صفحات العالم

ما وراء الارتباك الأمريكي حول سوريا؟/ د. مدى الفاتح

 

 

■ سوف يستغرق الأمر عدة سنوات قبل أن يتوصل العالم لحقيقة أن ليس للولايات المتحدة ورئيسها خطة عمل واضحة في سوريا. رغم أن التفات أوباما للمأساة كان مبكراً، بإعلانه بعد عدة أسابيع من اندلاع أعمال القمع العنيف أن بشار الأسد فقد شرعيته، وأنه لا مكان في هذا العالم لرئيس يقتل شعبه.

إلا أن الإدارة الأمريكية لم تكن تملك حينها، ولا في أي وقت آخر، استراتيجية واضحة ولا مقترحاً لحل القضية. عبارات أوباما وتحركاته فهمت على أساس أنها نية أمريكية للتدخل لصالح الشعب السوري، وعلى هذا الاستنتاج سارت بوصلة الكثير من دول المنطقة، التي اعتبرت أن الوقت حان للمشاركة في حفل تقاسم الكعكة السورية والاستعداد لمرحلة ما بعد الأسد. لكن العزم الأمريكي سرعان ما تراجع حين اقترب أكثر من المشهد، وبعد اكتشافه أن الخصم هنا، وبخلاف الحالة الليبية، لن يكون فقط النظام السوري المتهالك والجيش ذو الإمكانيات التي تبقى محدودة، بل أيضاً روسيا التي تحركت في هذا الملف منذ وقت باكر جداً، وإيران التي سوف ينقض أي احتكاك معها مساعي التطبيع معها. لدهشة الأمريكيين وكثير من المتابعين للشأن السوري فإن الكيان الصهيوني نفسه لم يكن متحمساً منذ البداية لإزالة النظام بشكل مفاجئ، وهو ما وضحه نتنياهو لأوباما في اللقاء الذي جمعه به في البيت الأبيض بعد بداية الأحداث.

النتيجة كانت أنه في حين وصلت معظم الدول العربية، تحت ضغط شعبي أو لأسباب اختلافات مسبقة، لمرحلة العداء المحموم مع النظام السوري، كانت الولايات المتحدة ممثلة برئيسها تتحسس خطواتها ببطء، وهي تعيد التفكير بوجهة النظر الإسرائيلية التي ترى أن إزاحة الأسد ليست أولوية. وجهة النظر هذه كبحت بكل تأكيد الرغبة الأمريكية الأولى في التدخل، فالإسرائيليون هم الأكثر خبرة بالمنطقة، وهم يعنون ما يقولون حين يعتبرون أن التهديد لم ولن يكون من جهة النظام السوري الذي تعايش معهم كجار مسالم لعقود. زاد الارتباك بشكل واضح بعد ظهور الحركات الإسلامية المقاتلة التي أضافت معطيات جديدة للمعادلة، أهمها إمكانية إسقاط الأسد وتحويل سوريا إلى طالبان أو تورا بورا جديدة. هذا الافتراض لم يقلق فقط الولايات المتحدة وحليفتها اسرائيل، بل أيضاً دول المحيط العربي، التي يكن بعضها عداءً متساوياً للنظام السوري ولما تسميه بجماعات الإسلام السياسي. هكذا انتصر المعسكر الذي يرى أنه لم يعد هنالك مبرر للتسرع في حل الأزمة عبر تنحية الأسد ونظامه، وأن الأولوية يجب أن تكون محاربة المتطرفين المتشددين، وهنا يمكننا أن نفهم السر وراء الرفض الأممي الصارم لمقترح إقامة منطقة حظر جوي في سوريا.

الواقع أن الدول العربية التي لامت لاحقاً الولايات المتحدة لارتباكها وضعفها كانت هي من تسبب في هذا الارتباك، وهي من استفادت منه بشكل كبير، فمن ناحية استخدمته للإيحاء لشعوبها بأن أمريكا وروســـيا هما معسكر واحد، وأن الغرب يقف مكتوف اليدين أمام ما سمـــيت إعــــلامياً بمأساة القرن، ومن ناحية أخرى كانت تعرقــــل، بأشكال مختلفة، تحقيق المعارضــة ذات الطابع الإسلامي لأي نجاح كبير قد يحسم الأزمة لصالحها. في الداخل الأمريكي لم يكن الأمر سهلاً وكانت هناك تجاذبات مهمة بين جناح الدور الإنساني للولايات المتحدة، والجناح الآخر الذي يرفض إضاعة أموال دافعي الضرائب في مغامرات غير محسوبة.

بعد مشاورات داخلية وخارجية تفتق الذهن الأمريكي عن فكرة تتلخص في ضرورة بناء قوة على الأرض تكون مستقلة عن التنظيمات ذات الخلفية الإسلامية. قوة يوكل إليها لاحقاً بناء جيش علماني ودولة جديدة وهو ما يمكنه أن يرضي جميع الأطراف.

الفكرة فشلت رغم كلفتها المادية العالية، لأنها بحثت عن شيء لا وجود له، فلا توجد على الساحة السورية قوة علمانية مقاتلة ذات وزن وحتى المقاتلون ذوو الانتماء الوطني والقومي العلماني، سرعان ما يعلو صوتهم بصيحات التكبير في الميدان وسرعان ما يصبحون كغيرهم بانتظار النصر أو الشهادة.

أما محاولة خلق مقاتلين بلا انتماء، فلم تكن أكثر نجاحاً لأنها عنت بالضرورة إيجاد مقاتلين يقاتلون من أجل المصلحة والمال، وهؤلاء، حتى إن كانوا سوريين، فهم مرتزقة لا يمكن الاعتماد عليهم أو توقع انتصارهم على قوات النظام، أو حتى على تنظيم الدولة الذي ينطلق، رغم فوضويته، من عقيدة تحركه وتقوده.

الفصام بين المسألة الإنسانية في سوريا وضرورات التوازن السياسي العالمي، ولكن أيضاً الداخلي الذي يرفض بشدة أي تورط جديد للولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط، بعد تجارب الفشل المريرة في العراق وأفغانستان وكم التضحيات، كل ذلك بدا واضحاً خلال كلمة الرئيس الأمريكي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي من أجل كسب تعاطف مستمعيه ربما، جاءت رنانة قوية لكن متناقضة مع سياساته الفعلية خلال السنوات الأخيرة. الصحافي في «ناشيونال ريفيو» إليوت إبرامز كتب مقالاً في 28 سبتمبر بعنوان: «خطاب أوباما السريالي في الأمم المتحدة» تعرض فيه لتناقضات أوباما كتكراره الحديث عن الديمقراطية، في الوقت الذي يتحالف فيه مع أنظمة قمعية وديكتاتورية، وكحديثه عن ضرورة منع الانتشار النووي، ويتجاهل أن المعرقل الحقيقي لكل مساعي الحد من انتشار الأسلحة النووية هم الأمريكيون.

في ذلك الخطاب غير الواقعي، بحسب وصف الصحافي، أعاد أوباما اجترار عباراته القديمة الناقدة للنظام السوري، التي توحي لمن يسمعها أن الإدارة الأمريكية تقف بقوة في وجه بشار الأسد، وبالطريقة السريالية نفسها، انتقد اعتداءات روسيا على السيادة الأوكرانية قائلاً، إن ما حدث هناك يمكن أن يتكرر في أي مكان آخر، لذا يجب أن لا نقف مكتوفي الأيدي. ما حصل هو أن الولايات المتحدة اتبعت سياسة «الأيدي المتكتفة» فعلاً، فعلى عكس ما توحي به العبارات الأوبامية القوية تم منع السلاح عن أوكرانيا وعن الثوار في سوريا، وتم غض الطرف عن التمدد الروسي الذي وصل لدرجة استباحة الأراضي السورية والتدخل العسكري الفعلي، من خلال القصف الجوي لما تسميه روسيا بمواقع المتطرفين و»تنظيم الدولة».

إيران أيضاً تقوت بعلاقتها الجديدة مع الغرب، كما تقوت بالارتباكات الأمريكية والعربية لتفرض نفسها عسكرياً من جديد، في الوقت الذي يدعو فيه خطابها الرسمي لمنع أي تدخل خارجي في الشأن السوري. هنا نفهم أن التدخل المقصود هو التدخل العربي أو السني، أما الإيرانيون وغيرهم من أبناء شيعة الشرق والغرب فهم ليسوا أبداً أجانب مثلهم في هذا مثل الروس، الذين أضحوا مكوناً أصيلاً من مكونات الشعب السوري.!

الحقيقة أنه كانت لإيران وروسيا سياسة واضحة وثابتة منذ بدايات الأزمة، وهو ما لم تتمتع به لا الولايات المتحدة ولا الغالب من دول العالم المناصرة للشعب السوري وهو ما أكسب معسكرهم قوة متجددة ونفوذاً كبيرا.

هل هناك ارتباك أمريكي حقيقي أم أن كل ذلك كان مجرد خطة مندرجة تحت بند خلق الفوضى التي ستخلق التغيير؟ من حقنا أن نسأل هذا السؤال الذي، على أهميته، يجب ألا يشغلنا عن أسئلة أكبر وأكثر إلحاحاً مثل: لماذا لم تدعم دول المنطقة في غالبها المعارضة الســــورية بشكل جاد؟ ولماذا لامت الدول الغربية لتقصيرها في استقبال اللاجئين، في الوقت الذي أغلقت هي فيه حدودها وأبوابها أمامهم؟ ثم أخيراً، لماذا جاءت ردود الأفعال على التدخل العسكري الروسي ضعيفة ودون المستوى؟

كاتب سوداني

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى