صفحات الرأي

اليساري في شيخوخته


ابراهيم الأمين

ليست شيخوخة مبكرة التي تصيب اليسار العربي الآن. لقد أطلّت برأسها بعد قليل من انهيار الاتحاد السوفياتي. لم يعرف اليسار العربي التصرف إلا كيتيم يحتاج الى شفقة وصدقة، بينما هو عاجز عن استعطاف الآخرين. وإذا ما بقي وحده، أخذته «الصفنة» ليعود الى ذكريات الزمن الجميل. أما عن فعله اليوم، فلم يعد يرينا منه، سوى تلبّس دور طبيب الحي، الذي يبلغنا أن ابننا مريض، ويقول لنا خذوه الى المستشفى، فهو بحاجة الى طبيب.

في لبنان، عينة من اليساريين الذين جربوا كل شيء في خمسة عقود على الأقل. قاد هؤلاء الشباب في الجامعات. حاضروا في حشود العمال والفلاحين. أمضوا أوقاتاً طويلة مع شباب الأزقة والضواحي. كتبوا في كل مكان أتيح لهم فيه النشر وقالوا كلاماً كبيراً عن كل شيء. كانوا طوال الوقت يعرّفون أنفسهم بالبديل الكامل، الذي يرغب في نظام مختلف لا في سلطة مختلفة. كانوا لا يقبلون المساومات. وكانوا وكانوا وكانوا… ثم جاءت الحرب الأهلية، التي سرعان ما خطفها الطائفيون، ومعهم مرجعياتهم الإقليمية والدولية. ولما أطلت إسرائيل برأسها وجد اليسار أنه أمام مهمة وطنية لا يتقدم عليها شيء، لكن العقل المريض الساعي الى مكاسب سلطوية، بدّل الأولويات. وانخرط اليساريون من جديد في حفلة الحروب العبثية. بعض مثقفيهم، عبّروا عن رفضهم الاستمرار في الحرب العبثية، بالهروب الى البعيد. ولما عادوا، بعدما قرر الخارج وقف النار في لبنان، استعادوا أدواتهم السابقة. لم ينتبهوا الى ما تغير. منذ مطلع التسعينيات، وهم يمارسون الطقوس نفسها، في محاولة منهم لاستعادة دور ريادي في تولي قيادة حزب، ولو على شكل شلّة.

لكن الأيام أظهرت كم أن بعض هؤلاء عاجز عن الإقرار بالهزيمة، وكم هو عاجز عن تحمل المسؤولية. لا قيمة لنقد الذات ما لم يقترن بخطوة النزول عن المنبر، والابتعاد قليلاً إفساحاً في المجال أمام آخرين ليصنعوا تجربتهم، حتى لو حفلت بالأخطاء. ذلك لم يحصل، لأن هؤلاء لا يقبلون لأنفسهم صفة أقل من صفة المعلم والأستاذ والمفكر، الذي ينوب عن الآخرين!

والمشكلة، ليست في عودة مظفرة بأدوات أصيلة أو أصلية، بل هي في أن هؤلاء يريدون إفهامنا بأنهم تطوروا، على كل الصعد، بما فيها الأدوات، وهم باتوا يتصرفون على أن العقل الرأسمالي ليس كله خطأ، ولم يستعيروا منه سوى الأدوات الليبرالية، التي تخدم السلطة المركزية التي تحكم العالم اليوم، باسم الحرية الديموقراطية وحقوق الإنسان، وهي السلطة التي تتحكم في مصادر الثروة والعلم والقرار في كل العالم. وبهذا، يريد منا اليساري الهرم أن نقبل به قائداً وملهماً، وأن نقبل توصياته الجديدة ولو بأدوات الليبراليين الأكثر صراحة. هل ثمة ما يضطرنا الى ذلك؟

هذا اليسار النيوليبرالي، يخبرنا كل يوم أنه مع المقاومة، لكنه لا يقول لنا ما هو دوره في هذه المقاومة. ثم تراه لا يتوقف عند نقد القوى القائمة بممارسة المقاومة، لأنها ليست على ذوقه الأيديولوجي. ثم يخبرنا أنه ضد الاستبداد، ولا يقول لنا كيف يكون عملياً ضد الاستبداد لأنه صنيعة الإمبريالية العالمية، ثم تراه حليفاً في كل كلمة وفي كل موقف وفي كل فكرة لهذه الإمبريالية التي قررت الآن مواجهة هذا الاستبداد.

هذا اليسار النيوليبرالي، يحدثنا طوال الوقت عن الجماهير المتخلفة، وعن أنها تتخلف عن اللحاق بركبه، وأنها تعيش أيام التعصب القصوى، فلا يبقى مجال لعاقل من أبناء هذا اليسار، بنسخته الاستعمارية، لكن هؤلاء، لا يتوقفون ليل نهار عن نقد كل من يطرح أسئلة عن الحراك القائم، واتهامه بأنه عميل الاستبداد والظلامية.

هذا اليسار النيوليبرالي يحدثنا طوال الوقت عن التنوير، وعن التطور، وعن ضرورة مغادرة المرحلة والقفز فوراً نحو التغيير، الذي لا وجه له ولا اسم. ثم هم يدافعون يومياً عن أغبياء وقتلة يديرهم ويمولهم الغرب وجماعته من سارقي الثروة العربية، وقادة فرق التخلف والعدم. وإذا ما حاول المرء طرح السؤال، يُتَّهَم فوراً بأنه مستسلم ومتخلف لا يريد التغيير!

وفوق كل ذلك، صار هؤلاء يريدون تحويل المقاومة وممانعة المشروع الأميركي، الى تهمة أخلاقية. صاروا يتجرأون على استخدام هذه الكلمات في معرض تجريم الآخرين، ربما لن يتأخر اليوم الذي يقولون لنا فيه إن المقاومة صارت عائقاً أمام التطور والازدهار.

الراحل جوزيف سماحة ـــــ الذي يستعيرونه اليوم، ويتعاملون مع ماضيه البعيد بلا أيّ قدر من الأخلاق، وينفون عنه صورة تموضعه قبل الرحيل، ظلوا يكرهونه ويغارون منه ميتاً كما حياً ـــــ أذكر أنه في رحلة العودة الثانية الى «الحياة» قابل جهاد الخازن. قال له الأخير: «تعرف زعمي بأنني شيخ الصحافة اليمينية، وأنا الآن أعاني من الذين كانوا في اليسار وينضمون الى نادينا، لأنهم لا يعرفون ما يفعلون، وأشعر معهم بالخجل. أرجوك عد، كي تكون المواجهة أفضل».

اليوم، صار لزاماً علينا مناجاة الله، أن يطيل في عمر حازم صاغية وصحبه المنتجبين.

اللهم اشهد أنهم الأوضح في ليبرالية حقيقية، ولو تأخروا قليلاً في نيل شهادتها.

هم حقيقة في قلب المشهد، لا هم في نهاية يسمونها بدايات!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى