أحداث سوريا وأخطــاء أوباما
إعداد وترجمة ديما شريف
يعيش الرئيس الأميركي باراك أوباما أياماً صعبة. فهو يعاني انتقادات داخلية كثيرة نتيجة قرار المشاركة في العمليات العسكرية ضد ليبيا، وامتناعه عن التدخل في البحرين، رغم كلّ ما حصل فيها. ولم تنتهِ متاعب أوباما هناك، إذ منذ شيوع الصور والأشرطة التي تظهر العنف الذي تعاطت به القوات الأمنية السورية مع المتظاهرين في درعا واللاذقية، تعالت الأصوات الشاجبة لمقاربة الإدارة الأميركية الحالية للنظام في سوريا. فالعديدون يرون أنّ إعادة العلاقات مع سوريا وتعيين سفير فيها، شجعا نظام الأسد على التمادي في التعاطي الأمني مع المتظاهرين والمعارضين له، فيما حذر آخرون من ترك الوضع يتدهور كي لا يواجه أوباما ليبيا أخرى على حدود إسرائيل
هل الأسد قادر على الإصلاح؟
فولكر برتس*
في خطاب قصير أمام البرلمان السوري يوم الأربعاء، أعلن الرئيس بشار الأسد أنّه لا يزال مع الإصلاح، لكنّه أصر على أنّ أولى أولوياته هي محاربة «المؤامرة» المسؤولة عن الاحتجاجات الدموية في بلاده. أتى الخطاب بعد يوم من إقالة الرئيس للحكومة. كان طبيعياً أن يخيّب الخطاب آمال الذين توقعوا أن يلغي الأسد حالة الطوارئ، على الأقل، ويعلن قانوناً جديداً للأحزاب السياسية. تغيير الوزراء خطوة لا معنى لها إذا لم يعقبها إصلاح جدي. تناول الأسد قانون الطوارئ وقانون الأحزاب، لكنّه أصر على أنّه لن يتصرف تحت الضغط فـ«التسرع يأتي على حساب نوعية الإصلاحات».
إنّها لازمة سمعها السوريون كثيراً من قبل.
طُرِحت فكرة قانون جديد للأحزاب كلما كان النظام يخضع لضغوط، في 2000، بعدما تسلم الأسد الحكم، أو في 2005، بعد إجبار سوريا على الانسحاب من لبنان. لكنّ التوقيت لم يكن يوماً مناسباً.
أتذكر لقاءً أجريته، قبل خمس سنوات، مع فيصل كلثوم، وهو أستاذ في القانون، ووقتها كان مقرباً من الأسد. قال لي، بفخر، إنّه أنهى مع آخرين في لجنة خاصة مسودة قانون للأحزاب. (كلثوم الذي يعدّ نفسه إصلاحياً، أصبح لاحقاً محافظاً لدرعا واستمر في منصبه هذا حتى طرد إثر القمع الدموي).
قال لي، آنذاك، إنّ القانون الجديد سيسمح بتأسيس أحزاب من توجهات عدّة، لكنّه أضاف، حين سألته، من أنّه لا نيّة لتعديل الدستور، وخصوصاً المادة 8 منه، التي تقول إنّ حزب البعث هو «قائد المجتمع والدولة». بعبارات أخرى، هناك حرية لتأسيس الأحزاب بشرط ألا تتحدّى احتكار البعث للسلطة. ليس من الضروري أن نضيف إنّ الأسد لم يطبّق القانون. الوضع «لم يكن مناسباً» من أجل هذا الإصلاح، قال لي مسؤولون آخرون في السنوات اللاحقة.
سأكون مندهشاً، بطريقة إيجابية، إذا كان الأسد مستعداً اليوم لتطبيق ذلك القانون، وكذلك إلغاء حالة الطوارئ وحذف المادة 8. يستطيع أن ينجز أمراً تاريخياً بخطوات كهذه، وعلى الأرجح، قد يؤسس للبرلة سياسية، خطوة بخطوة، لا يزال هناك أمل صغير بحدوثها، في رأيي. لكننّي أشك في أنّه سيقوم بذلك.
يعود ذلك إلى أنّ الأسد ليس إصلاحياً، وذلك خلافاً للصورة التي كوّنها عنه بعض القادة الغربيين. يمكن وصفه، بدقة أكبر، كمحدث. حين ورث الحكم عن والده في 2000، سعى إلى تحديث النظام، أي الأسس الاقتصادية والتكنولوجية والسياسية، والأسس الأمنية والبيروقراطية التي تستند إليها قوته.
سمح بقواعد اقتصادية وتجارية فوضوية وبعمل المصارف الخاصة، وبدخول الاستثمارات الأجنبية، وشركات الهواتف الخلوية. وبدءاً من قادة الحزب المحليين والمحافظين، ثم الوزراء، وأخيراً قادة الأجهزة الامنية، تمكّن خلال سنتين فقط من إزاحة حرس والده القديم واستبدالهم بأشخاص يضمن ولاءهم.
عبر فعله ذلك، أعطى سوريا وجهاً أكثر حداثة وجعل بعض الأمور تعمل بفعالية أكثر، لكنّه حرص على أن يبقى النظام الأساسي دون مساس. نظام يعتمد على الأجهزة الأمنية، العلاقات الشخصية، ونوع من الفساد يسمح للأوفياء له بالاغتناء.
في الأساس، بعدما وصل إلى السلطة، شجع الأسد على وجود جو سياسي فيه حرية أكثر، لكن في 2001، بعد «ربيع دمشق» القصير، انقضّ النظام على العديد من المثقفين الذين اعتقدوا أنّ الانفتاح السياسي بدأ فعلاً. العديدون منهم اعتُقلوا مرات عدّة في العقد الماضي.
كي نكون عادلين، لم يعتمد الأسد على القمع والمستفيدين، فعلى عكس حسني مبارك أو زين العابدين بن علي، القائد السوري الشاب حصل على شعبية حقيقية. ساعده الوضع الإقليمي، كما اعترف صراحةً في مقابلة أخيراً مع «وال ستريت جورنال». انتقد بشدّة اجتياح الولايات المتحدة للعراق، وحذر، وكان محقاً، من الفوضى بعد تغيير النظام من الخارج هناك، وحصل على شهرة لقوله «لا» للولايات المتحدة.
لقد أجبر على سحب قواته من لبنان، لكنّه استطاع أن يستغل الفرصة لفتح اقتصاد سوريا، وبالتالي تخفيف اعتماد رجال الأعمال السوريين على لبنان، وأعاد، بصورة تدريجية، بناء النفوذ السياسي السوري في لبنان.
لقد شجب السياسات الأميركية والإسرائيلية تجاه الفلسطينيين، مع التوضيح أنّ سوريا لن تعارض اتفاق سلام مع اسرائيل. جعله كلّ ذلك، أكثر الرؤساء شعبيةً في العالم العربي، ويمكن الحكم على ذلك داخلياً.
هذه الشعبية الواضحة قد دفعته، هو ومستشاريه، إلى تجاهل حقيقة أنّه حتى في سوريا، يوجد العديد من الغاضبين من النظام القمعي، الحكم السيّئ والفساد المستشري.
في سوريا، كما في دول عربية أخرى، هناك شعور مشترك، وخصوصاً في الفئة العمرية 20 ـــــ30 عاماً، بأنّ النظام يبخل عليهم بالكرامة والفرص العادلة للمشاركة في السياسة والاقتصاد. من المرجح أن تكون الإصلاحات التجميلية الآن متأخرة بعض الشيء.
قد يجد الأسد أنّه حتى لو كان سهلاً، نسبياً، التعامل مع المثقفين والناشطين، فإنّه أصعب بكثير قمع جيل بأكمله.
* عن صحيفة «نيويورك تايمز»
انقسام داخل البيت الأبيض
مايكل سينغ*
لقد مثّلت أعمال العنف الأخيرة في سوريا تحدياً لاستراتيجية إدارة أوباما في الشرق الأوسط، أكثر من الصراعات في تونس، ليبيا والبحرين، وربما أكثر من سقوط حسني مبارك في مصر. يمكن تلمّس الاندفاعات المتناقضة داخل الإدارة في التصريحات الأخيرة التي أعلنتها وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون، قبل أيام، حين وصفت الرئيس السوري بشار الأسد بالـ«إصلاحي». وفي لندن في 29 آذار الماضي، أعلنت «شجبها القوي لقمع الحكومة السورية العنيف للمتظاهرين». مهما كانت النظرة إلى الأسد التي ستسود، والطريقة التي ستتعامل بها الولايات المتحدة مع الأحداث في سوريا، فإنهما ستحدّدان كيف ستتغير السياسة الأميركية الخارجية في الشرق الأوسط بسبب الاضطرابات هناك.
واحدة من أهم الطرق التي انفصل بها الرئيس أوباما عن سياسة سلفه في الشرق الأوسط هي في مقاربته لسوريا. عوض الاستمرار في الضغط على النظام السوري، عادت إدارة أوباما إلى سياسة التعامل مع النظام، التي انتهجتها الإدارات السابقة. الأسباب وراء هذا التغيير كانت عديدة: عُدّت سياسة الضغط غير فعالة والتعامل مع الأنظمة العدائية كان واعداً دبلوماسياً.
والأهم ربما، هو أنّ سوريا كانت عاملاً أساسياً لتحقيق أي تقدم في السلام الإسرائيلي ـــــ الفلسطيني. تستضيف دمشق حماس والجهاد الإسلامي، وبالتالي، لها تأثير في تلك المجموعات، إضافةً إلى ذلك، كانت مفاوضات سوريا الخاصة مع اسرائيل ضرورية لتحقيق «سلام شامل» تسعى إليه الإدارة.
بعد سنتين، لم تؤتِ هذه المقاربة مع سوريا أية نتائج. لم توّسع تعاونها مع تحقيق وكالة الطاقة الدولية بشأن نشاطاتها النووية السرية، ولم تقلص علاقتها مع إيران وحزب الله، كما لم تخفف تدخلها في لبنان، وتوسّع تعاونها مع محكمة الحريري. على الجبهة الداخلية، بعيداً عن كونه مصلحاً، يترأس الأسد نظاماً يصنّف أسوأ من نظام حسني مبارك في مصر في ما يتعلق بالحقوق السياسية، كما لم يحدث أيّ تقدم على المسار السوري ـــــ الإسرائيلي، ولم تؤدِّ سوريا أيّ دور في المحادثات الإسرائيلية ـــــ الفلسطينية (من المسلّم به أنّ هذه المحادثات فشلت لأسباب لا علاقة لها بالسياسات السورية).
لكن السياسة الأميركية الحالية تجاه سوريا، لم تفشل فقط في نتائجها، بل كانت تشوبها عيوب منذ التخطيط لها. تتطلب المصالح والقيم الأميركية أن نساند الحرية والسيادة للفلسطينيين، لكن تمنعنا تلك المصالح والقيم نفسها من المتاجرة بحرية الشعبين السوري واللبناني مقابل إنشاء الدولة الفلسطينية. وعلى نحو مماثل، لا أسباب تقنعنا بأنّ بشار الأسد مهتم بصدق بسلام سوري ـــــ اسرائيلي؛ إذ إنّ حالة الحرب السورية مع اسرائيل تمنحه تبريراً لفرض دائم لـ«قوانين الطوارئ»، كما أنّ استمرار العلاقات مع ايران وحزب الله، التي يحتاج إلى التخلي عنها لإتمام الصفقة، تفيد نظامه إفادة كبيرة. قد نعتبر نحن وجود ربح من السلام، لكن الأسد يرى الأمور من منظار آخر. هناك إشارات إلى أنّ البعض داخل إدارة أوباما يعترفون بضرورة تغيير التعاطي مع سوريا. مسؤول أميركي لم يفصح عن اسمه، قال لـ«نيويورك تايمز» في 26 آذار الماضي إنّه «مهما كانت الصدقية التي تتمتع بها الحكومة السورية، لقد أطلقوا النار عليها اليوم ـــــ فعلياً… من المؤكد أنّ من مصلحتنا التوصل إلى اتفاق، لكن لا يمكننا فعل ذلك مع حكومة لا تتمتع بصدقية بين شعبها». قد يقول البعض إنّ المشكلة ليست في الأسد، بل مع «حرس والده القديم» الذي يحيط به، لكنّ، تصريحات الأسد وسياساته تناقض هذا التفكير الإيجابي. مغازلة الأسد سعياً وراء أهداف إقليمية، مقابل تجاهل ما يحصل داخل سوريا ليست واقعية سياسية (realpolitik)؛ قد يكون تحسين العلاقات الثنائية «سياسة»، لكنّ التقليل من تأثير الركود السياسي والاقتصادي في المنطقة على المصالح الأميركية ليس واقعياً. المطلوب مقاربة أكثر إبداعاً، تكون متعددة الأبعاد وواعدة أكثر. مقاربة تتضمن ضغطاً متجدداً اقتصادياً وسياسياً عبر العقوبات ومساندة ناشطي الديموقراطية السوريين. نظام الأسد ضعيف اقتصادياً ويفتقر إلى موارد جيرانه الطبيعية، وهناك إشارات إلى أنّ الجولة السابقة من الضغط الاقتصادي كانت قد بدأت بإنهاك النظام. وهو أيضاً ضعيف سياسياً، مع شعب متململ واجتياح موجة الإصلاح المنطقة وفقدان الحليف الغربي الفرنسي. فوزير خارجية فرنسا آلان جوبيه أعلن تغييرات كبيرة في السياسة الفرنسية تجاه سوريا. في خطابه يوم الاثنين الماضي بشأن ليبيا، قال الرئيس أوباما «حيثما يتوق الناس ليكونوا أحراراً، سيجدون في الولايات المتحدة صديقاً». يستطيع أن يحقق تعهده هذا عبر حشد تحالف دولي للضغط على نظام الأسد. لا يستطيع المرء إلا أن يرى ظلال القديس بولس في صراع إدارة أوباما للاتفاق على مقاربتها تجاه الأسد، إذ إنّ القديس بولس، وهو في طريقه إلى دمشق رأى النور وغيّر مساره. ربما على طريق الدبلوماسية إلى دمشق قد يكتشف الرئيس أوباما الحاجة إلى إعادة توجيه السياسة الأميركية تجاه سوريا والمنطقة بأسرها.
* عن مجلة «فورين بوليسي»
الأخبار