أباطيل وأوهام حول الثورة السورية
عقبة عبد العزيز مشوّح
هل ثورة أطراف وأرياف؟
التحالف بين النظام والبرجوازية
الغرب والثورة السورية
لماذا لم تنتصر الثورة السورية؟
يسود بين شريحة واسعة من المتابعين والمراقبين العرب والأجانب للثورة السورية العديد من المعلومات المغلوطة عن ثورة الكرامة السورية إما نتيجة شائعات ساعد النظام في ترسيخها عبر إعلامه المضلل، أو أثر السور الحديدي الذي أحاط به النظام البلاد وعاقب كل من حاول تجاوزه من الصحفيين إما قتلا أو اعتقالا وتعذيبا في محاولة كشف الحقيقة وثنايا الأحداث اليومية للثورة السورية.
هذا السور وإن بدأ في الانهيار مؤخرا مع توافد المزيد من الصحفيين هواة ومحترفين للأراضي السورية وخرقهم جدار الصمت المطبق هناك ومع جهود نشطاء الثورة الكبيرة في نقل الحدث صوتا وصورة وتعرضهم لمخاطر كبيرة جراء ذلك، إلا أنه مازال هنالك العديد من الأوهام العالقة في ذهن المتابعين نستطيع حصرها في ثلاثة مواضيع أساسية محاولين تفكيكها وتقديم شهادات ميدانية من أرض ثورة ردا على ما جاء فيها :
– هل الثورة السورية ثورة أطراف وأرياف بلا قلب فعلا؟ وهل دمشق وحلب هادئتان فعلا؟
– هل التحالف الطبقي بين النظام والبرجوازية السورية ما زال عائقا لانتصار الثورة؟
– هل ينتظر المجتمع الدولي أسبابا أخرى للوقوف بصف الثورة فعلا (كتوحيد المعارضة مثلا) بعد كل تلك المجازر أم أن الأمر أبعد من ذلك؟
هل ثورة أطراف وأرياف؟
يستند بعض المراقبين العربي والغربيين في تقييمهم للثورة السورية إلى خلفية ذهنية نشأت حديثا من رؤية مظاهرات واعتصامات تونس ومصر والساحات الملآى بالجماهير، وهو الأمر الذي لم يتحقق كثيرا في سوريا التي حاول فيها المتظاهرون في أشهر الثورة الأولى استنساخ نفس المشاهد كما حدث في حمص واللاذقية ودير الزور مما نتج عنه العديد المجازر المروعة نتيجة إطلاق النار المباشر على المدنيين بلا تورع أو تحفظ، وهذا أوقع ثلاثمائة شهيد على الأقل في ميدان الساعة بحمص بعد اعتصام سلمي هناك لم يدم سوى ساعات وانتهى تلك النهاية المروعة. علما بأن البعض لا زال مفقودا أو لم تسلم جثته بعد تلك المذبحة!
كل ذلك أثبت لا جدوى المظاهرات الضخمة أو اعتصامات الساحات لينشأ “فقه” خاص للثورة السورية بمشاهد وأفعال فريدة حاولت التكيف والتطور مع وحشية النظام، لنرى المظاهرات “الطيارة” و “المائية” وقطع الطرق، ومظاهرات المساجد والأزقة والتي بلغت ذروتها بمليونيات شهر يوليو/ تموز من العام الماضي في كل من حماد ودير الزور حيث قدر عدد المشاركين آنذاك بما يقارب الـ25%.
النفس الطويل هو ما ميّز الثورة والثوار، حيث على مدى عام كامل من القمع الأمني والعسكري وتجفيف منابع الرزق والفصل من الوظائف وتدمير المحال التجارية والحصار المحكم لبعض المدن والأحياء، إلا أن المتظاهرين لم يتعبوا أو يملوا حتى الآن!
من الأوهام المنتشرة حول الثورة والتي ساعد النظام جدا في نشرها خدمة لمشروعه في وأد الثورة وتحييدها، أن العاصمة دمشق هادئة أو موالية، وهو توصيف غير دقيق نسعى لتفكيكه عبر ثلاثة محاور: الأول، الطبيعة الجغرافية والديمغرافية لدمشق وريفها، والثاني: تجزيء العاصمة إلى حالات وليس حالة واحدة يتم تبسيطها ووصفها بسطحية كبيرة لا ترقى لما يحدث واقعا على الأرض هنا، والثالث: الأثر الواقعي والحقيقي لدمشق في كل حالاتها على مسار الثورة السورية بعد عام على انطلاقها.
ساهمت دمشق في تقديم إرهاصات الثورة الأولى والمشاركة في إشعالها المظاهرة الكبرى التي توجهت إلى ساحة المرجة بتاريخ 25/3/2011 والتي قدر بعض المشاركين فيها الأعداد بعشرة أضعاف الذي توقعوه، ومن قبل أخرجت دمشق مظاهرات الحميدية والحريقة واعتصام وزارة الداخلية.
للعاصمة دمشق وضعية خاصة وفريدة، وأحسب أن الكثير من المراقبين العرب والأجانب غير مطلعين على وضع المدينة الخاص جغرافيا وديمغرافيا من حيث:
– محافظة دمشق العاصمة ومحافظة ريف دمشق شبه متلاصقتين جغرافيا وسكانيا أيضا حيث يقيم أغلب سكان دمشق في ريفها لتبقى تلك الأولى مختلطة السكان بشكل عشوائي غير معروف ينزع الثقة من بين بعضهم البعض، وقد ترسخ ذلك بعد أحداث الثمانينيات في القرن الماضي عندما استقدم حافظ الأسد سكانا من المناطق الغربية والساحلية ليستوطنوا في أراض اقتطعها لهم كما يوجد الآن في أحياء المزة والقدم والمهاجرين وبرزة.
– كان الريف الدمشقي (يطلق عليه الريف تجاوزا والا فهو بلدات ومدن متكاملة) الملاصق للعاصمة ثائرا منذ اليوم الأول ومازال، ولعل زحف أهالي دوما بأكثر من خمسين ألف شخص في “الجمعة العظيمة” إلى العاصمة حيث إن مدينتهم وأحياءهم من أبرز أحداث الثورة.
– دمشق في وسطها عبارة عن مجمعات حكومية ودبلوماسية وسياسية حيث لا مجال ولا قيمة للثورة أو للتظاهر خصوصا بعد نشر آلاف الشبيحة ورجال الأمن والحرس الجمهوري والمخابرات في الساحات والشوارع الرئيسية في إحكام أمني وعسكري لا تجدي معه المظاهرات والاعتصامات السلمية.
رغم كل ما سبق بقيت دمشق العاصمة ثائرة أيضا في الكثير من أحيائها خصوصا تلك التي على الأطراف (كالقابون وبرزة والقدم والحجر الأسود وجوبر) أو الأحياء العريقة في وسطها (كالميدان والصالحية وركن الدين والشاغور) ثم مظاهرات متفرقة لم يخل منها أي حي من الأحياء الراقية (كالمزرعة وأبو رمانة والمهاجرين وكفرسوسة).
– تعتبر تنسيقيات دمشق من أقوى التنسيقيات والتي تمثل رافعة خلفية للعديد من مجريات الثورة وتكتلاتها وأنشطتها، وهنالك بعض التنسيقيات التي اشتهرت بتقديم خدمات “خمس نجوم” في المظاهرات حتى دفع ذلك سكانا من بقية المناطق إلى المجيء إليها والمشاركة فيها، كتنسيقية حي القابون الدمشقي التي كانت على سبيل المثال توزع عبوات الماء البارد للمشاركين في تظاهراتها.
– مع تركيبة النظام الحالي والذي يمثل كتلة واحدة تمتزج فيها المؤسسات العسكرية والأمنية والسياسية بلا فصل ويهيمن عليها حكم العائلة المطلق، يبدو أن لا جدوى من أي تحرك شعبي ضد النظام في أي منطقة لاستمالة جزء من أجزائه ضد الآخر وبالتالي إسقاط النظام كما رأينا في الثورات السابقة في تونس ومصر واليمن، ومع أهمية استمرار التحركات الشعبية والتي مازالت فعلا على أوجها في طول البلاد وعرضها حتى اليوم وبعد مرور عام كامل على الانطلاقة، إلا أن العامل الحاسم في إسقاط النظام بكافة رموزه وأجهزته لم يتحقق بعد في بعده الأول (تدخل عسكري خارجي بحظر جوي ومنطقة عازلة) ولم يكتمل في بعده الثاني (تسليح وتجهيز الجيش الحر ليغدو أكثر قوة لمجابهة النظام).
التحالف بين النظام والبرجوازية
الحديث عن الحلف الوثيق بين النظام والطبقة البرجوازية السنية من تجار دمشق وحلب صحيح في مظهره لكنه مغلوط في تفاصيله ومضمونه، فهذا الحلف الذي ابتدأه حافظ الأسد كان قائما على ما يشبه التهديد والإكراه وليس برضى هذه الطبقة، خصوصا بعد القمع الدموي لانتفاضة الثمانينيات ومجازر حماة وحلب، ثم ترسخ هذا الإكراه بعد وراثة بشار لوالده ونشوء طبقة أعلى من رجال أعمال النظام يقودها ابن خال الرئيس رامي مخلوف لتسيطر على مشاريع البلد الكبرى وعالم الأعمال وتشارك قهرا كل رجال الأعمال الآخرين في حصصهم ومشاريعهم وعقودهم، ليتمأسس هذا الحلف الإكراهي ويغدو واقعا في البلاد تصفه هذه المقولة النمطية لهذا الحلف الباطل.
إذن لم تكن مسألة سحب دعم طبقة التجار هذه للنظام السوري بأسهل من سحب دعم حركة حماس له! مع ذلك فإن نشطاء الثورة ينبئوننا أن دمشق التي توصف بالهادئة أو الموالية جورا تمثل خصوصا بأحيائها الثرية والراقية رافعة دعم خفية للثوار ولرعاية أسر الجرحى والشهداء العاطلين ماديا واقتصاديا، لتعمل بصمت كامل تنتظر فيه اليوم التي ستسلم مفاتحها للثوار حين يطرقون أبوابها معلنين نهاية هذا النظام.
الغرب والثورة السورية
– الغرب ليس مترددا في دعم الثورة بسبب ضعف المعارضة فقط ولكن بسبب وجود غطاء إقليمي ودولي لم يرفع بعد عن الأسد، إنما كان وجود مشجب المعارضة المتفككة هو الحل الأمثل للتنصل من التزامات المجتمع الدولي أمام هذه المجازر والجرائم ضد الإنسانية والتي لا يشابهها تاريخيا إلا القليل.
هذا لا ينفي مسؤولية المعارضة -رغم ضعف إمكانياتها- في عجزها عن التوحد وتنظيم نفسها قوة أمام نظام استنفر كل جهوده لقمع ثورة افتقدت إلى قيادة مركزية توجهها وترشدها إلى الطريق الصحيح، إنما ترك الثوار لمصيرهم وتدبير أمرهم بنفسهم، مع ما يحصل من تعرضهم لخطر كبير أو وقوعهم في كمائن النظام وحلفائه وعملائه المنتشرين حول الثوار في كل مكان.
كما فشلت المعارضة سياسيا وفي علاقاتها الدولية في الوصول إلى نقطة تقاطع المصالح مع القوى الكبرى لإسقاط النظام السوري، حيث لا يزال العديد من هذه القوى يرى مصالحه مع النظام لا مع معارضة لم تضمن له شيئا، لا حاضرا ولا مستقبلا!
إحدى الرسائل الحديثة من قبل قائد ميداني لثوار مدينة إدلب التي اجتيحت مؤخرا ووقعت فيها العديد من المجازر بين السكان، تكشف شكوى هذا القائد من وقوعهم ضحية لصفقة أسلحة فاسدة لتجار أتراك وسوريين يعتقد أنهم موالون للنظام حيث لم يعمل من أصل ثمانين قاذف آر بي جي ابتاعوها من هؤلاء التجار، سوى أربع قذائف! كما اشتكى القائد من سوء التنسيق بين الثوار والجيش الحر، وبين المدن والريف، أما المجلس الوطني فوصفه بأنه لا يمت للأرض بصلة!
لماذا لم تنتصر الثورة السورية؟
ما المشكلة إذن؟ لماذا لم تنتصر الثورة السورية بعد عام من انطلاقها فيما حقق غيرها الأمر في أيام أو أسابيع أو أشهر؟!!
لا يمكن تبسيط أسباب ذلك بسهولة نتيجة لتراكب المسببات وتعقيدها واحتياجها إلى تفكيك طويل ومعقد لا يكفي المقام هنا لعرضه. لكن إجمالا يمكن القول أولا: إن الثورة مازالت مستمرة٫ فلم تتوقف حتى يقال لماذا لم تنتصر، فربما لم تتم أجلها الذي قدر لها بعد ولم تستو على سوقها حتى تحصد ثمرها أو تستعجله كما حدث مع غيرها ممن دخل في سبات أو أعاد إنتاج نظامه بشكل أو آخر!
ثانيا: منذ المراحل الأولى والثورة تطور أساليبها في مواجهة النظام لكي تتكيف مع آلة القمع الرهيبة التي تواجهها، فمن الاعتصامات إلى المظاهرات الحاشدة٬ إلى المظاهرات الطيارة إلى الإضرابات إلى المقاومة المسلحة التي رافقت كل السابق ولم تكن بديلا عنه٬ إلى قطع الطرقات.. إلى أساليب كثيرة تتطور بها الثورة تكتيكيا في ظل ظروف صعبة وتواطؤ إقليمي وعالمي يسعى إلى خنقها… فكان مجرد استمرارها إلى الآن معجزة.
ثالثا: إذا كان القذافي قد جلب مرتزقة هواة من مجاهيل أفريقيا فإن الثورة السورية لم تواجه نظاما واحدا فقط٬ بل واجهت معه لبنان والعراق وروسيا والصين وإسرائيل كذلك بصمتها الراضي عن بقاء النظام الحالي٫ وبالفيتو المزدوج والمتكرر، وبالسلاح الروسي، وبالمستشارين العسكريين، وبالسلاح الإيراني والقناصة، وبرجال حزب الله كذلك.
قمع لم نشهد له مثيلا.. ففي حين أوقفت قبرص سفينة أسلحة متجهة للنظام منذ أشهر، عادت فجأة وأخلت سبيلها بإشارة من قوى كبرى في المنطقة وواصلت السفينة إبحارها وزودت النظام السوري بأسلحة القتل.. ليس هذا فحسب, بل أمخرت السفن الفنزويلية جالبة الوقود بشكل مستمر للنظام.. وفعلت روسيا وإيران شيئا شبيها بأساطيلها التي رست في طرطوس واللاذقية.. ولم يعترض المجتمع الدولي ويفعل شيئا حيال ذلك.. بينما جفف قبل أشهر كل شاردة وواردة يمكن أن تمر إلى القذافي حتى نفد وقوده وأسلحته وضرب دفاعاته الجوية وقواته وزود الثوار بالأسلحة والمستشارين.. حقا لقد كنت الثورة السورية يتيمة بلا سند… فهل نسأل بعد ذلك لماذا لم تنتصر بعد؟!
الشعب السوري أدى ومازال يؤدي كل ما عليه في هذه الثورة والتي دفع فاتورتها الباهظة (أكثر من عشرة آلاف شهيد موثق، ويشير أحد النشطاء الإعلاميين إلى أن هذا الرقم قد يتضاعف أربع أو خمس مرات إذا تم حساب غير الموثقين) بالإضافة إلى عشرات الآلاف من الجرحى والمعتقلين والمهجرين داخليا وخارجيا، ومازال ينتظر أن يؤدي المجتمع الدولي واجبه بإحكام عزل النظام وفرض الحظر الجوي عليه ودعم الجيش الحر.
الجزيرة نت