صفحات الناس

آسيويو الشقاء والتيه في غابات مقدونيا/ محمد رشّو

 

 

في سيارة الأجرة تمكنتُ من تدوين شعارات مكتوبة الى جانب تخطيطات غرافيكية في شارع باتيسيون، من قبيل:

Have sex hate sexism و Eat the rich fight the Nazis

حين وصلنا إلى محطة القطار، وسألنا عن الرحلة إلى تسالونيك، قالت موظفة التذاكر: Ok, but no seats

أمضينا الساعات الست جالسين على الأرض في مؤخرة المقطورة. كان الركّاب يبتسمون لنا وهم يفتحون باب التواليت، ويستأذنون بودّ، حاملين أكياس الـتشيبس وزجاجات المياه والكوكاكولا، لكي يعبروا بين أرجلنا عائدين من البوفيه.

كانت معنا امرأة، كأنها سلمى الحايك، وشابان يونانيان أحدهما لم يتوقف عن شحن آيباده طوال الوقت. كان يشاهد فيلماً كوميدياً، ويغيب بين وقت وآخر داخل التواليت. أما الآخر فجلس على قفص في داخله قطٌّ، وحين بدأ القط يموء أخرجه وظلّ يداعبه ويمسّد له ظهره حتى وصلنا.

شبيهة سلمى الحايك، يونانية سمراء، قفزت إلى القطار في اللحظات الأخيرة قبل أن ينطلق. كانت مخالِفة ودفعت ستة وعشرين أورو غرامةً، حين جاء المفتش. أخيراً قعدت بجانب الباب الذي ظلّ ينغلق وينفتح.

إنها سلمى الحايك، لكن بعينين أشدّ شراسة حين تضرب بقبضتيها على صدر دييغو ريفييرا، وحدّت مكانها الخاص بشنطة عليها رسومات عباد الشمس، حوّلتها لاحقاً وسادة. وكان نزولها في محطة بلاتي، قبل تسالونيك، علامة فأل حسن. فبلاتي، أي الحديقة، لم تكن سوى الجزيرة غير المأهولة التي كاد قاربنا قبل شهر ونصف الشهر أن يغرق قربها، حين توقف المحرك بين يدي المحشاش التونسي، في الثانية بعد منتصف الليل.

مرحبا بك في مقدونيا

النفر والريبر والنقطة، ثلاث مفردات يستعملها الأفغان والباكستانيون والعرب والأكراد والأفارقة في عالم تهريب البشر.

يستقل الأنفارُ الباص من كاراج تسالونيك، بإيعازات من مجهولين يتحدثون الإنكليزية. يسير الباص نحو بلدة بوليكاسترو على حدود مقدونيا، حيث يتسلمهم الريبر (الدليل) قرب البساتين غرب البلدة، ويبدأون المشي خلفه على سكة القطار. يمشون/ مشينا أكثر من أربع ساعات وصولاً إلى النقطة المحددة.

كي تكون مستعداً، لا بدّ من أن ترتدي خفّاً بنعل سميك، وتتزود كيلوغرامين من التمر، وما لا يقل عن ثلاث زجاجات ماء كبيرة في شنطة تُحمل على الظهر، وألاّ تهمل جلب لحاف- منامة، للنوم فيه، وأكياس بلاستيكية كبيرة للوقاية من المطر، وألا تُبقي معك أكثر من مئتي أورو، وأن تتوكل على الرب، أو تتبع قلبك. سمِّ ذلك ما شئت أيضاً.

عند سكة القطار، بينما كنا ننتظر قدوم آخرين للانضمام إلينا، أتى القطار فجأة. بلمح البصر قفزنا إلى دغل، فطارت شنطة أحدنا في الهواء. في مسيرنا “الحنجلة” عرفنا أن الطريق لن يكون كما توقعنا.

أثناء الساعات الأربع الأولى أثبت كل واحد لنفسه وللريبر، أنه يستطيع المشي، وأنه يتحمل زوغان بصره على الجسر الخشبي، وآلام باطن القدم والمفاصل والظهر، وأنه ليس وحده في الطريق. كثُرٌ تركوا أحذيتهم، أو قمصانهم، أو علب سردين هنا وهناك. صرنا أقرب الى أمّنا الطبيعة، ويمكننا أن نعتمد عليها، فنأكل التين والتوت. يقول كردي لأفغاني: “خوده حافز”، فيبتسم الأفغاني، ويظهر أنه يستطيع أن يغنّي بالكردية، ويقول “أز جه ته حزدكم”، من دون أن يخطئ. بعد ثلاث ساعات تقريباً من المشي صرنا تحت جسر عال، فوقنا. بعد استراحة الطعام، تلقينا رسالة من شركة الهواتف المحمولة بمقدونيا: “مرحباً بك في مقدونيا، نأمل بقوة أن تزور متحف الكفاح المقدوني، والمنزل التذكاري للأم تيريزا في سكوبي، والمتحف الذي على الماء في أوهريد”.

كنا حقاً نريد أن نكون عند حسن ظن المقدونيين لنزور منزل الأم تيريزا والمتحف الذي على الماء. لكن ماذا نقول للكلاب التي كانت تعوي عند حقول الذرة، وماذا نقول لسيارة البوليس التي ظللنا نركض ربع ساعة حتى تخلصنا منها بمناورة؟ بل ماذا نقول لريبرنا الجديد الذي تسلّمنا في جبال مقدونيا، ولرحيم العظيم الذي كان يجلس على صخرة كمعلّم تاكواندو في أفلام بروسلي، كزعيم روحي في جبال تورا بورا؟ تكون الصورة أوضح في حال تشبيهه بكلينت إيستوود في فيلم “من أجل حفنة من الدولارات”، ولكن من دون قبعة وسيكارة لا تنطفئ.

اللطف العسكري

قبل أسبوع سبقتنا مجموعة أخرى. كلما اتصلنا بأحدهم، كاميران يقول إنهم ينتظرون في النقطة، لا يفعلون شيئاً منذ يومين سوى أكل الذرة.

تبعنا رحيم عبر الحقول. كنا ستة شباب أكراد ونحو عشرين أفغانياً نصفهم نساء وأطفال وأحدهم لم يتجاوز السنتين. كان ثمة أب يحمل ابنه حول رقبته، أو يعلّقه بحمّالة زرقاء على ظهره، ثم دخلنا غابة ومشينا ساعة تماماً لنصل مع الغروب إلى وادٍ عريض تخنقه الأشجار الكبيرة. فوجئنا بوجود ما لا يقل عن مئة نفر في البقعة العميقة القذرة القليلة الهواء. قال بعضم إنهم أمضوا ليلتين هنا. لذلك كنا سعداء حين تحركنا معهم بعد ثلاث ساعات في أربعة فصائل، لكل فصيل ريبره ، تصطفّ في رتل واحد طويل يقوده رحيم. من تلك الحظة صرنا نُنادى بـ Friend أو brother الكلمتين المفعمتين باللطف والحميمية الخادعة، من دون أن تخفيا الطابع العسكري الصارم الذي يستوجب الانضباط التام بالأوامر، بالنبرة الشبحية التي تُنطَق بها عبارة Go, do not speak, stop, quick المتوائمة مع المسير الليلي.

في مقههي أخرنون وفيكتوريا بأثينا تسلّمنا السماسرة الذين ربطونا بكذبة تطول، تمتد، تُستنسخ، وتُعاد في كل مكان تصل إليه. لذلك، حين قال رحيم إن سيارات ستقلّنا حتى سكوبي، صدّقنا ولم نصدّق، ولم نفعل إلا ما نقدر عليه: أن نمشي.

البحّة الشيطانية

في المسير الليلي يتوافر كل ما يمكن أن تصنع منه فيلم أكشن أو مغامرات: النبض، بم بم بم، في الأذن، حتى لتظنّ أن القلب قد غيّر مكانه. لا ضوء، لا صوت ينبغي أن يصدر. الموبايلات ينبغي أن تُغلق. التزحلق من منحدر عال. أن تسرع الخطى حتى لا يعضك كلب من كلاب البلدات. ألا تنحني لتربط حذاءك مخافة أن تفقد أثر القافلة الذي لا يُرى في الظلام لأكثر من أربعة أمتار. القفز فوق جدول ماء ثم السقوط فيه. لسعات من حشرات غير مرئية. أن يقع أحدٌ بجانبك في حفرة، فتتردد بين أن تمدّ اليد إليه وترافقه – هذا إذا استطاع أن يقوم ولم يكن الهلاك خاتمته- أو أن تدعه في حفرته وتمضي، فلا أحد ربما يستدير إلى الخلف، حين تقع أنتَ في حفرة.

