيّ بشارة الراعي في أثناء زيارته لباريس. فأدهشني ما سمعتُ وما قرأتُ. فإن صحَّ ما قيلَ أو رُوِيَ، وكان النطق به بالحرف، فأنا أسمح لنفسي بأن أقول شيئًا في هذا هو أقرب إلى التذكير منه إلى الردّ. وبين يَديَّ صفحات من التاريخ السوريّ الحديث، لأنّني قارئ الصحافة السوريّة مقالةً وخبرًا، منذ نشأتها حتى سنة 1963. وقد عالجتُ الأحداث السياسيّة، في عهدَي الانتداب والاستقلال، على صفحات الجزء الثاني من كتابي «تطوّر الصحافة السوريّة في مئة عام» (دار النضال، بيروت 1983).
وقبل التذكير بما يجب التذكير به، أقول إنّ جماعة الإخوان المسلمين في سوريا هي تنظيم سياسيّ موجود على الأرض في عهدي الانتداب والاستقلال، وشريك في الحكم بعدَما نالَ، سنة 1945، ترخيصًا رسميًّا بالتأسيس. وهو، في لغة هذه الأيّام، جزء من مُكَوِّنات المجتمع السوريّ أَشِئنا أم أَبَينا. ثمّ لم يلبث هذا التنظيم أن أصدر، يوم 22 حزيران 1946، صحيفته السياسيّة الأولى التي حملت اسم «المنار». أمّا صاحب امتيازها فهو المراقب العامّ للإخوان المسلمين في سوريا الشيخ مصطفى السباعي. وحين يكون التنظيم هكذا، لا يجوز لنا أن نشبّهه بتنظيم سلفيّ تكفيريّ متعصِّب كتنظيم «القاعدة». وما جرى في محافظة نينوى العراقيّة بعامّة، وفي مدينة الموصل بخاصّة، يستحيل أن يجري مثله يومًا على أرض سورية، إلاّ إذا وصل تنظيم «القاعدة» أو ما يشبهه إلى حكم هذا البلد.
فبِمَ أُذكِّر، علَّ التذكير ينفع مَن رغبَ في استعادة صفحاتٍ من التاريخ؟
1- أوّل ما أُذكّر به مقالتي المطوَّلة التي نُشِرت في «النهار» (العدد 22156)، يوم 5 كانون الأوّل 2004، تحت عنوان «… ويومَ كانت بكركي مَحَجًّا للسياسيّين السوريّين!». وأهمُّ ما رويتُ في تلك المقالة أخبار زيارة وفد من السياسيّين السوريّين لبكركي، يوم 12 كانون الثاني 1936، وفي ما يشبه التظاهرة، تضامنًا مع البطريرك المارونيّ أنطون عريضة وعِرفانًا بفضله. والوفد الزائر هذا كان يمثِّل خمس مدن سوريّة هي «دمشق، حلب، حمص، حماه، إدلب». وقد جعلتُ تلك المقالة، مع مقالة أخرى، في ملفٍّ خاصّ أرسلتُ نُسَخًا منه إلى البطريرك صفير وإلى أصحاب السيادة المطارنة.
2- وأُذكّر بكتابات صحافيّ سوريّ كبير هو الصحافيّ الراحل نجيب الريّس صاحب جريدة «القبس» الدمشقيّة. فلَطالما قرأتُه مخاطبًا بكركي، مرّةً مادحًا، ومرّةً مُعاتبًا، وأُخرى مُطالبًا، وفي معظم الأحيان، لم تكن مقالاته لتخلو من حِدَّةٍ هي حِدَّة الصدق والصراحة. وربّما قرأته أحيانًا يفتتح مقالته بنداء «يا صاحب الغبطة!». لكنّ الريّس يبقى، في رأيي، الأوّل بين الصحافيّين السوريّين في مخاطبة لبنان واللبنانيّين بعامّة، وبكركي بخاصّة. وحين جُمِعت افتتاحيّاته في سلسلة «الأعمال المُختارة» التي صدرت، عام 1994، عن «رياض الريّس للكتب والنشر» في عَشَرَة مجلَّدات، كان نصيب لبنان منها مجلّدًا ضخمًا هو الجزء السابع الذي حمل عنوان «لبنان بلد المتناقضات» (كان لي شرف مراجعة هذه الأعمال وتعليق حواشيها والتقديم لتسعة أجزاء منها). فلو كان نجيب الريّس اليومَ حيًّا يُرزَق، لَهتفَ مُعاتبًا «يا صاحب الغبطة!».
3- وأُذكّر بمقالةٍ لأكاديميٍّ كبيرٍ كان نائبًا ثمّ وزيرًا غير مرّة، هو الدكتور منير العجلاني الذي حملت افتتاحيّته، ذات يوم، في جريدة «القبس» (العدد 708، 27 آذار 1936) عنوان «تَداعَينا إلى لبنانَ صارخين يا أبانا!». فلو كان الدكتور العجلاني اليومَ حيًّا يُرزَق، لَهتفَ مُعاتبًا «تَداعَينا إلى بكركي صارخين يا أبانا!».
4- وأُذكِّر بما يُروى عن تظاهرة جابَتْ، ذات يومٍ، شوارع دمشق، والقوم فيها يهتفون قائلين «لا إله إلاّ الله، البطرك عريضه حبيب الله». فلا شكَّ في أنَّ هذا الهتاف ـ إن صحّ خبره ـ كان عرفانًا بفضل عظيم للبطريرك المارونيّ.
5- وإنّي لأَذكر، في ما كنت أقرأ، أنّ المراقب العامّ للإخوان المسلمين في سورية، وصاحب امتياز جريدة «المنار» الدمشقيّة، وعضو الجمعيّة التأسيسيّة المُنتَخَبة في تشرين الثاني 1949، الشيخ مصطفى السباعي ترك في نفسي أثرًا طيّبًا. وحين سألتُ عنه، ذاتَ يوم، نقيب الصحافة السوريّة سابقًا وصاحب جريدة «الأيّام» الدمشقيّة نصوح بابيل، أفادني، في ما أذكر، أنّ خير صديق للشيخ مصطفى في الجمعيّة التأسيسيّة كان أحد النوّاب المسيحيّين، فرجَحَ لديَّ، في ما بعد، أنّ المقصود بذلك هو زميله على اللائحة الانتخابيّة (الجبهة الاشتراكية الإسلاميّة) النائب الدمشقيّ جورج شلهوب الذي أصبح وزيرًا للأشغال العامّة في حكومة خالد العظم. واسم الشيخ مصطفى السباعي مقرون بقضيّة أثارت جدلاً في سوريا هي مسألة دين الدولة. فحين كانت الجمعيّة التأسيسيّة تناقش موادّ الدستور، اقترح الشيخ مصطفى أن تنصّ إحدى الموادّ على أن يكون دين الدولة الإسلام، فاعترض النوّاب المسيحيّون، وبعض النوّاب المسلمين، ومعظم الصحافيّين. فردّ الشيّخ مصطفى، في 9 شباط 1950، ببيان طمأن فيه المسيحيّين والعَلمانيّين والقوميّين، قائلاً «كونوا مطمئنّين… سيبقى لنا مجلسنا ونوّابنا وقوانيننا وأنظمتنا… نحن لا نريد انقلابًا في قوانيننا الحاليّة، وإنّما نريد التقريب بينها وبين نظريّات الإسلام الموافقة لروح هذا العصر…». وفي اليوم التالي، علّق نجيب الريّس على بيان الشيخ مصطفى بافتتاحيّة نشرتها «القبس» تحت عنوان «لستم أنتم الدولة، ولستم وحدكم المسلمين» (الأعمال المختارة، مج 4، ص 379). وبعدَما طالت المناقشات واحتدمت المواقف، اختارت الجمعيّة التأسيسيّة، في أواخر نيسان 1950، لجنة من ثمانية أعضاء، وكلَّفَتها دراسة ما ستنصّ عليه المادّة المتعلّقة بدين الدولة. وفي أواخر تمّوز 1950، أقرَّت «لجنة الأحزاب المشتركة ولجنة الدستور» المادّة الثالثة من الدستور السوريّ، فجاءت في أربعة بنود، نصَّ أوّلها على أنّ «دين رئيس الجمهوريّة الإسلام»، والثاني على أنّ «الفقه الإسلاميّ المصدر الرئيسيّ للتشريع»، والثالث على أنّ «حرّيّة الاعتقاد مصونة، والدولة تحترم جميع الأديان السماويّة وتكفل القيام بجميع شعائرها …»؛ ونصّ البند الرابع والأخير على أنّ «الأحوال الشخصيّة للطوائف الدينيّة مصونة ومرعيّة». ولمّا كان أكرم الحوراني عضوًا في لجنة الثمانية، علّق في مذكّراته على أعمال اللجنة ومناقشاتها، وعلى ما نصَّت عليه المادّة الثالثة (مذكّرات أكرم الحوراني، مج 2، ص 1185، و1210). أمّا الشيخ مصطفى السباعي، وهو عضو اللجنة أيضًا، فقد تعرّض لحملة شعواء شنّها عليه رئيس رابطة العلماء أبو الخير الميداني في بيان أصدره يوم 28 تمّوز 1950. فردّ الشيخ مصطفى، في اليوم التالي، ببيانٍ معاكسٍ دافعَ فيه عن وجهة نظره، وأعربَ عن رضاه عمّا تضمّنته المادّة الثالثة، وختم بعبارة مهمّة جاء فيها: «إنّ هذه النصوص حقَّقت وحدة الصفّ، ودفعت عن الوطن كارثة انقسام طائفيٍّ لا يرضى به كلّ متديّنٍ عاقلٍ وكلُّ وطنيٍّ مخلصٍ».
وانطلاقًا من فرضيّة تغيّر الحكم في سوريا، ومآله إلى أهل السنّة، وتحالف هؤلاء مع إخوانهم سنّة لبنان، يسأل المرء أو يتساءل: أَلَم يكن الحكم في سورية للأكثرية السنّيّة طوال عهدَي الانتداب والاستقلال؟ أَوَلم يكن رئيس الجمهوريّة السوريّة في عهدَي الانتداب والاستقلال، وحتى سنة 1970، مسلمًا سنّيًّا؟ فهل تحالفَ أهل السنّة في سورية مع إخوانهم في لبنان؟ وكيف كان ذلك؟
وانطلاقًا أيضًا من فرضيّة وصول «الإخوان المسلمين» إلى السلطة في سورية، وما يُرتِّبُ ذلك من ثمن يدفعه المسيحيّون السوريّون «قتلاً أو تهجيرًا»، والشاهد على ذلك «صورة العراق أمام أعيننا»، يسأل المرء أو يتساءل: وهل «الإخوان المسلمون» وتنظيم «القاعدة» صِنوانِ أو في كفّة واحدة؟ أو هل «الإخوان المسلمون» تنظيم سلفيّ تكفيريّ متعصّب يُعمِل السيف في رقاب الناس أو يُحِلُّ ذبح النصارى؟ إنّ اضطهاد المسيحيّين العراقيّين وتهجيرهم تمَّ على أيدي جماعات أصوليّة تكفيريّة متطرّفة، تبدأ بأهل السنّة قبل غيرهم فتُكفِّر بعضهم، والحكم في العراق يقوم على ائتلافٍ شيعيّ (الأقوى) سُنِّيِّ مذهبيًّا، وائتلافٍ عربيٍّ كرديٍّ قوميًّا أو عِرقيًّا. فما من رابطٍ، وما من وجه شبهٍ بين احتمال وصول الإخوان المسلمين إلى السلطة في سورية وما جرى في العراق في السنين الأخيرة، والمسؤوليّة عنه تقعُ، أوّلاً وآخِرًا، على عاتق السلطة المركزيّة في بغداد. ولنتذكّر دومًا أنّ سوريا في ظلّ حكم الأكثريّة السنّيّة كانت دولة تُدعى «الجمهوريّة السوريّة»، وأنّ لبنان في ظلّ حكم الأكثريّة المارونيّة، أو «المارونيّة السياسيّة»، كان دولة تُدعى «الجمهوريّة اللبنانيّة». وقد كان بعض أهل السنّة في لبنان، زمن الانتداب الفرنسيّ، يشخصُ ببصره إلى نوع من الوحدة مع سوريا؛ ومع ذلك، بقيت العلاقات بين البلدين طبيعيّةً، أي كما يجب أن تكون بين دولتَيْن متجاورتَيْن. وليس هاشم الأتاسي أو شكري القوّتلي مَن زرع العملاء في لبنان، أو هرّبَ السلاح إلى لبنان، أو أنشأ في لبنان تنظيماتٍ مُسَلَّحةً، أو سَلَّحَ بعض الأحزاب اللبنانيّة. فالمسؤول عن هذا كلّه هو، في رأيي، ما دعاه لينين ذات يومٍ «مرض الطفولة اليساريّ». أمّا القطيعة الاقتصاديّة التي فُرِضت على لبنان في آذار 1950، فالجهة المسؤولة عنها، يومئذ، هي حكومة خالد العظم الذي كان أقرب السياسيّين السوريّين إلى الفكر الماركسيّ. أمّا اليوم فجديد المعادلة أنّ سنّة لبنان اعترفوا ببلدهم وطنًا نهائيًّا، وما عادوا يشخصون بأبصارهم إلى ما وراء حدود هذا الوطن الصغير.
فأن يكونَ الحكم، في بلدٍ ما، مستندًا إلى أكثريّة طائفةٍ معيَّنةٍ، أو قائمًا على أكثريّة حزب واحدٍ شيءٌ، وأن يقوم على سيطرة تنظيم سلفيّ تكفيريّ متعصّب كتنظيم «القاعدة» شيءٌ آخر. وهذا ما لم نشهده رسميًّا في بلدٍ إسلاميّ حتّى الآن.
فإذا كان الدكتور العجلاني قد هتفَ سنة 1936 «تَداعَينا إلى لبنان صارخين يا أبانا!»، فمن حقّ المسلم اللبنانيّ، المعترف بلبنان وطنًا نهائيًّا، أن يهتف اليوم «تَداعَينا إلى بكركي صارخين يا أبانا!».
إنّي لأَخشى أن يكون قد آنَ أوانُ أن تدفع الأمّة ثمن أخطاء ارتُكِبتْ قبل عقود، فيصحّ فينا مَثَلُ «الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون». وإنّي لأَسألُ اللهَ، سبحانَه وتعالى، أن يقبض روحي قبل أن أرى الأمّة مقبلةً على تجرُّع كأسٍ أين منها السمّ الزعاف؟ أَلا وهي كأس «الانتحار الجماعيّ».
كاتب وأكاديمي لبناني