آخر حلقات الإرهاب في سوريا: الاغتيال السياسي
عمر قدور
مع اغتيال المعارض السوري مشعل التمو يوم “جمعة دعم المجلس الوطني” أخذت عمليات الاغتيال منحى أكثر خطورة. فالضحية هذه المرة تحمل من الدلالات ما لا يغيب عن الأجهزة الأمنية، ولعل حساسية موقع القتيل هي التي أغرت باستهدافه أملاً بتحقيق رزمة من الأهداف في عملية نوعية واحدة. مشعل التمو هو الناطق باسم تنظيم “تيار المستقبل” الكردي، وهو أول زعيم لتنظيم معارض يتعرض للتصفية أثناء الانتفاضة السورية. وكان قد عُرف بمعارضته للنظام قبل الانتفاضة الحالية، فكان مشاركاً في “لجان إحياء المجتمع المدني” التي أُسست إبان ما سُمّي بربيع دمشق، وكان مشاركاً أيضاً في “إعلان دمشق للتغيير السلمي الديمقراطي”، وتوج نشاطه أخيراً بانضمامه إلى “المجلس الوطني” الذي أعلن عنه في استنبول، ولن يكون من باب المصادفة أن يُقتل في الجمعة المكرسة لإظهار الدعم الشعبي للمجلس. قبل اغتيال “التمو” طالت عمليات الاغتيال شخصيات غير معروفة على نطاق واسع، والبعض منها لم يُعرف عنه انخراطه في النشاط السياسي، مع ذلك لا يمكن وصف تلك العمليات بالعشوائية بما أنها هدفت إلى الترويع، وعلى الأخص استهدفت السلم الأهلي الذي لم يتزعزع إلى الحد المأمول من النظام الأمني. وفي إحدى المفارقات انقلب خطاب النظام منذ بداية أزمته من خطاب يفيض عن الوطن السوري ويدّعي القومية إلى خطاب يركز على عوامل الفرقة في المجتمع السوري، مع لهجة تحذير واضحة من تفعيل هذه العوامل لتأخذ شكل الاقتتال الطائفي، وهذا ما لم يفلح الضخ الإعلامي فيه حتى الآن. إن من شأن عمليات الاغتيال التي حدثت خلال الشهر الأخير أن تكمل رواية السلطة عن وجود عصابات مسلحة، بعد أن فشلت الرواية الهزيلة عن وجود إرهابيين سلفيين يقيمون إمارات إسلامية في مدن صغيرة، أو حتى في أحياء من بعض المدن!. لكن نقطة الضعف في هذه الرواية، وكما في كل مرة، هي أن العصابات المزعومة لم تنل حتى الآن من أية شخصية موالية للنظام، ما دفع الإعلام الرسمي إلى نقل خبر مقتل التمو بوصفه “معارضاً وطنياً” مقبولاً، بينما عُرف عن الراحل عدم مهادنته للنظام وهو الذي كان معتقلاً لسنوات، وعندما طلق سراحه أثناء الانتفاضة ظل على معارضته الجذرية للحكم.
لم يوفر النظام الأمني أسلوباً للترويع إلا واتبعه. فمنذ البداية تم استهداف المتظاهرين السلميين على يد الشبيحة، وقد بث النشطاء الكثير من الفيديوهات التي تبين بوضوح تام عمليات قتل المتظاهرين من قبل رجال الأمن والشبيحة، ومن المعلوم أن مسيرات التأييد التي أخرجها النظام لم يتعرض أفرادها لأي من حوادث العنف؛ رغم ذلك أصر النظام على اتهام العصابات الغامضة بقتل المتظاهرين، وكأن غاية العصابات إرهاب المعارضين فقط والحفاظ على سلامة أنصار النظام!. هذا النوع من الكذب المكشوف لا يعدّ غباء وصفاقة بقدر ما يندرج أيضاً في إطار الإرهاب الفظ. فقتل النشطاء وإرغام ذويهم على الظهور على شاشات التلفزيون الرسمي، أو انتزاع التصاريح الموثقة منهم بأن أبناءهم قُتلوا على يد عصابات مسلحة، هو نوع متعمد من القهر الذي يعمد إليه النظام بغية إيقاف الانتفاضة، أي أن الإصرار على الكذب لا يبتغي إقناع الموالين والحلفاء بصدق الرواية الرسمية كما قد يتبادر إلى الذهن، لأن الانقسام الحاصل بين خصوم النظام وحماته لم يعد يتوقف عند هذا النوع من التفاصيل، ولم يعد يعبأ بالتبعات الإنسانية أو الأخلاقية للعنف المفرط.
لقد بدا مستغرباً خلال الانتفاضة تسريب ذلك الكمّ من الفيديوهات التي تبرز تعرض المعتقلين، وحتى جثث القتلى، للتعذيب والتنكيل من قبل عناصر الأمن والشبيحة.وقد شاعت أخبار عن قيام بعض عناصر الأمن بتصوير أعمال التعذيب للمتاجرة بالفيديوهات، ومع أن هذا الافتراض صحيح جزئياً، ويؤشر إلى الحد الذي وصل إليه فساد السلطة، إلا أنه لا يكفي وحده لتبرير تسريب كافة الفيديوهات. الفرضية التي اكتسبت وجاهة هي أن النظام نفسه حرص على نشر بعض الفيديوهات الفظيعة عن قيامه بأعمال التعذيب، وإن بدا غريباً أن يعمد النظام إلى فضح الانتهاكات التي تدينه فإن تفسير ذلك نجده في الهاجس الأهم له وهو محاولة إرهاب المنتفضين وردعهم وإن تطلب الأمر الكشف عن أقصى ما تصله وحشية النظام الأمني. أمام معركة الوجود التي يخوضها، فسيكون من مصلحته أن يسفر عن أعتى أسلحته، بل سيكون من مصلحته أن يسفر عن وجهه الحقيقي دون اعتبار للمعركة الأخلاقية التي توقف النظام عن خوضها لأنها معركة خسرها منذ البداية.
في اغتيال القيادي مشعل التمو تتوضح الآليات التي يعمل وفقها النظام كلما أوغل في أزمته. فالنظام الذي حرص طوال أشهر على عدم استخدام العنف في المناطق الكردية عمد أخيراً إلى استفزاز الأكراد السوريين بعملية نوعية. من حيث الشكل هذه العملية تتعارض مع السياق المنطقي لمصلحته، لكن المصلحة الحقيقية للنظام باتت الآن في إشعال المناطق الكردية، لأن تصعيد زخم الانتفاضة هناك خاصة إن ترافق مع تطرف قومي لدى البعض، سيستغله النظام في إعادة بعث مقولته القديمة عن نوايا الانفصال لدى الأكراد، وبالتالي استفزاز الشعور القومي لدى العرب وتحقيق الغاية المثلى ببث الفرقة بين مكونات المجتمع السوري. إن قتل ستة آخرين أثناء تشييع “التمو” يؤكد أن عملية الاغتيال لا تتوقف عند شخصه فقط، وفي أحد جوانبها تتجاوز عملية الاغتيال الحدود السورية لتوجيه رسالة إلى الجار التركي مفادها أن بوسع النظام إشعال المناطق الكردية في سوريا، وبوسعه أيضاً قمعها وضبطها متى يشاء، وبما أن القضية الكردية تشكل هاجساً مهماً لدى الأتراك فإن التهديد بالورقة الكردية قد يؤتي بثماره، وإن تطلب هذا التضحية بأبناء الشعب السوري من الأكراد.
بالطبع ثمة رسالة موجهة إلى جميع المعارضين هي أن بوسع السلطة منذ الآن اغتيال الجميع واتهام “العصابات” بهذه الجرائم، وأنها ليست مضطرة دائماً إلى عمليات الاعتقال، خاصة بعد أن فاضت السجون السورية بآلاف المعتقلين. في الواقع لا يستبعد السوريون الاحتمالات الأسوأ، وقد تم التلويح بها فعلاً. فهناك تخوفات عميقة من اللجوء إلى تفجيرات كبيرة تطال الأبرياء. الآن ترد إلى الأذهان تلك الاتهامات التي وجهت إلى النظام ودأب على إنكارها، فخبرة النظام الأمني الداخلية والخارجية تُمتحن يومياً لتثبت للسوريين أن وجود النظام هو القيمة التي تعلو على أية قيمة أخرى. لكن التخوف من الأسوأ يقابله وعي متزايد بأن الكيان السوري مهدد بالمعنى الوجودي في حال استمرار النظام. هذا الوعي ليس مقصوراً على نخبة ثقافية، فطلاب إحدى المدارس في حي الميدان الدمشقي العريق، وهو حي لا يقطنه الأكراد، محوا الاسم القديم لمدرستهم وكتبوا بدلاً منه: “مدرسة الشهيد مشعل التمو”.
المستقبل