آلة القتل تتنقل في سوريا و الشعب يثور …
هدى زين
“لن ينتفض الشعب السوري و لن تحدث الاحتجاجات في سوريا كما هو الحال في مصر و تونس لأنه لاوجود لفجوة حقيقية بين الشعب والسلطة الحاكمة” …. هكذا صرّح الرئيس السوري بشار الأسد حينما سئل عن رأيه عن احتمال انتقال المزاج الثوري إلى سوريا بعد ثورتي مصر و تونس … لم يكن يتصور الرئيس الأسد أن تولد انتفاضة حقيقية في سوريا تهدد وجوده و كيانه السياسي كما هو الحال عليه اليوم … ليس لأنه يرى فعلا أن العلاقة بين الشعب السوري و نظامه الحاكم لاتعاني من تأزمات و سرطانات عمرها عقود من الزمن … عقود من الظلم و الاستبداد و القهر … و ليس لأنه لايعلم أن حرية المواطن منتهكة و معتقلة على مدى سنوات حكم والده فيها و هاهو اليوم يعيد بحكمه إلى ذاكرتنا صورة حاكم سبقه علّمنا جيدا مفاهيم الخوف و الانتهاك … ليس لأنه لايعلم كل هذا و إنما لأن نظام حكمه يرتكز في طبيعته على شبه استحالة الاحتجاج و المعارضة لأي مواطن سوري و هذا من أهم المنجزات التي حققها النظام الشمولي الأسدي الذي لايسمح بأي شكل من أشكال التعبير عن الذات سياسيا سواء كانت هذه الذات ذات جماعية أو ذات فردية …
لقد جعل الأب حافظ الأسد من النظام الحاكم أخطبوطا سياسيا ترتبط كل ذراع فيه ارتباطا عضويا بحافظ الأسد نفسه … الذراع الاقتصادية عبر السيطرة على الموارد الاقتصادية و احتكارها لتأمين التحكم في مصير الناس و الشعب و الذراع الأمنية التي خلقت عقلا أمنيا يفكر و يخطط و ينفذ بطريقة دوغمائية تعتمد على منهجية السحق … سحق كل من تسمح له انسانيته بممارسة حق ال “لا” مهما كان وزن ال “لا” ضئيلا وبذلك عمل العقل الأمني على نفي مصطلح النفي في عقل المواطن السوري … و لم تكن الذراع القضائية أقل أهمية من غيرها و التي لم تكن يوما ما مستقلة حينما يتعلق الأمر بحريات الناس و خاصة منها السياسية و لا الذراع الاعلامية التي لم تكن أكثر و لاأقل من أداة ايديولوجية يستفز فيها النظام وعي المواطن باستمرار عبر اقحامها بشكل سافر بوعي المواطن السوري و اجباره على تلقيها و تقبلها عنوة …
احتكار موارد الاقتصاد و القرار السياسي و سيطرة العقلية الأمنية على كل نشاط مشتبه فيه إن كان نشاطا ميدانيا أوفكريا أولغويا الخ و رمي الغطاء الايديولوجي على هذه الاحتكارات المختلفة ليس اكتشافا جديدا اخترعه الرئيس الأب حافظ الأسد … فهذا هو الطريق الكلاسيكي لكل الأنظمة الاستبدادية المتصلبة عبر التاريخ … و لكن حافظ الأسد استطاع أن يحصّن هذا الصرح الاستبدادي بطريقة أسدية خالصة تحافظ على طابعه الشمولي وتحميه من التصدعات و الاختراقات لفترة طويلة من الزمن من خلال عقلنة ممارسة السلطة و الحكم … هذه العقلنة التي تقوم بجوهرها على الحسابات الدقيقة و التخطيط الممنهج لتحقيق النجاح دائما بالوصول إلى الأهداف السياسية المرجوة في نهاية المطاف … عقلنة الحكم والتسلط السياسي تتطلب الدقة و التقدير و انتقائية توظيفية تربط مثلا علاقات عسكرية أمنية بعناصر طائفية أو تخضع مجالات قضائية لقرارات سياسية أو ماشابه ذلك بحيث يكون كل متحرك أو ساكن في المجتمع مرتبط بارادة رأس مدبر يدير كل شيئ كما يشاء و لاأحد يستطيع أن يشاء شيئا اخر سواه و هو رأس حافظ الأسد الذي تم في عهده انتقاء العامل الطائفي كحلقة اجتماعية تؤمن له التبعية المؤكدة عبر الولاء الطائفي و تم ربطها بشكل مباشر بمراكز العنف من خلال الأجهزة الأمنية المتعددة التي تحتكر سلطة الانتهاك و الترويع و بأهم المناصب العسكرية التي تحمي المؤسسة العسكرية من الخروج عن سلطة الأجهزة الأمنية … و هذا الارتباط العضوي المحصّن مابين جزء صغير من الطائفة و بين مراكز سلطة العنف ممثلة بالسلاح و السجون و التنكيل و الترهيب يشكل أحد أقوى حلقات الربط السياسي التي انتهجها هذا النظام الحديدي و حمى فيها بقاءه واستمراريته.
الانجاز الحقيقي و الفريد من نوعه الذي استطاعت أن تحققه هذه الخلطة من ربط مجموعة حلقات اجتماعية اقتصادية ايديولوجية و سياسية مع بعضها البعض كان خلق حالة الخوف اللاانسانية في وعي كل مواطن سوري بلغت حدود اللاوعي و لامست قاع الذات الداخلية لكل انسان ينتمي إلى هذا المجتمع لدرجة لم يعد من الممكن فيها أن يغوص الخوف في أعماق الفرد لأبعد مماوصل إليه … لقد استطاع رأس الاخطبوط حافظ الأسد أن يجعل الناس تهمس في بيوتها حينما يتجرأ أحدهم أن يتكلم عن النظام في بيته أو في غرفة نومه … لقد قامت الأجهزة الأمنية في سوريا في عهد حافظ الأسد بوظيفتها المنوطة بها على أكمل وجه فكانت كأي مصنع في أي دولة رأسمالية لاتتوقف عن الانتاج … إنتاج بضاعة الخوف و الرعب من النظام و من المخبرين ومن كل شخص … لهذا لم يكن صدفة أبدا أن إحدى أولى الهتافات التي رددها الشعب السوري حينما خرج الى الشوارع : بعد اليوم مافي خوف …
لقد تصلب و تكلس هذا الخوف في أعماق الناس و وجد له قرارا في اللاوعي لدى أغلب المواطنين السوريين حتى اعتقد كثير من الناس و قبلهم النظام بأن السقوط في هذا البلد هو فقط سقوط المعارضين بغض النظر عن اتجاهاتهم و طوائفهم.
اعتقد بشار الأسد إذاً أنه يصعب تكرار ماحدث في مصر وتونس في حالة سوريا لأن الأمر بالنسبة له مختلف … و الأمر يختلف في حالة سوريا بالفعل و لكنه يختلف في الخصوصية و ليس في العموم … يختلف مثلا في طريقة الاحتجاج ضد النظام التي اعتمدت على أشكال معينة من التظاهر فانتشرت المظاهرات الليلية و المظاهرات الطيارة و تصوير المتظاهرين من الخلف و الاعتصامات المنزلية و التظاهر مع تغطية الوجوه و توزيع المظاهرة الواحدة أحيانا على أزقة صغيرة مختلفة للمدينة وخروج مظاهرات نسائية متعددة الخ كطرق خلاقة حسب الامكانيات المتوفرة لحماية النفس من بطش الأمن و الجيش … إضافة إلى حركة التضامن الشعبية المؤثرة في كل المدن و القرى السورية مع بعضها البعض … حالة سوريا تختلف أيضا في خصوصية القمع و البطش و القتل التي استخدمها نظام لم يتردد منذ لحظة الاحتجاجات الأولى عن استخدام لغة الرصاص و لغة التعذيب الوحشي و الاعتقال التعسفي و الاستهتار الكامل المفزع بقيمة الانسان عبر منهج الإذلال المقصود للمتظاهرين و المعتقلين ظنا منه أن التدرج في استخدام العنف سيؤدي إلى ماآلت إليه الأمور في تونس و مصر… صحيح أن بشار الأسد و أخوه ماهر و الأسرة الحاكمة و العقل الأمني المدبر مازالوا يمسكون في هذه اللحظة بزمام الفعل السلطوي و الأمني في سوريا و لكنهم لم و لن يستطيعوا أبدا أن يتحكموا بمسار الفعل التاريخي الذي هو في طور التشكيل و النمو … فالاستبداد كشكل من أشكال السلطة ينشأ في لحظة تاريخية معينة و يستمر لمرحلة تاريخية تطول أو تقصر تكونه ظروف اجتماعية اقتصادية و سياسية موضوعية في مجتمع ما و لكنه لايمكن له إلا أن ينتج أسباب زواله لأن إشكاليات وتبعات هذا الاستبداد ممثلة بالمشاكل الاقتصادية و التناقضات الاجتماعية و كبت الحريات تنشأ و تتطورمع نشوئه وتطوره حتى تصل إلى حد التأزم و بالتالي سيخلق هذا الاستبداد من داخله عوامل نفيه التي تظهر باللحظة التاريخية المناسبة و تعبر عن نفسها بالفعل الثوري العظيم و المؤلم الذي نشهده اليوم في سوريا … فالتاريخ الذي لم يقرأه بشار الأسد ولا طغمته السياسية الحاكمة معه له قوانينه و هو في حركة دائمة و صيرورة مستمرة لاتوقفها دبابات جيش و لارصاصات قتلة و لافجور سياسيين … و هذا مالم يستطع أي حكم استبدادي التحكم به عبر التاريخ مهما طال أمده … فبشار وماهر و حثالة الفريق السياسي الذي يساند هذا النظام قادرون على إبطاء حركة التغيير في لحظة ما عبر المزيد من القتل و الترويع و الفتك كما هو جاري اليوم و لكنهم أبدا لن يستطيعوا أن يوقفوا عجلة التاريخ و مسار التغيير الثوري لأن هذه العجلة أكبر منهم ومن وسائلهم و لأن التغيير الثوري بات مطلبا و حاجة موضوعية تحمل القوى الثورية أي الشعب السوري على عاتقها تلبيتها و تحقيقها المحتم …
فالانتفاضات و الثورات في تاريخ الشعوب لاتحدث بعد أول أزمة تصيب البلاد و لاتتفجر من الفراغ … إنها تنطلق بعفوية في البدء بعد طريق معاناة طويل من القهر و الظلم و الكبت … و تحتاج إلى طاقات شعبية هائلة و استعداد لاتردد فيه للتضحية بالأرواح ووعي لضرورة التغيير و عدم إمكانية استمرار الوضع على ماهو عليه … الانتفاضات تحدث بعد تراكم الأزمات و التناقضات في بنى و علاقات المجتمع عامة لتتحول إلى طفرة نوعية تدخل فيها منعطفا تاريخيا جديدا في لحظة تاريخية غير محسوب لها تلتقط فيها سببا مباشرا حتى تتفجر كبركان من جوف المجتمع و من داخل كل فرد فيه … هذا السبب المباشر في سوريا كان سجن و تعذيب طلاب المدارس في درعا لكتابتهم أقوى جملة تعلمناها في هذا الزمن: الشعب يريد اسقاط النظام …
أمام ضرورة التغيير هذه التي لم تأت بالصدفة و لا بمؤامرة و لا بمجرد التأثر بثورات عظيمة مجاورة أخرى لن تقدردبابات الجيش و لارصاصات الأمن ولا منهجة الإذلال و التركيع من قبل الشبيحة الذين نسوا إنسانيتهم و إنسانية الآخرين لن تقدر أن تقف في وجه الطبيعة … طبيعة ضرورة تحول التناقضات و الأزمات في المجتمع إلى ثورات … و لم يعد هناك جدوى من إصلاح لانصدق منه إلا أصوات الرصاص و أصوات المعتقلين في السجون و الجرحى في البيوت… لأن الشعب ومعه ابراهيم قاشوش قال كلمته: سورية بدا حرية … لأن الشعب و بكل بساطة أصبح يريد … نعم الشعب أصبح يريد … إنه يريد أن يغير منظومة الحكم السياسية بهياكلها و شكلها و أشخاصها … وإن كان من يرى أن في هذا الحق مؤامرة فلتكن مؤامرة الشعب على النظام فهي لن تكون إلا شرعية لأن الشعب وحده من يحق له أن يختار من يحكمه… فكيف يتصور هذا النظام نفسه حاكما بعد أن تحول إلى آلة قتل يومية متنقلة تنتهك فيها كل شيء إنساني حتى الحناجر و الأسنان و الأظافر و الأعضاء التناسلية بعد القتل …
إذاً فسوريا اليوم في مرحلة صراع الوجود الدامي التي يحارب فيها نظام قاتل شعبه… كل طرف يستخدم عناصر قوته … فالنظام السوري يعطي كل يوم دروسا لكل الأنظمة الفاشية في العالم في استخدام عناصر قوته المنهجية المضرجة بالدماء و الشعب السوري العظيم يعطي كل الشعوب التي تتطلع للحرية أمثلة في إظهار مواطن قوته عبر منهج السلمية و التوحد و الاستمرارية و البدء في تنظيم العمل الثوري من خلال تشكيل اللجان التنسيقية في كل مدينة و قرية ثائرة …
