أدب الثورة: حقّ الكلام أقوى من لغته/ إيلي عبدو
هل نقرأ رواية توازي لافتات كفرنبل إبداعاً؟
كادت اللغة أن تتطابق مع حدث الثورة في سوريا. الشعارات التي رفعت في التظاهرات، كذلك اللافتات الذكية ورقصات المحتجين وتعبيريتهم القوية شكلت فرصة للانقضاض على اللغة البعثية الجافة. فكرة القول من دون خوف أو رعب أمني، كانت كفيلة بتبديد الإرث القديم وتجفيف مصادره. شروط الكلام اختلفت في سوريا، واحتمالات النطق باتت أوسع، تحتمل شتم الثوار أنفسهم وفضح ممارساتهم.
لكن الفرق بين الكلام واللغة، كان واضحاً أيضاً. ما صنعه المتظاهرون، ما قالوه وأنشدوه في ساحات التظاهر والاعتراض، كان كلاماً يتحدّى السلطة ويلتبس مع اللغة المضادة لها. منطقة فاصلة ارتسمت بين الفطرية ومنطقها. وكأن من ثار على النظام لا يريد أن يحسم لغته، بل يسعى إلى تركها تتأرجح بين الرغبة بالقول وبين مآلات التعبير عنه. ليس ذلك سوى رد على جذرية لغة البعث وحتمية معانيها الجازمة. لم يلتقط شعراء وروائيو سوريا هذا الالتباس المصوغ بدقة من قبل الثوار على الأرض فذهبوا بالضد منه مستسلمين لأدوات أسلوبية ومعرفية سابقة كانت تُستخدم لمواجهة النظام قبل الثورة.
استعادة تكشف قصور اللحظة اللغوية عند صُنّاع الأدب السوريين فلم ينتبه أحد منهم أن النظام قد سقط بالمعنى الرمزي ومواجهته بالقاموسية السابقة ليست سوى إنكار لهذا السقوط. لغة البعث التي كسرها الثوار بشعاراتهم وأغانيهم ولافتاتهم عادت وأطلت برأسها عبر النصوص الأدبية التي اتخذت من الثورة موضوعاً لها. اكتفى الثوار بتصديع قاموس النظام من دون أن يحولوا ذالك إلى لغة. ظلوا مراهنين على فكرة الكلام و ثابتين عندها، تكريس حق القول كان هاجسهم الأبرز.
إلا ان المهمة التي كان على الكتّاب أن يستكملوها ملتقطين من ثوار الميادين ما أنجزوه، سرعان ما تعثرت أمام أنماط أسلوبية ولغوية مستهلكة. محاولات التوثيق التي انشغلت بها بعض الكتابات، اكتفت بنقل ما يحدث من دون أي جهد مضموني لافت. في حين ذهب البعض إلى استعادة تجاربه داخل سجون النظام مستطلعاً ملامح الجحيم السوري، ليهتم آخرون عبر رواياتهم برسم وجوه مناطق سورية عرفت بصمودها ضد وحشية النظام مثل بابا عمرو في مدينة حمص.
وإذا كان السرد الذي ظهر مع الثورة يعرف كيف يخفي أعطابه عبر اتخاذه موضوعات مباشرة ومغرية تتصل بالحدث وتعيد انتاجه، فإن الشعر لا يملك هذا التكتيك. ليتبين، بعد مطالعة سريعة للقصائد التي كتبت خلال السنوات الثلاث، انتماء معظمها إلى أجواء شعرية مبتذلة ومفصولة عن اللحظة الحية التي تدّعي تمثيلها. بدا الشعر أكثر قدرة على فضح الفجوة بين الثورة ولغتها. ما يمكن ان يكتب سردياً كموضوع وفكرة وحالة من دون الانتباه إلى الجدّة التي يقدمها، يصبح مع الشعر شديد العراء إزاء فقره اللغوي ومناجاته زمناً سابقاً لتحصيل بعضاً من لغة بائدة.
لم يتمكن صناع الأدب السوري، شعراء وروائيين وقصاصين، من التمييز بين وظيفة الأدب خلال الثورات الإيديولوجية العربية السابقة التي تبدت في توثيق ما يحصل والتعبير عنه، جمالياً وإنسانياً. وبين وظيفته الآن التي تستلزم هتك اللغة البعثية في بعدها السردي الأحادي الجاف وفتح مساحات التعبير على ممكنات جديدة ومغايرة لا تراعي أي معيار جاهز. وبناء لغة تهجس بالمعنى وتتحايل لإخراجه أسلوبياً، محتقرة جميع انواع الإنشاء التي تتستر بمواضيع الحب والطبيعة والإنسان لتضمر بعثية ما. ثوار سوريا أوجدوا الكلام الذي صادره البعث عبر عقود وعلقوه في منطقة ملتبسة مع اللغة، فهل نقرأ في المرحلة المقبلة رواية عن الثورة توازي لافتات كفرنبل في إبداعيتها؟
المدن