صفحات العالم

أبعد من التحدّي الأوكرانيّ/ حازم صاغية

 

 

تندرج السياسة الراهنة للرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين وما تستجرّه من ردود فعل غربيّة انطلاقاً من أوكرانيا، في تاريخ طويل من التأزّم الروسيّ حيال العلاقة بالغرب.

فمنذ مطالع القرن العشرين على الأقلّ والنُخب الروسيّة مسكونة بتلك العلاقة المعقّدة: بعضها يريد أن يقلّد الغرب ويلتحق به متخلّياً عمّا يُعرف بإرث الاستبداد الشرقيّ المديد، وبعضها يريد أن يتجنّب ذاك الغرب ويصدّه عنه لاعتباره أنّه خطر على النقاء والكمال الروسيّين.

ودائماً احتلّت “القوّة” مكانة مركزيّة في السجال هذا: فثمّة من رآها شرطاً لمقاومة التأثّر بالغرب ولإحباط هجمته، وهناك من رآها مقدّمة ضروريّة للتفاوض من موقع ندّيّ مع ذاك الغرب، فيما ذهب بعض ثالث إلى أنّ مهمّة الروس المُلحّة إنّما هي التخلّص من تلك القوّة جملةً وتفصيلاً: ذاك أنّها لا تُترجم إلاّ استبداداً ينزل بالروس أنفسهم فيما تعقّد تحديث روسيّا وأَوْرَبَتها وتكتفي من ذلك كلّه بوهم القوّة الذي يُعفي الروس من محاولة الإصلاح والتغيير.

ولا يخفى الشبه بين هذه الموضوعات والموضوعات التي سادت سجالات النخب اليابانيّة والتركيّة، كما لا تزال حاضرة بقوّة في سجالات النُخب العربيّة التي تكسوها بنسبة مرتفعة من التآمريّة.

لكنْ، وكائناً ما كان الأمر، كان الارتباط وثيقاً بين تلك الأفكار والرؤى وبين اختبارها العنيف في التاريخ الحديث لروسيا. فالنظام السوفييتيّ الذي وُلد محيّراً بين الجذور الأوروبيّة لأفكاره المؤسّسة وبين رغبته في الخروج من السوق الاقتصاديّة العالميّة، ما لبثت الستالينيّة أن وضعته في خانة العداء للغرب وبناء “ستار حديديّ” في وجهه. وحتّى بعد رحيل ستالين والستالينيّة، استمرّ اشتغال هذه الذهنيّة وفقاً لما أكّده بناء جدار برلين في مطالع الستينات. ولأجل صدّ الخطر الغربيّ على بناء الاشتراكيّة في روسيا وكتلتها، مضت موسكو تطوّر قوّة عسكريّة نافست القوّة العسكريّة الأمريكيّة وتفوّقت عليها في بعض الجوانب.

لكنّ هذه العمارة كلّها امتُحنت بقسوة في أواخر الثمانينات، بعدما اتّضح جليّاً أنّ تلك القوّة العسكريّة إنّما قامت على حساب تطوّر سائر البُنى المدنيّة للاقتصاد والاجتماع السوفييتيّين. وفي النهاية، وكما هو معروف، انهار الاتّحاد السوفييتيّ نفسه من دون أن تستطيع قوّته العسكريّة الحؤول دون ذاك الانهيار.

وإذ انطوى الخيار الغورباتشوفيّ العابر الذي حاول المواءمة بين السير غرباً والاحتفاظ بعناصر القوّة الذاتيّة، وتجاوزته التطوّرات الثوريّة في روسيا، حلّ الخيار اليلتسنيّ الذي قام على التخلّي الكامل عن العناصر المذكورة للالتحاق بالغرب. وهنا عادت المسؤوليّة أساساً إلى ضعف المكوّن الليبراليّ في الواقع والتجربة التاريخيّة الروسيّين بحيث تراءى الالتحاق التفافاً على هذا الضعف يُغني عن الحاجة إلى استدراكه.

في هذا المعنى يجيء امتحان روسيا، من خلال البوتينيّة، ليشكّل الاختبار الأوّل في حقبة ما بعد الحرب الباردة. ذاك أنّ نهج العقوبات والتضييق الاقتصاديّ سيفجّر الكثير من تناقضات الحياة الروسيّة ويجدّد طرح الأسئلة الكبيرة على مفهوم القوّة، كما على حدود النفوذ الروسيّ ومدى أهليّة موسكو وجدارتها بمثل هذا النفوذ الاستراتيجيّ. وغنيّ عن القول إنّ روسيا اليوم، وقد صارت جزءاً من السوق العالميّة على عكس ما كانته في العهد السوفييتيّ، ستتأثّر أكثر كثيراً ممّا كانت تتأثّر في زمن الاتّحاد السوفييتيّ.

وأغلب الظنّ أن تفشل موسكو اليوم، مثلما فشلت في المرّات السابقة التي ناهضت فيها الغرب أو مارست الانبطاح حياله. وربّما جاء الموقف الأخير لبوتين حيث أعلن عن سحب قوّاته من الحدود ومطالبته الانفصاليّين بتأجيل الاستفتاء لينمّ عن تحسّس الكرملين صعوبة الذهاب في موقفهم إلى نهايته الصداميّة.

والحقّ أنّ المسألة الأمّ، التي نعاود اكتشافها في حالة روسيا، أنّ السياسات الخارجيّة، كائناً ما كان لونها، لا تنوب عن مسؤوليّة الروس إزاء بناء ذاتهم الوطنيّة ودمقرطتها. وأكثر ما ينطبق عليه هذا الحكم سياسات العظمة الامبراطوريّة حين تفتقر إلى مقوّمات داخليّة تسندها وتُديمها.

فإذا ما تذكّرنا السياسة المتشدّدة التي سبق لرونالد ريغان أن اتّبعها ضدّ الاتّحاد السوفييتيّ، بما في ذلك “حرب النجوم” التي سرّعت تفكيكه، جاز القول إنّ سياسات أصلب يتّبعها باراك أوباما كفيلة بأن تجعل الفشل الروسيّ الراهن أسرع ظهوراً وانكشافاً.

موقع 24

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى