أحراراً “كمواليد ميتة”/ رشا عمران
“ليتني أكون حرّاً، حرّاً إلى حد الجنون، حرّاً مثل وليد ميت” (إميل سيوران في “مثالب السعادة”، ترجمة: آدم فتحي). وحده الوليد البشري الميت على كوكب الأرض يمكنه أن يكون حرّاً، لم يبالغ سيوران في قوله هذا، لا يمكن لأي بشري أن يعيش حياته حرّاً بالكامل، ولا حتى نصف حر. الحياة نفسها تقيّده، الحياة بشروطها اليومية وتفاصيلها وأداءاتها وعلاقاتها، حتى لو ألغينا من الحياة كل الأيديولوجيات المؤطرة للفكر الإنساني، المُنزَلة والوضعيّة، حتى مع إلغائها تماماً وافتراض عدم وجودها. لا يمكن للبشري أن يكون حرّاً بالمطلق، نحن نأتي إلى هذا العالم، سيكون لدينا والدان وإخوة وعائلة ووطن ودين ومذهب وهوية، نحن لم نختر شيئاً مما سبق، ستكون لنا جينات تحدّد أشكالنا ولون جلدنا وجملتنا العصبية، من دون أن يكون لنا يد في كل هذا. سنكبر أيضاً، وثمة من يدلنا على أنواع الطعام التي يجب أن نأكلها، وعلى أنواع الشراب أيضاً، وعلى اللباس الذي سنرتديه، وسيختار لنا مدارسَنا ونوع التعليم الذي يجب أن نتلقاه. وسيتدخل بهدوء بتحديد رغباتنا وخياراتنا، حتى خياراتنا الشخصية، بأصدقائنا وعشاقنا، مرهونةٌ بشرط المكان والزمن الذي نحن فيه.
كنت لرغبت، مثلاً، أن تكون صديقتي (إيزيدورا) الراقصة الأميركية الشهيرة التي ماتت قبل أن أولد بأكثر من أربعين عاماً. كان لطريقة تفكيرها لو أنني جايلتها أن غيّرت بي كثيراً. كنت أيضاً لوددت لو كنت في زمن الهيبيين، في سعيهم نحو نزع كل أقنعة المجتمع والحياة عن سلوكهم اليومي، كنت تمنيت لو عشقت هندياً أحمر، وعشت تلك الحياة الآثرة، كنت لرغبت لو عرفت تفاصيل يوميات بورخيس، وراقبت ضوء قلبه الذي يشع في عينيه المطفأتين، أو لو كنت تلميذةً لدى باخ مثلاً، كي أفتن أكثر بتلك العبقرية التي تكتب علاماتٍ على ورق، وتحول الورق إلى موسيقا مذهلة، أو لو عايشت خوان ميرو، وقبلت أصابعه التي ترسم بقلب الطفل، كنت لوددت ذلك كله، ولربما هم أيضاً كانت لديهم أمنياتٌ عن حياة وأمكنة وأزمنة مختلفة عن التي وجدوا أنفسهم بها، فالفنون والرغبة في التمرد هي، أولاً، توق لعوالم أخرى افتراضية، غير التي يعيش فيها المبدعون والمتمردون.
كنت، إذاً، لوددت ذلك كله، غير أن مصادفة الزمن والمكان أخذتني إلى ما أنا فيه الآن، إلى حياتي، بكل مكابداتها الطويلة ومتعها القليلة، بكل ما أحبه وما أكرهه فيها، بكل ما فرض عليّ وما حاولت اختياره حسب قناعاتي ووعيي، “نحنّ باستمرار إلى عالم نحدس فيه بالوعي، من دون أن نرغب فيه، حيث يمكننا، وقد ارتخينا في الافتراضي، أن نستمتع بالكمال المعدوم، لأنا سابقةٍ على الأنا” (إميل سيوران)، ساعدني وعيي على اختيار بضعة مساراتٍ في حياتي، وهو ما يجعلني فخورةً بنفسي أنني رفضت الانقياد قدر إمكاني، غير أن وعيي نفسه أعاقني عن أن أكون حرة بالمطلق، حرّة “مثل وليد ميت” على رأي سيوران، فوعيي هو سلسلة مما راكمه الآخرون في ذاكرتي الطفلة، ثم المراهِقة وهكذا، سلسلة من القيود التي تكبّل كل شيء، الوعي ينتج حرية مشروطة، والحرية لا يمكن اشتراطها وتقييدها، إما مطلقة أو لا حرية، وهذا ما يجعلني حالياً أعيد التفكير بماهية (الحرية) التي طالبت بها الثورات العربية، هل هي حرية سياسية وحرية رأي ومعتقد وتفكير؟ ماذا عن الحريات الفردية والشخصية جداً؟ حرية الجسد وحرية السلوك وحرية المظهر وحرية التنقل وحرية اختيار مكان العيش ولحظة الولادة ولحظة الموت، وتلك السلسلة الطويلة من الحريات التي نادراً ما تخطر لنا، بحكم أن عكسها هو سياق حياتنا منذ خلقنا.
وبالعودة إلى سيوران، الوليد الميت هو الحر فقط، لأنه تكوّن، ككائن بشري ومات، قبل أن تتشكل ذاكرته، وتختزن وعيه ولاوعيه. مات حرّاً خفيفاً بلا اسم حتى، بينما سنموت نحن حاملين معنا كل قيود حياتنا التي سيتذكّرها الآخرون، المستمرة حياتهم بعدنا. أفكر أحياناً أيضا، أنه كان ليكون عادلاً أكثر، لو أن ثمة فرصة أخرى للحياة لنا، نحن البشر، نتذكّر فيها قيود حياتنا الأولى، ونعيش الثانية أحراراً كمواليد ميتة.
العربي الجديد