أما المعارضة السورية في الداخل و الخارج فرغم نشاطها الدؤوب عليها أن تدرك مسؤوليتها التاريخية أمام هذا الشعب الثائر و التي لم تحققها بعد و هي بأن تجتمع كل أطياف المعارضة بدون استبعاد أو نسيان أي جهة و تتحمّل المسؤولية الكبيرة المنوطة بها بصدق و بشفافية كاملة و بالانفتاح على لغة و فكر و نهج المعارضات الأخرى حتى تصبح قادرة على تشكيل برنامج موجه للشعب السوري في الداخل أو إصدار بيان مبادئ عامة تعلن فيه بناء مشروع سوريا مدنية علمانية مرجعها القانون و القانون فقط و الذي تسود فيه حرية ممارسة الدين للجميع و ذلك لطمأنة جميع فئات الشعب بتوجهاته وانتماءاته المختلفة و يجب أن يخص هذا البرنامج أو البيان الطائفة العلوية بمادة خاصة بها تؤكد لها أن سوريا المستقبل ليست سوريا طائفية و أن الطائفة العلوية ليست حافظ الأسد و لاأولاده ولا شبيحته و أن العلويين و بقية الأقليات سيكونون متساوين بكل الحقوق مع الاخرين بدون منّة لأن هذا حق كامل لهم و يجب أن يضم هذا البرنامج بنودا محددة و ليس فقط كلاما عاما عن الحرية يمكن التلاعب فيه فيما بعد و يجب أن يكون ملزما كمبادئ حقوق عامة لما بعد حكم الأسد… فكما طوّر الشعب السوري نفسه في قلب الحدث الثوري و بدأ ينظم احتجاجاته و تحركاته كذلك يجب أن تطور المعارضة في الخارج و الداخل فعالياتها بأخذ خطوة تختلف نوعيا عن ماسبقها بالدعوة لجميع تيارات المعارضة الدينية و القومية و العلمانية و اليسارية و الكردية الخ و بلورة برنامج بناء دولة حديثة يتم فيها وضع بنود أولية مثل تغيير الدستور و تداول السلطة و سيادة قانون يتساوى فيه الجميع في الحقوق و الواجبات بغض النظر عن الأغلبية و الأقلية و يكون فيه بند واضح يؤكد على حماية حقوق المرأة و تطويرها التي لم تكن هي الأسوأ في عهد الأسد لأن أحد أهم معايير نجاح نظام جديد قادم هو وضع المرأة في المجتمع … نعم إن المعارضة الآن مطالبة بتحمل مسؤوليتها من خلال هكذا خطوة نوعية ضرورية لدعم حركة الشارع … فالجميع الشعب في الشارع و المعارضة الممثلة في الأحزاب أو الشخصيات البارزة في الداخل و الخارج عليها أن تنتهز نشوء وعي جديد أفرزته الثورة بتصعيد فعالياتها حتى تنتقل إلى شكل نضال جديد تتطلبه مسيرة التغيير … فالنضال يصنع الانسان و نضال الشعب السوري سيصنع انسانا جديدا فينا و النصر لثورة شعب أراد الحياة و لابد أن ترضخ له قوى النظام الحاكم الجائرة و كل دول العالم المتواطئة.
شكرا للدكتورة هدى … فالمقالة رائعة تحليلا واسلوبا … وأكثر ما أعجبني فيها رصد الكاتبة لحركة الانفعالات الداخلية للانسان السوري والتي تكونت عبر تراكم الظلم والقمع والاستبداد عبر عقود ، هذه التراكمات – مع عوامل أخرى تتعلق بالحالة الثقافية والتاريخية للمجتمع السوري – هي التي أعطت المتظاهر السوري هذه الطاقة الهائلة غير المتوقعة والتي سمحت له بالاستمرار حتى الآن في مقاومة آلة القتل والصمود أمامها بهذه الطريقة الملحمية …
ولتسمح لي الدكتورة باضافة .. فإضافة إلى احتكار الأسد الأب والابن لمفاصل الحياة والسياسة والاقتصاد ” وعقلنتها ” كما قالت الكاتبة ، فإن مواقفه الاقليمية والدولية والتي لامست عواطف شعوب المنطقة شكلت غطاء آخر مهما للغاية لممارساته اللانسانية مع الشعب السوري .. الأمر الذي دعا الكثير من المفكرين والحقوقيين والمثقفين إلى التغافل عن جرائمه بالداخل لحساب مواقفه في الخارج …
بقي أن أقول وللموضوعية أن العامل الخارجي حاسم بمسار الثورة السورية ، فالمظاهرات لوحدها لن تسقط النظام مهما طال زمنها وخاصة أن من وراءه نظام ايديولوجي يدعمه بكل شيء هو النظام الايراني … لذلك يجب أن يكون من مهام معارضة الخارج الرئيسية خلق حالة دولية تتدخل بطريقة ما لاسقاط هذا النظام وإلا فإن الفرصة التاريخية التي تتكلم عنها الدكتورة ستضيع … وستضيع معها دماء الشرفاء وكرامة من بقي من وراءهم