أحلام نخب روسيا وكوابيس الشعب السوري
غازي دحمان
أغلقت روسيا ملف الأزمة السورية على تأكيد الرئيس، المنتهية ولايته، دميتري مدفيدف، أن مهمة المبعوث الدولي العربي كوفي أنان تشكل الفرصة الأخيرة لإنقاذ سوريا من الانزلاق إلى أتون الحرب الأهلية، وإرفاق ذلك بتصريحات لوزير الخارجية سيرغي لافروف بأن بعض الدول العربية تسعى إلى إقامة حكم سني في سوريا.
وفي الواقع يختزل، هذان، التأكيد والتصريح، الموقف الروسي من الأزمة السورية ، حيث يضمر تأكيد مدفيدف في طياته حدود التنازل الروسي في هذه اللحظة للشعب السوري، باعتبار أن روسيا أصبحت مركز القرار الرسمي السوري ، وهذا التنازل لا يتعدى حدود الحوار السياسي “غير المشروط” مقابل تنازل الشعب السوري عن شرط تنحية الرئيس، أما تصريح لافروف فهو لا يعدو كونه محاولة ابتزاز لدول التعاون الخليجي التي اتخذت مواقف حاسمة لحماية الشعب السوري من انتهاكات النظام.
في التحليل السياسي، يمكن رد الدعم الروسي اللامحدود للنظام إلى موقف سياسي أكثر من اعتباره سياسة، مع الفارق الكبير بين الحالتين، ذلك أن الموقف غالباً ما يتم اتخاذه وفقاً لتقديرات معينة تحتمل الخطأ والصواب، ويملك في داخله إمكانية التراجع والتقدم، في حين أن السياسة تحكمها اعتبارات غير لحظية، وترتبط في الغالب بما يسمى إستراتيجية الدولة، بحيث تصبح السياسة والسلوك الموازي لها وسيلة تصريف تلك الإستراتيجية وتظهير مرتكزاتها الأساسية.
وبعكس ما تحاول الكثير من التحليلات الكلاسيكية الخلوص إليه في محاولة تفسيرها للموقف الروسي من الأزمة عبر محاولة رده، عنوة، لاعتبارات ذات طبيعة جيوإستراتيجية، من قبيل هواجس روسيا من التمدد الإسلامي، أو وجود مطامح روسية لإعادة حضورها المفقود على المسرح الدولي، فإن هذا الموقف لا يعدو كونه نتاج تصورات نخبة حاكمة، ذات طابع مافيوي، لا يوجد ما يسنده على أرض الواقع، اللهم سوى بعض الفوائض المالية، والتي ربما تمتلك مثلها الدول ذات الحجم الأصغر، في المساحة والسكان، باستثناء ذلك، يعرف العالم أنها لا تستطيع تغيير المعادلات بأن تكون دولة عظمى حتى لو أبقت على أسنانها النووية.
كما أنه من المبكر القول إن روسيا تسعى إلى إحياء الحرب الباردة لتجازف بكل مصالحها مع أميركا وأوروبا التي لا مجال للمقارنة بينها وبين سوريا. فضلاً عن أنها تعي جيداً حدود قدرتها على موازنة القوة الأميركية على رغم كل ما تعانيه هذه القوة.
غير أن النخبة الروسية، وفي سبيل تبرير موقفها الداعم لنظام الأسد في حربه ضد الشعب السوري، فإنها تتلطى خلف ما تسميه “احترام قواعد القانون الدولي” التي تنص على عدم التدخل في الشؤون الداخلية، مع إغفالها، القصدي، للتطورات الحاصلة في قواعد القانون الدولي والتي من ضمنها احترام حقوق الإنسان، فضلاً عن إهمالها لقاعدة أساسية وتقليدية في القانون ذاته، وهي أن الشعب مصدر السيادة ومنبعها، وليست الأنظمة الحاكمة.
من الناحية العملية، وفي إطار موقفها “المتوازن” من أطراف الأزمة في سوريا، تقوم روسيا ومنذ منتصف العام الماضي بمد نظام الأسد بجسر بحري بكل ما يحتاج إليه، وآخرها قامت بتزويده بأكثر من 35 طائرة خفيفة بنصف مليار دولار.
أيضا اعترف الروس مؤخراً أنهم أرسلوا على متن سفينة عسكرية قوات مكافحة الإرهاب لمساندة الأجهزة الأمنية السورية، في إشارة إلى دعم الأجهزة السورية بما تحتاج إليه من تدريب وتجهيز ومعلومات وحماية. ولا يستبعد المراقبون أن تتورط هذه القوات فعليا في قتال الشوارع لمواجهة المتظاهرين .
إضافة لذلك، ساهم الموقف الروسي، بدرجة كبيرة، في تشجيع نظام الأسد على السير في طريق الحل العنفي المبالغ فيه إلى أقصى درجاته، صحيح أن السلوك العنفي للنظام هو سلوك تقليدي، وهو أحد أهم آليات تعامله مع الشعب السوري منذ وصوله للسلطة، وأن النظام كان سيسلك هذا المسار بكل الأحوال، لكن الموقف الروسي وفر له شبكة أمان تحميه من استحقاقات سلوكه هذا، ولو مؤقتاً، كما منحه الوقت الكافي لإنجاز مهمة القضاء على الثورة، إضافة إلى إعطائه الفرصة لترويج روايته على المستوى الدولي حول “العصابات المسلحة” فضلاً عن أن موسكو أعطت للنظام فرصة للمناورة السياسية بعد أن استنفرت دبلوماسيتها للدفاع عنه وتحولت إلى طرف في الأزمة.
إلى هذا وذاك تتوالى تجليات الموقف الروسي المعادي للشعب السوري عبر الحديث عن إنشاء “دولة سنية” وفي ذلك انحطاط واضح للموقف الروسي اللاأخلاقي من الثورة السورية، حيث تستحضر دبلوماسية المافيا الروسية أخطر أوراقها على الإطلاق عبر دفع الأمور وتحويلها إلى حرب أهلية، في الوقت الذي يحذر رئيسها من هذا الخيار!
ولعل روسيا بموقفها هذا تعلن، ليس عن بؤس سلوكها السياسي وحسب، وإنما عن يأس واضح وفاضح بنفس الآن أمام الدبلوماسية العالمية التي تقارعها بمنطق الشرعية وقواعد القوانين الإنسانية. وهنا تحاول روسيا تجميل مواقفها بتصوير نفسها على أنها حامية للأقليات، كما تحاول استدعاء مخاوف الغرب من الإسلام، وبين هذا وذاك تشويه للثورة السورية بمقاصدها وتضحياتها.
إذاً لا تغيرات محتملة في الموقف الروسي الداعم لنظام الأسد في استمرار حملة القمع التي يمارسها ضد الشعب، وما التصريحات التي أطلقها رئيس الكرملين عن دعم مهمة أنان، سوى محاولة لذر الرماد في العيون، وهي لا تعدو أن تكون تنويعات ولكن على وتر واحد، حيث تراهن روسيا على أن تدمر مهمة أنان نفسها بنفسها، من خلال ما تحمله بعض النقاط الواردة في الخطة من إمكانية لتأويلات وتفسيرات متعددة، وخاصة ما يتعلق منها بوقف العنف من جميع الأطراف، فروسيا التي تتبنى رواية النظام بالكامل لن يصعب عليها إدراج المظاهرات السلمية في تعريفها للعنف المضاد الذي يواجهه النظام .
ولئن أبدت روسيا موافقتها على مهمة أنان، وذلك في محاولة لتخفيف حدة الضغوط الكبيرة التي تواجهها من المجتمع الدولي، وخاصة في شقه العربي من خلال دول مجلس التعاون الخليجي، فإن دبلوماسيتها تحاول التذاكي، بخفة ملحوظة، عبر الالتفاف على الموقف الخليجي، سواء من خلال تخويف دول العالم من محاولات بعض الدول العربية “تأسيس دولة إسلامية” في سوريا، أو من خلال الترويج بأن موسكو استطاعت جر العالم إلى موقفها وفي طريقها إلى إقناعه بروايتها ورواية نظام الأسد.
لقد استقر في ذهن السوريين أن روسيا شريكة في سفك دمائهم، وأنها تتحمل جزءاً كبيراً من المسؤولية الأخلاقية، وحتى الجنائية، عما يحصل في سوريا نتيجة دعمها اللامحدود للنظام في استباحته للدم السوري، ولا يمكن تبرئة روسيا من الدم السوري من خلال الدراما السيئة التي حاول لافروف عرضها في مجلس الدوما من خلال تلميحه بأن روسيا لا تملك أي تأثير مباشر على نظام الأسد، فهذه مفارقة يمكن اعتبارها حجة على الروس وليست تبريراً، إذ طالما الأمر كذلك فما الداعي إلى تزويد النظام بمختلف أنواع أسلحة الفتك والطواقم القتالية المدربة على قتل البشر!
أخيراً إذا كانت النخبة الروسية تتطلع إلى تحقيق حضور دولي عبر موقفها هذا من الأزمة السورية فبئس هذا الحضور وتلك الأحلام الإمبراطورية التي تنهض على أشلاء السوريين وقهرهم وتشردهم ووجعهم وجوعهم ورعب أطفالهم.. بائسة يا إمبراطورية الروس.
الجزيرة نت