آليات دفاعية جديدة في أدب السجون/ فياض هيبي
إذا كنّا نؤمن بشكل قاطع أنّ الأدب مردود إلى واقع معين، أو لا بدّ أن يكون كذلك بأي حال من الأحوال، فإنّ ظاهرة أدب السجون والنصوص التي تتناول تجربة السجن السياسي المريرة في العالم العربي، لهي خير مثال على ما تقدّم. ولأننا، في الوقت ذاته، نؤمن بما تقدّم إيمانا قاطعا، نولي هذه الظاهرة القراءة والبحث والاهتمام. ولأنّ الواقع العربي بصفة عامة وممارسته السياسية بصفة خاصة، لا تشهد تغيرا إيجابيا ملحوظا، بل العكس من ذلك تماما يشهد الواقع المذكور تشويها وانحطاطا ملحوظين، تغدو مسألة القراءة والبحث والاهتمام ضرورة. وإذا كان الأدب بالتالي مرآة للواقع، فمن المؤكّد أن أدب السجون أكثرها وضوحا وسوداوية على حدّ سواء. تماشيا مع منطق العلاقات السابقة نقول إنّ أدب السجون يشهد في السنوات الأخيرة “تطورا” ملحوظا على مستوى التقنيات والآليات الدفاعية المعتمدة فيه. وهذا ما تحاول هذه المقالة أن تناقشه وتبيّنه. والآليات المقصودة ثلاث، هي: المكان، الصمت والغروتيسك Grotesque، كما ظهرت في نصّ “القوقعة – يوميات متلصص” للكاتب السوريّ مصطفى خليفة. فهذا النصّ المذكور يشير في عنوانه: القوقعة – يوميات متلصّص، إلى اثنتين من هذه الآليات: المكان والصمت، أو بلغة العنوان ذاته القوقعة وفعل التلصّص الذي يستوجب الصمت الكامل والتام.
1.المكان – القوقعة
عندما يدور الحديث عن أدب السجون يحضر الفضاء المغلق تلقائيا نظرا لطبيعة السجن في التقييد والكبت، فالسجن ذاته مغلق والزنزانة مغلقة وحتى الساحات، إن وجدت، لا توحي بالانفتاح والتنفس والحرية ولا تخلو من أثر الانغلاق بتاتا لأنّها جزء من سجن يقوم على التقييد والكبت، فهي (الساحات) متنفس لا أكثر في هذا الانغلاق المحكم والعام. ولا شكّ أن الزنزانة كمكان محكم الإغلاق له حضوره البارز في هذه الرواية، إضافة إلى مكان من نوع آخر يعطي الرواية بعدا دلاليا هامّا ويؤسس لتقنيات وآليات جديدة تساهم في إثراء هذا الأدب وتعزيز الجانب الحداثيّ فيه بصفة عامة. ونقصد بـ”المكان الجديد” القوقعة. طبيعة هذه الكلمة تؤكّد الانغلاق، فهي عند بعض الكائنات الحيّة آلية دفاعية ضد أيّ خطر خارجي محتمل، فيها “يقوقع” الكائن الحيّ جسمه أملا في الحماية والنجاة. ولا يبدو هذا المعنى بعيدا بتاتا في مستواه “البشري” فالإنسان ينسحب من عالمه أو المحيط الذي يعيشه “ليتقوقع” وينغلق على ذاته ليدفع عن نفسه كذلك تهديدا أو خطرا ما. وهكذا نرى أنّ الانغلاق صفة ملازمة لهذا ” المكان”، ومن الأهمية بمكان أن نؤكّد أن القوقعة في المستوى الإنساني هي قوقعة مفترضة لا حقيقية واقعية كما هي الحال عند بعض الكائنات الحية. هذا ما يجعل من مهمّة الحماية والدفاع مهمّة صعبة دون شكّ. القوقعة في هذه الرواية تضاعف الانغلاق القائم في أمكنتها، فإذا كانت الزنزانة مغلقة بطبيعتها تأتي القوقعة لتزيدها انغلاقا على انغلاق. الزنزانة، على انغلاقها، قد تشكّل متنفسا للسجين، في هذه الرواية خاصة، لأنّ وجود السجين بداخلها يعني الحياة! لأنه بذلك يكون قد خرج “سالما” من “حفلات” التعذيب وكتبت له فرصة أخرى للحياة. فإذا كانت الزنزانة تعني الحياة للسجين (مفارقة) فما الحاجة إذن لمكان آخر أكثر انغلاقا؟ وهنا بالضبط تكمن المفارقة، فالظروف التي عاشتها الشخصية المركزية في هذه الرواية جعلتها تبحث عن أمكنة أكثر انغلاقا لتحصن نفسها داخل الانغلاق العام، هذه المعادلة المركّبة تؤكّد أن طبيعة المكان الأول (الزنزانة) لا تخلو من السوداوية والعبث رغم المتنفس الضيق والمؤقت الذي تمنحه للسجين كما تقدّم وإلاّ لما كانت الحاجة لمكان أكثر انغلاقا كالقوقعة. الحاجة إلى قوقعة تبرهن بما لا يقبل الشكّ أن الأمكنة باختلاف أنواعها في أدب السجون عبثية وسوداوية أولا وقبل كلّ شيء!
شهد فعل “التقوقع” حركتين مختلفين في هذه الراوية: الأولى من المحيط إلى الداخل (داخل الشخصية). وهكذا رسمت القوقعة هذه المساحة المفترضة والمطلوبة بين الشخصية والمتربصين بها في المحيط مما ساهم تدريجيا (إضافة إلى عوامل أخرى) في التقليل من جدية التهديد. لم تكتف الشخصية “بالتقوقع” على ذاتها فقط هربا من التهديد المحيط بها إنما عملت على التلصص من خلال القوقعة على هذا المحيط، الأمر الذي أكسب الشخصية مساحة أخرى لقراءة الواقع والمحيط من حولها قراءة متأنية وثاقبة تعينها في إجادة التصرف في مواقف حرجة محتملة.
الحركة الثانية كانت أكثر انغلاقا وعمقا مقارنة مع الأولى، فإذا كانت الأولى من الخارج إلى الداخل، كما تقدّم، فالثانية كانت من الداخل إلى الداخل. لا بدّ وأن نؤكّد على جغرافيّة القوقعة المختلفة في الحركتين، الأولى كانت داخل السجن والثانية في العالم الخارجي (الحرية). العالم الخارجي من المفترض أن يلغي وجود القوقعة تماما، لأنّه عالم الحريّة المطلقة للسجين مقارنة مع عالم السجن، عالم يتحرّر فيه من كلّ الحقد والكراهية والتعذيب ويبعد شبحي الموت والجنون. لكننا نلاحظ أنّ العالم الخارجي في هذا النص يتساوى مع الداخلي تماما في تشويهه وسوداويته وكأنه امتداد له أو كأنه سجن كبير حدوده حدود الوطن الكبير، وهنا بالضبط تكمن المفارقة بين واقع عبثي وبين الأمل في واقع تسوده الحرية. خيبة الأمل التي تحدثها هذه المفارقة بالنسبة للشخصية المركزية هي نقد وفضح للواقع في آن معا، واقع تتساوى فيها الأمكنة فلا أمن ولا أمان في السجن ولا خارجه بتاتا، بل يغدو الخارج امتدادا للداخل (السجن) ليُفرض منطقا السجن والسجان كواقعين وحيدين.
- تقنية الصمت
تغدو آلية الصمت نتيجة بديهية وطبيعية للآلية الأولى – القوقعة التي تفرضها كضرورة حتمية. البعد الذي تحدثه القوقعة يهدف إلى التقليل من إمكانية الاحتكاك والمواجهة وهذا يستوجب الصمت كوسيلة أساسية في تحقيق الهدف المنشود. الصمت يعين الشخصية على المتابعة المتأنية والدقيقة والعميقة لما يجري من حولها، أو هو التلصّص كما تسميه الشخصية. التلصّص يلزم التأني والمراقبة الدقيقة وقدرة هائلة على التركيز، وأهميتة تكمن في قدرته على تحييد الشخصية من التورط في متاهات لن تكون في صالحها بأي حال من الأحوال، لأنّ الشخصية قادرة، بفعل المراقبة الدقيقة والتركيز، على أن تقيس الأمور قياسا دقيقا جدا يمكنها بالتالي من اتخاذ قرارات محسوبة بدّقة متناهية. وهذه الخاصية في الصمت ساعدت الشخصية في إبعاد شبح المواجهة واستفحال الحقد ضدها. لكن الصمت ذاته يمكن أن يكون دافعا للجنون لأنّه يلغي التواصل “الاجتماعي والإنساني” مع الآخرين ويخلق عالما من الوحدة والعزلة بعيدا عن العالم الآدمي، ولكن يتضح أنّ تقنية الصمت ذاتها، في ظروف استثنائيّة ومشوّهة كتلك التي يصوّرها هذا النصّ، تساهم في الحفاظ على الجانب الإنساني “العقلاني” للشخصية: ” يجب أن لا أجنّ. كان هذا قراري منذ البداية، رغم ذلك كنت أحسّ أحيانا أنّني على حافّة الجنون، عندها كنت أغني.. لكن بصمت، أغني بذهني دائما أغاني فرنسيّة، لم أغنّ أيّ أغنية عربيّة. لا أفتح فمي مطلقا، لا أتلفّظ بأيّ حرف…” (ص: 5).
3.الغروتيسك Grotesque
تقوم هذه الآلية على تصوير المبكي والمضحك معا، هي حالة من التشويه واختلاط المشاعر بصورة غريبة إلى حدّ يصعب على القارئ تحديد طبيعة الموقف أهو إلى البكاء أقرب أم إلى الضحك؟ اضطراب المشاعر هذا يمكّن الشخصية، أولا، من الدفاع النفسي ويعينها على “التنفيس” والتحرر قدر الإمكان من الضغوطات، ويساهم ثانيا في نقد الواقع وفضحه. وتضاف هذه الآلية إلى آلية المكان والصمت كآليات جديدة تعزّز من رواية أدب السجون العربيّة بصفة عامة. هذه الآلية على قلّتها في هذه الرواية تملك قدرة هائلة على الرفض والدفاع والنيل من الآخر. تمثّل ذلك في الرواية في مشهد إعدام لسجين، الذي بات جزءا متكررا من حياة السجناء، فقد قرّر “الوحش” وهو المسؤول عن تنفيذ قرارات الإعدام، أن يتأكّد من موت السجين: “فأمسك برجلية وأخذ يشدّه إلى أسفل، عندما شدّه إلى الأسفل انشدّت الثياب وأصبح السجين عاريا بجزئه السفلي، تابع الوحش الشدّ، يشدّ ويشدّ. ونجح أخيرا، مات السجين. لكن فور موته يبدو أن مصرته الشرجيّة قد ارتخت نهائيّا فأفرغ كلّ ما في أمعائه فوق الوحش الذي لا يزال يشدّ، وكانت كمية الفضلات كبيرة وسائلة. غطّت الوحش، رأسه، وجهه، صدره ” (ص: 204). “حظي” هذا الوحش بلقب يضاف إلى لقبه الأول، لقب مقترن بهذه الحادثة بصفة خاصة “صار اسمك الوحش أبو ….”. وهكذا نجحت تقنية الغروتسيك في تعزيز المناعة النفسية عند الشخصية، لأنّها حققت “انتصارا”، وإن كان مؤقتا ومعنويا، على سجّانها الذي لا يرحم.
إجمال
رواية يوميات متلصّص لمصطفى خليفة تؤسس، عبر هذه الآليات: المكان – القوقعة، الصمت والجروتسيك، كما تقدّم ذكرها، لرؤية جديدة في روايات أدب السجون في الرواية العربية، ليكون فضحها للواقع أشدّ وأعمق وأوضح من ناحية، وتساهم في تحديث هذا النوع من الأدب وإخراجه قدر الإمكان من المحدودية والتقليدية على مستوى الأسلوب من ناحية أخرى.
*أستاذ في قسم اللغة العربيّة وآدابها – أكاديمية القاسمي، فلسطين 48
ضفة ثالثة