كنا نسرع. مشينا أكثر من ثماني ساعات لنمضي ليلتنا الأولى في العراء على ضفة جدول صغير في غابات مقدونيا، ولم نرَ سيارة. طوال المسير، كلّما تخلّف أحدهم أو تباطأ، كانت بحّة رحيم الشيطانية أو أحد مساعديه توقظه وبالنبرة الشبحية نفسها: Go,Go,Go

خلال دقائق غرق ما يقارب من مئة نفر في النوم. كنا نرى أنفسنا محظوظين لأننا غادرنا النقطة من دون تأخر، ولم نمكث يومين أو ثلاثة حتى نفد منا الزاد، ولم يبق لنا- كما حصل لكاميران وجماعته- سوى أن نقضم أكواز الذرة.

مئتا ظلٍّ مئتا لا أحد

تستيقظ لترى الضوء ساحراً، سحر هبوط آدم غير المشروط على الأرض متخففاً من ذكريات الجنّة. لكن سرعان ما يزول السحر حين ترى نيجيرياً على بعد خطوات يُخرج قضيبه ليتبول في جدول الماء الذي يتزود منه آخر هناك على بعد عشر أمتار، بعدما أخذ الماء يقلّ، قبل أن ينضب تماماً مع تزايد إفرازات الثقل في البدن. لا فرشاة أسنان، لا مزيل عرق، لا لصقات جروح وخدوش. حتى حين تتغوط لا حجارة ولا مناديل كافية ولا ماء لتمنع الحكة، لاحقاً، في المؤخرة وبين الفخذين.

قال الذين يتقربون من رحيم إن تبدلاً قد يطرأ، وإننا قد ننتقل بالقطار في الليل، لكن علينا أن نمشي ساعة فقط فبل أن نتمركز قرب السكة.

هذه المرة مشينا ساعتين حتى وصلنا إلى مكان مخفي بين حقول العنب وطرف غابة. أمضينا النهار ليقودنا ريبر آخر تستطيع أن تطلق عليه أياً من الأسماء، لكن هذا لن يغيّر في كونه لصاً ومحتالاً ووقحاً. لن يتردد في أن يهدد أو يستعمل قبضته إذا أصدر أحدٌ صوتاً أثناء المسير. جلس مع كل جماعة على انفراد ليقنعها بأن ثمة سيارات أجرة نستطيع أن نستأجرها وصولاً الى سكوبي، أو حتى حدود صربيا، مقابل 350 أورو للنفر. طبعاً هذا خارج الاتفاق المبرم مع السماسرة في أثينا. أظن أن ريبرنا كان يريد أن يتودد إلى الصومالية اللبقة، ذات الشعر المميّش، المتقنة للعربية والإنكليزية واليونانية، بعد عملها سابقاً في بيروت مدة سنتين، حملت في نهايتهما إبنها وأبحرت إلى أثينا برفقة زوجها. ذكاؤها جعلها تجادل ريبر رحلتنا: في الماء العكر، في التمر القليل، وفي الكذب الذي يمتهنه أمثاله، على نحو لا يبقي فرقاً بين النطق كلمة أو ضرطة.

أظن أن الحنث بالوعود كان يطال كل شيء. فنحن لن نمشي حتى النمسا أكثر من أربع ساعات، فمشينا أكثر من أربع عشرة ساعة في اليوم الأول، ولا نزال في مقدونيا، فأين نحن من صربيا والمجر والنمسا؟ حسب الاتفاق أيضاً، أن مجموعتنا لن تتجاوز عشرين نفراً، لكن في الليل، حين كنا ننتظر بجانب سكة القطار، انضم إلينا رتل طويل آخر فأمسينا لا أقل من مئتي نفر، أو مئتي ظلٍّ، مئتي لا أحد، مئتي لا شيء. انتظرنا مقرفصين وانتظرنا منبطحين ثم مرّ القطار سريعاً من دون أن يتوقف.

مرّ القطار وترك لنا الخيبة. نظرنا حولنا فلم نجد أثراً لدليل. أمضينا ليلتنا في العراء، جانب السكة. وبينما كانت الأشجار تتدفق سحراً في الصباح، هنا، حيث لا أشجار تصدّ الريح، كان البرد، البرد بلا رحمة، فتظل ترتجف حتى الفجر، لتختبر سحراً آخر، هذه المرة. كان سحراً، لكن أسود تماماً.

في سيارة البوليس

على خط سكة القطار بين بوليكاسترو حتى الجسر الإسمنتي العالي الذي أرى بعده العلم المقدوني بالبرتقالي والأصفر، كنتُ أمشي بين أفراد مجموعتنا، بعد الريبر، بخطوات، أو أتأخر قليلاً. في اليوم الثالث، وبفعل قانون يشبه قانون الإصطفاء الدارويني، وجدتني في آخر الرتل بين الأفغان والصوماليين، ولم أعد أرى ورائي سوى السيدة الدرعاوية التي تجرّ طفلتها ذات السنوات السبع، والتوأم الذكر ذي الأربع سنوات. كانت هناك أيضاً الأفغانية التي كانت تدوخ في الطريق، والصومالية التي كانت تتوكأ على عصا أو تمسك بيد زوجها سليمان الصومالي من طرف الأب، والتنزاني من طرف الأم، ولم أتأكد إن كانت حاملاً في الأشهر الأولى أم أنها أجرت عملية جراحية.

في الخامسة فجراً عاد الباكستانيون، فبربروا بالأوردية، ثمّ قادونا مرةً أخرى في الجبال شرقاً. فهمنا أنه لم يبق أملٌ في جلب سيارات، وأننا سنكمل مشياً أسبوعاً وأكثر حتى سكوبي، بل حتى حدود صربيا، وأنهم لن يكفّوا عن ابتزازنا في الأكل والماء.

بعد ساعتين تقريباً من المشي، استقررنا بين أشجار السنديان. كنا منهكين تماماً. المتقشفون كان لديهم نصف زجاجة ماء وحبّات معدودة من التمر. نمنا كيفما اتفق، وتقصّدنا الأماكن التي تصلها الشمس لنتخلص من قسوة برد البارحة، ثم استيقظنا بعد ساعتين وغيّرنا محلّنا إلى ظل السنديان. واستيقظنا بعد الظهر، ولم يكن أحدنا يملك الهمّة ليغيّر مكانه، بالرغم من وصول ضوء الشمس إلى قدميه أو بطنه. وحين جاء الأفغاني الذي كان خالد يلفّ له السجائر، ردّه خالد هذه المرة خائباً. أما عليّ فمدّ رجله بيننا، حدّ بها مكانه، ثم فتح علبة التون الأخيرة لديه. قبل أن يرمي غطاء العلبة. بالكاد قال تفضلوا، كأنه لا يقصد ذلك.

حينما أعلن أحدهم في العصر أنه يعرف الطريق إلى قرية فيها كنيسة، قمنا رويداً رويداً. كان رتلٌ آخر قد تشكّل، وهبطنا نحو الأسفل، وكنا نلتفت الى الخلف مخافة أن ينتقم منا الباكستانيون الذين كانوا قد اختفوا، سوى ريبرنا القديم الذي ظلّ في الأعلى وحوله الأفغان.

خلال ساعة كنا في ساحة بلدة في انتظار سيارة رجال البوليس الذين اتصلنا بهم مخافة المافيا التي تجول في تلك المنطقة. جلب لنا المقدونيون زجاجات المياه والبيبسي، وكانت تلك المرة الأولى نرى فيها أحداً من أهل البلاد.

جاءت سيارة البوليس، صعدنا واحداً واحداً إلى قفصها الخلفي، فيما الصومالية مع زوجها جلسا في مقعدين متجاورين خلف السائق. كانت السيارة تمضي بهدوء في الليل. سليمان يمسك رأسه بين يديه ويضغط بإبهاميه على جذر الأنف وأول الحاجبين، فيما المرأة كانت تمسّد بطنها وتنقر عليه بسبابتها نقراً خفيفاً، وهي تنظر إلى الخارج بعينيها الحزينتين. لم أعد أهتم بأن أخمّن إن كانت قد أجرت عمليةً جراحية أو أنها حامل ٌفي أشهرها الأولى.

النهار

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى