صفحات المستقبل

احتواء اﻷسد بدأ من باريس


أحمد الشامي

في اجتماعهم اﻷخير في باريس اتخذ أصدقاء سوريا “قرارات مصيرية” من بينها منع تصدير البضائع الفخمة و منتجات اﻷناقة ٳلى سوريا، ٳضافة ٳلى “منع تصدير وسائل القمع”. هذا يعني أن لدى عصابات اﻷسد الآن كل المبررات لاستعمال الرصاص الحي، ﻷن أوربا ترفض تصدير الرصاص المطاطي وقنابل الغاز ٳلى سوريا !

ٳضافة ٳلى هذه التدابير “الجذرية ” تم فرض عقوبات على نساء اﻷسد (وليس على محظيات اﻷسد). هذا يعني أن السيدة أسماء لن تستطيع أن “تعمل شوبنغ” هذا الصيف في لندن ولن تستطيع شراء آخر منتجات “لويس فويتون” باسمها الشخصي. بالمقابل، ستضطر السيدة أسماء ﻷن تطلب من “هديل” أو “شهرزاد” مثلاً أن تحضر لها آخر صرعات “كريستيان ديور” على طريقة تجار الشنطة. من المؤكد أن الحياة الزوجية لبشار ستصبح جحيماً أبشع من النار المستعرة في حمص  و ربما يضطر اﻷسد الصغير للركض طالباً الصفح من الغرب خوفاً من رد فعل السيدة أسماء الغاضبة بسبب العقوبات الظالمة التي ستحرمها من الكزدرة والتسوق على كيفها.

لا ندري ٳن كان وزراء الخارجية المجتمعين في باريس قد أتوا بهذه اﻷفكار والعقوبات الجهنمية من بنات أفكارهم، أو أنهم استشاروا سفيرة النظام السوري في فرنسا، صاحبة المقالب الشهيرة والمعروفة بخبرتها في قصص و مكائد النسوان.

مع هكذا عقوبات، يبدو اﻷسد الوريث قادراً على الاستمرار في قتل شعبه مطمئناً ٳلى أن أقصى ما قد يصيبه هو منع حرمه المصون والمبذرة من شراء لوازم اﻷناقة، وهذا ما سيوفر مبالغ طائلة يستطيع السيد بشار الآن أن يخصصها لشبيحته.

ما تمخض عنه مؤتمر باريس من قرارات علنية لم يكن بحاجة ﻷن يجتمع وزراء خارجية ولا حتى سفراء فهذه النتائج بالكاد تستأهل بياناً صحفياً. المؤتمر الصحفي الذي حضره بعض وزراء الخارجية كان أشبه بمؤتمرات الجامعة العربية فاقدة الطعم واللون والمخصصة لتبادل التحيات والمجاملات. فما معنى عقد مؤتمر في باريس قبل أيام من انتخابات رئاسية فرنسية يبدو من شبه المؤكد أن ساركوزي سيخرج منها خاسراً؟

 صحيح أن الدبلوماسية الدولية والفرنسية ستفتقد رجل الدولة القدير “آلان جوبيه” وهذه خسارة للعرب والعالم، لكن الشعب الفرنسي يبدو مصمماً على الدخول في فصل ربيع خاص به وعلى ٳرسال السيد ساركوزي ٳلى بيته بطريقة ديمقراطية ودون سفك دماء.

هكذا نفهم تطوع وزراء خارجية أصدقاء سوريا بتسمية السيد جوبيه ناطقاً باسم المؤتمر، ربما كانت هذه هدية الوداع التي يقدمها الوزراء لزميل على وشك الرحيل. لكن ربما كان هناك تفسير آخر، فالسيد “جوبيه” ذو سمعة دولية مرموقة ولربما كان وزراء خارجية أصدقاء سوريا يمهدون الطريق للسيد “جوبيه” لكي يصبح يوما “مندوباً ساميا” باسم اﻷمم المتحدة في سوريا، كما كان السيد “كوشنر” في “كوسوفو”، فالرجل دبلوماسي متعدد المواهب وسوريا  ستكون في حاجة لشخص مثله ٳن قررت اﻷمم المتحدة، أو الناتو، التدخل لوقف حمام الدم في سوريا.

حتى لو كان هدف هذا الاجتماع النبيل هو مناقشة المستقبل الوظيفي للسيد “جوبيه” فهذا لا يستحق أن “يخربط” 15 وزير خارجية مواعيدهم للالتقاء في باريس، فلماذا اجتمع هؤلاء ٳذاً ؟ هل هناك قرارات “سرية” لم يكشف النقاب عنها وكانت تستأهل أن يكلف الوزراء اﻷفاضل خاطرهم ويجتمعوا في باريس ؟

بالنسبة للسوريين فالعالم يبدوا مقصراً جداً في حمايتهم، لكن لنلاحظ أن هؤلاء الوزراء لم يجتمعوا لمناقشة مسألة “هجليج” رغم خطورة الموقف هناك، ولا أحد اجتمع لمناقشة الوضع الداخلي المتفجر في ليبيا، ناهيك عن الصومال حيث لا أحد يهتم بتعداد الضحايا.

مع ذلك، وجد وزراء الخارجية لهذه الدول من الوقت ما يكفي لمناقشة الوضع السوري ولو أنهم لم يعلنوا قرارات ذات معنى، فما تفسير هذا التناقض، ولماذا يجتمع 15 وزير خارجية لكي لا يقرروا شيئاً مجدياً ؟ هل اﻷمور بهذه البساطة أم أن وراء اﻷكمة ما وراءها ؟

من الواضح أن السياسة الغربية في الموضوع السوري تتخذ منحى يتراوح بين الضغط والاحتواء، بعد صفعة الاعتراف بالمجلس الوطني ممثلاً شرعياً ولو لم يكن وحيداً للشعب السوري، جاءت مهزلة منع تصدير المنتجات الفاخرة وعقوبات النسوان. هذا يسمى “سياسة الاحتواء” وهي تتلخص في “ضربة على الحافر وأخرى على النافر” أو كما يقول المثل العامي “طاسة ساخنة وأخرى باردة”.

النظام السوري نظام متشعب وعميق الجذور، يحتاج اجتثاثه للعديد من المناورات و الخطوات لتفكيكه بالتدريج و الغرب لا يبدو راغباً في الاصطدام بشكل مباشر مع نظام اﻷسد وراعييه اﻹيراني والروسي. حين يترك الغرب الحبل للأسد على الغارب فٳنه يفعل ذلك وهو على علم تام بالنتائج ويدرك أن النظام سائر ٳلى حتفه بظلفه. يبدو الغرب متأكداً من رعونة النظام اﻷسدي ومن عدم قدرة هذا اﻷخير على انتهاج سياسة ذكية ومسؤولة.

بالفعل، يفهم النظام السوري التراخي الدولي معه على أنه ضوء أخضر للاستمرار في سفك الدماء وهو بهذا لا يفعل سوى حرق مراكبه وٳثبات أنه عاجز عن التطور وعن مجاراة العصر. بالنتيجة ينفض عنه حلفاؤه فليس هناك أسوأ من “صديق” غبي يغرق ويجعل الآخرين يغرقون معه.

وفق سياسة الاحتواء الحالية، يخطط اﻷمريكيون على ما يبدو لجعل اﻷزمة السورية مشكلة مزمنة قد “تحل نفسها بنفسها” أو بثمن بخس بالنسبة لهم، بحيث يتورط اﻹيرانيون في “المستنقع السوري” بما يستنفذ جهودهم ويؤدي ﻹضعافهم. السيد “اوباما” لن ينزعج لرؤية “فلاديمير بوتين” وهو يغرق في دماء السوريين وفي مواجهة مع اﻹسلام السني الذي لا بد له من أن ينهض في مواجهة جبهة طائفية شيعية اورثوذوكسية تستبيح دماء “أهل السنة” في الشام. هذه المواجهة ستضعف ٳيران و”بوتين” وقد تمتد ٳلى داخل روسيا الاتحادية.

بدأت سياسة الاحتواء تؤتي بعض ثمارها ولو أن ذلك لا يزال دون الحد اﻷدنى المطلوب بكثير. الصين بدأت بالنأي بنفسها عن نظام الشبيحة، كذلك فعلت كل من الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا وهي دول ترغب في ٳعطاء مظهر أخلاقي لسياساتها الخارجية و تريد أن تبدو كدول مسؤولة لا تبارك سفك الدماء المجاني و غير راغبة في التورط في دعم نظام سائر ٳلى حتفه بحماسة.

بقي الآن من أصدقاء اﻷسد ثلاثة هم ٳيران وروسيا وٳسرائيل، اثنان منهما متورطان مباشرة في الدم السوري والثالثة متورطة أخلاقياً وسياسياً مع نظام الشبيحة في دمشق. هذا الحلف الثلاثي الشيطاني المخالف للطبيعة سائر بعكس حركة التاريخ، وهو محكوم بالتفكك في النهاية لاختلاف أهداف أطرافه.

ٳيران ترى في نظام اﻷسد امتداداً لنفوذها و مطية لمشروعها الامبراطوري الطائفي وللسيطرة على المنطقة بالتشارك مع ٳسرائيل. روسيا ترى في نظام اﻷسد بيدقاً في لعبة شطرنج دولية وزبوناً مضموناً قادراً على ضمان مصالحها في المياه الدافئة بثمن بخس. رغم ذلك امتنعت روسيا عن وضع كل بيضها في سلة اﻷسد حين رفضت تزويده بصواريخ اس اس 300 وهي عماد الدفاع الجوي الروسي.

ماذا يعني هذا ؟ هل هذا يعني أن روسيا بدأت بفك ارتباطها العضوي بنظام اﻷسد ؟

المعلوم أن أنظمة الدفاع الجوي فعالة حين تستخدم للمرة اﻷولى، فالعدو يختبرها وسوف يجد الطرق المناسبة لتحييدها، لكن بعد أن يخسر بعض طائراته وطياريه. هذا ما حصل مع صواريخ سام 5 و6 في حرب تشرين. الروس يبدون واثقين من أن ضربة ما في طور التحضير وهي تهدف لكسر شوكة نظام اﻷسد. ٳن تم استعمال هذه الصواريخ لحماية نظام الشبيحة في دمشق، فسوف يضطر الروس بعدها لتطوير كامل منظمة الدفاع الجوي لديهم والاستغناء عن صواريخ اس اس 300 التي ستصبح ضعيفة الجدوى! بالنسبة للروس، يبدو أن نظام اﻷسد “لا يستأهل” هذه الكلفة.

ٳسرائيل، التي تتمتع باقتصاد مندمج مع الاقتصاد الغربي والمرتبطة عضوياً بأمريكا، ستجد نفسها في موقف غير مريح حيث ستكون في صدام محتمل مع أقرب حلفائها السائرين، في النهاية، ٳلى مواجهة ولو محدودة مع نظام اﻷسد.

صحيح أن ٳسرائيل ترى في نظام اﻷسد خادماً مطيعاً وحارسا هماماً لحدودها الشمالية، ٳلا أن استمرار تدهور الوضع السوري وتوجهه نحو سيناريو حرب أهلية ولو منخفضة الشدة، ينذر بأيام صعبة للدولة العبرية. منذ الآن بدأت وسائل ٳعلام ٳسرائيل تتحدث عن فرار الجنود السوريين الجائعين من تخوم الجولان واقترابهم من السياج اﻹسرائيلي بحثاً عن الطعام. موقع “ديبكا” كشف أن الجنود اﻹسرائيليين يلقون ببقايا طعامهم وراء السياج حيث يتلقفه الجنود السوريون المحرومون من كل ٳمداد. كذلك راقب اﻹسرائيليون عمليات النهب المنظم للمواقع السورية المهجورة.

هذا السيناريو كارثي بالنسبة ﻹسرائيل، ٳذ أنه يجعل حدود الجولان شبيهة بحدود سيناء المجردة من السلاح مع فارق وجود أكثر من مليون جولاني حرمهم اﻷسد من كل فرصة لرؤية أرضهم، ناهيك عن الفلسطينيين. كم من الوقت قبل أن يجد اﻷسد نفسه مضطراً ﻹرسال حرسه الجمهوري المجهز جيداً لحراسة الصديق اﻹسرائيلي وترك مدن الداخل “بعهدة” قوات غير موثوقة ؟ قد يستطيع اﻷسد الاستمرار بحماية الحدود لعدة أشهر ولكن ماذا ٳذا دامت اﻷزمة لسنوات ؟

ٳسرائيل لن تكون غاضبة في حالة مواجهة بين السنة والشيعة قد تكون في صالحها على المدى الطويل، المشكلة أن هذه المواجهة ستدور على بعد كيلومترات من الجولان الذي سيتحول لبقعة ملتهبة. هذا يفسر عرض الجنرال “بني غانتز” استقبال الفارين من الطائفة العلوية في الجولان. هل في مصلحة ٳسرائيل الدخول في مواجهة مفتوحة مع اﻹسلام السني والبقاء في محور الشر مع ٳيران وروسيا ؟ وماذا ستكسب ٳسرائيل من هكذا مواجهة ؟

في مصلحة ٳسرائيل بقاء نظام اﻷسد ضعيفاً ومهدداً لكن بشرط أن يبقى هذا النظام قادراً على الحفاظ على الهدوء في الجولان وعلى ضبط الجماهير الجولانية والفلسطينية في سوريا. المشكلة أن هذه المعادلة صعبة وقد تكون المحافظة عليها مستحيلة على المدى المتوسط والطويل. تدهور الوضع في سوريا ٳلى مواجهة مفتوحة سيضعف ٳيران وروسيا سياسياً واقتصادياً دون أن يعرض أمن هذين النظامين للخطر بشكل جدي. بالنسبة ﻹسرائيل فالمواجهة ستكون على حدودها وقد تجد الدولة العبرية نفسها متورطة في المواجهة بشكل أو بآخر.

هل تلحق ٳسرائيل ٳذاً بروسيا وتبدأ بفك ارتباطها مع نظام الشبيحة في دمشق كي لا تغرق معه ؟

ضعف النتائج العلنية التي تمخض عنها مؤتمر باريس لا يعني أن السيد بشار اﻷسد يستطيع النوم ملء جفونه، مجرد بقاء الملف السوري مفتوحاً ومجرد اجتماع وزراء خارجية 15 دولة من أجل سوريا يعني أن “ورشة” تفكيك نظام اﻷسد واحتوائه سائرة في طريقها.

أحمد الشامي    http://www.elaphblog.com/shamblog  ahmadshami29@yahoo.com

نشرت في بيروت اوبسرفرالخميس 26 نيسان 2012

http://beirutobserver.com/index.php?option=com_content&view=article&id=74986:assad&catid=39:features

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى