أزمة الأنظمة السلطوية العربية
عدي الهواري
تمثل ثورة الشارع في العالم العربي مرحلة جديدة في تاريخ دول المنطقة التي كانت تبدو عصية على الديمقراطية. فرغم سقوط دكتاتوريات أمريكا اللاتينية وانهيار الأحزاب الشيوعية في أوروبا الشرقية ظل العالم العربي في منأى عن موجات التحول الديمقراطي. ولهذا تحدث الدارسون السياسيون عن “الاستثناء العربي” ووظف بعضهم المعطى الثقافي ذاهبا إلى أن الديمقراطية ثقافة مدنية وليست بناء سياسيا.
وأظهرت زيف هذه الرؤية الأكاديمية التطورات الأخيرة التي أفرزتها تغييرات لم تتفطن لها الجامعات كثيرا. فقد تغيرت المجتمعات العربية على المستويين الديمغرافي والثقافي. كما شهد ميزان القوى الداخلي، على المستوى السياسي، تغييرا هائلا على حساب الأنظمة العربية. فانتهاء الحرب الباردة وسيادة العولمة وكثافة التبادلات الدولية والتقنيات الجديدة التي غيرت العلاقات المجتمعية، حولت الأنظمة العربية إلى أنظمة بالية وسط محيط دولي متغير. فالمظاهرات الشعبية التي آلت إلى سقوط نظامي الرئيسين السابقين بن علي ومبارك وامتدت إلى بلدان أخرى، تظهر أن هذه الأنظمة لم تعد تلائم مجتمعاتها التي باتت بعد خمسين سنة من الاستقلال مجتمعات حضرية ظهرت فيها طبقات وسطى ترفض الحكومات الظالمة.
ولفهم الأزمة التي عصفت بالأنظمة العربية فلا بد من التذكير بأصلها التاريخي وطبيعة الهدف السياسي الذي أكسبها الشرعية والمعوقات التي كانت تمنعها من التناغم مع مجتمعاتها.
أصول الأنظمة السلطوية
إذا نظرنا إلى الأمور من زاوية تاريخية فسنلاحظ أن الأنظمة العربية ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية وجاءت كلها إما نتيجة النضال ضد المستعمر وإما عن طريق الانقلابات العسكرية. وتنتمي هذه الأنظمة، إذا استثينا الأنظمة الملكية، إلى الموجة الوطنية والعالم ثالثية التي حملت إلى السلطة في الخمسينيات والستينات نخبا وعدت بتحديث المجتمع وتنمية الاقتصاد على أساس غير رأسمالي. وقد وفرت لهم الحرب الباردة وسائل عسكرية ودبلوماسية مكنتهم من تعزيز مواقعهم. ويجدر بنا التنبيه إلى أن الوطنية التي كانوا تعبيرا لها هي نتاج لتاريخ المجتمعات واستجابة لتطلعات الاستقلال والتحديث. وكانت هذه الأنظمة الوطنية تحظى بدعم السكان لأنها كانت تجسد طموحا عميقا يتمثل في بناء دولة عصرية مستقلة عن القوى الغربية. وهذا الطموح هو الذي شكل قوة الدفع للناصرية وحزبي البعث وجبهة التحرير الوطني الجزائرية والحزب الدستوري الحر الجديد بتونس. وقد أدى السياق التاريخي وما يتسم به من عنف في العلاقات الدولية (الحرب الباردة، الحروب الاستعمارية، إنشاء دولة إسرائيل) إلى عسكرة المجال السياسي في مجتمعات يغلب عليها الطابع الريفي. وهكذا أصبح الجيش مؤسسة مسيسة تمنح فرص الترقي الاجتماعي لشباب حضريين وريفيين يحلمون بتحديث مجتمعهم وضمان استقلال أمتهم. وهذا هو السر في كون البعث والناصرية… استقطبا ضباطا شبابا كان يحدوهم العزم على إنشاء مؤسسات عصرية للحاق بالغرب الذي اتسع التخلف عن ركبه. وكان هذا الطموح الذي بشر به الخطاب الشعبوي يمنح النخب العسكرية مشروعية ودعما شعبيا حقيقيا. وقد شكلت الظروف الإيديولوجية والتاريخية فرصة سانحة للجيش للقيام بدور سياسي رئيسي فاختار نظام الحزب الواحد للإفلات من رقابة سلطة مدنية منبثقة عن الانتخابات. فقد اغتصب العسكر سيادة الدولة واحتموا بالحزب الواحد المفترض تمثيله لإرادة الشعب ليمنعوا بروز تيارات سياسية تعكس حياة المجتمع. فالجيش بات بمثابة المجسد لطموحات الشعب ولم يعد يسمح بأية منافسة. ولتحقيق هذا الغرض استخدم الجيش أداتين: الحزب الواحد والبوليس السياسي. فالأداة الأولى هدفها الإيهام بأن هناك حياة سياسية تعكس إرادة شعب موحد وداعم للزعيم، أما الأداة الثانية فمبتغاها مطاردة المعارضين باللجوء إلى أشد الطرق عنفا كالاغتيال والتعذيب.
باستثناء تونس كان العساكر هم قادة الدول مباشرة أو من وراء حجاب وكان همهم الأساسي إقامة إدارة تحظى بولاء جميع السلطات المحلية في المجتمع التقليدي القديم أي الزعامات القبلية والمشيخات الدينية والأسر الأرستقراطية القاطنة في المدن. وكان على كل هذه السلطات الاجتماعية أن تعترف بسلطة النظام المركزي وإدارته وأن تنأى بنفسها عن أي محاولة للدخول في منافسة معه على المستوى المحلي. وقد ظلت بنيات التضامن القائمة على النسب والقبلية قائمة لكنها لم تتعبأ يوما لمواجهة الدولة. بل على العكس من ذلك تكيفت مع الدولة الجديدة ووضعت نفسها في خدمتها لقاء امتيازات مادية ورمزية. فالثقافة السياسية التقليدية القديمة لم تختف تماما بل تكيفت مع واقع الدولة الأمة وباتت مهدا للتحالفات التي كانت النخب الحاكمة تشكلها لضمان زبونية وفية داخل الجيش والإدارة والحزب. فهيمنة العلويين على المناصب العليا في الجيش السوري كهيمنة الضباط المنحدرين من منطقة الأوراس على قيادات الجيش الجزائري في عقدي الستينيات والسبعينيات كانت الضمانة الحامية من الانقلابات العسكرية. وقد استخدمت الأنظمة العصبيات لتعزيز الدولة لا للرجوع إلى النظام القبلي السابق. ويشار هنا إلى أن السكان تبنوا مشروع الدولة الأمة على النمط الأوروبي مع سلطة مركزية تحتكر ممارسة العنف. وحتى الإسلاميين فإنهم في أغلبهم تخلوا عن حلم الخلافة التي تحكم الأمة الإسلامية الموحدة. فالإسلاميون باتوا يدرجون عملهم في إطار وطني وإن كانوا على مستوى الخطاب يلحون على التضامن مع المسلمين المظلومين وفي مقدمتهم الفلسطينيون.
لقد اضطلعت بمهمة البناء الوطني في مصر والجزائر وسوريا والعراق النخبة العسكرية فحققت الوحدة الترابية بالقوة وأقامت سلطة مركزية قوية. وكان عليها أولا أن تنشئ دولة عصرية تقوم على إدارة تبسط سلطتها على كامل البلاد وفق النموذج “الفبيري” weberien لاحتكار ممارسة العنف الشرعي. وهذا ما يسمى بالتحديث القسري الهادف إلى تعزيز ثقافة الولاء السياسي على المستوى الوطني. وكانت هذه المهمة تستجيب لتطلعات السكان الذين تمت تلبية حاجياتهم على نطاق واسع في مجالات التعليم والشغل والصحة في عقدي الستينيات والسبعينيات. وهكذا صاحب إنجاز البناء الوطني خطاب شعبوي ضَمِنَ ولاء الجماهير. فالضباط الأحرار الذين أطاحوا بالملكية في مصر بشروا بوعود بينها نقص البطالة إلى أقصى حد، وتقريب الدولة من الشعب، وجعلها في خدمته. وقد سنوا على سبيل المثال قانونا يضمن فرصة للعمل في الإدارة لكل خريجي الجامعة. وفي الجزائر قام بومدين بعد تأميمه للمحروقات التي كانت تستحوذ عليها شركات أجنبية ببناء صناعة ثقيلة وفرت مئات الآلاف من فرص العمل. وحصل الشيء نفسه في سوريا والعراق وغيرهما حيث تكاثرت فرص الشغل في الصناعات والتعليم والإدارة والخدمات وهو ما أدى إلى الحد من نسبة البطالة في عقدي الخمسينيات والستينيات. ولكل هذه الأسباب كانت الأنظمة العربية تحظى بدعم السكان رغم نظام الحزب الواحد وغياب انتخابات تعددية. وكان الزعماء كناصر في مصر وبورقيبة في تونس وبومدين في الجزائر يتمتعون بشعبية حقيقية. ولا بأس بالتذكير بأنه عندما قدم ناصر استقالته في يونيو/ حزيران عام 1967 إثر الهزيمة العسكرية أمام إسرائيل تظاهر عشرات الآلاف من المصريين لمطالبته بالبقاء في منصبه رئيسا للدولة. لكن السنوات كانت تمر تباعا والواقع يفند باستمرار فحوى الخطاب الشعبوي المروج لدولة في خدمة الشعب. لقد نكثت وعود التقدم الاجتماعي والتنمية الاقتصادية واحتدت خيبة الأمل إلى درجة حدوث قطيعة بين الدولة والمجتمع جسدت محدودية النظام السياسي المتبع.
محدودية النظام السياسي المتبع
لقد بدأت القطيعة بين هذه الأنظمة والشعوب تأخذ أبعادا سياسية مع نهاية السبعينيات (الاحتجاجات في مصر عام 1977 وتونس 1978 والجزائر 1980 وسوريا 1982…). ولم يكن الاحتجاج يشكك في مبدأ سلطة النظام المركزي بل كان يأخذ على النظام نكوصه بعهوده وعدم تلبيته المطالب الاجتماعية بشكل خاص. وهكذا بعد عقدين من التحفز الوطني (1955 ـ 1975) سادت خيبة الأمل نتيجة فشل التنمية الاقتصادية وارتفاع نسبة البطالة واستفحال أزمة السكن واتساع مشاكل المعيشة اليومية التي كانت تواجهها الطبقات الفقيرة. ولم يكن القطاع الاقتصادي نظرا لضعف مردوديته يتيح استثمارات جديدة توفر مزيدا من فرص العمل. وباتت كل المؤشرات الاقتصادية تنذر بالتردي: نمو ضعيف وبطالة متزايدة وإنتاجية متدنية، الخ. وكما كانت الحال في الدول الاشتراكية السابقة فإن اقتصاد الدولة بدل أن يؤدي وظيفته الأصلية المتمثلة في حماية السكان من آثار تقلبات السوق بات يطبعه الفساد وكساد المؤسسات وانتشار الرشوة.
وهكذا بلغ نموذج دولة ما بعد الاستقلال حده مما أثار استياء شعبيا واسعا زادته حدةً ندرةُ السلع والخدمات. ويتم التعبير عن الاحتجاج غالبا من خلال المظاهرات لأنه لم يكن بمقدور السكان إسماع صوتهم من خلال المجالس المنتخبة أو الصحافة. وكانت النخب الحاكمة تتهم بخيانة القومية وبالعجز عن تسيير الدولة بشكل يخدم الناس ويحارب الفقر. وفي الثمانينيات تبنى الإسلاميون هذه المطالب فأكسبهم الأمر قاعدة شعبية استخدموا الدين لتوسيعها فحولوا المساجد إلى منابر لنقد الفساد وسوء تسيير البلاد. وتمثلت أول استجابة للحكام في الاعتراف بأن اقتصاد الدولة فشل في إنتاج الثروات وتوفير فرص العمل. وهكذا تقرر تحرير الاقتصاد والانفتاح على الاستثمارات الخاصة الوطنية والأجنبية. فقد تراجعت تونس ابتداء من عام 1969 عن سياسة الدولة المركزية التي كان ينتهجها وزير الاقتصاد السابق أحمد بن صالح، كما تخلت مصر عن الخطاب الاشتراكي وسحبت الدولة من الحقل الاقتصادي. ورفع الاحتكار عن التجارة الخارجية لإتاحة فرصة الاستثمار أمام رأس المال الخاص. وتحت ضغط صندوق النقد الدولي قامت الدول العربية بفرض قوانين السوق من خلال الحد من عجز الميزانية وإلغاء دعم المواد الأولية وخفض المساعدات الاجتماعية. وكان صندوق النقد الدولي يصبو إلى أن يفضي الحد من نفقات الدولة إلى خفض الأسعار وإلى استقطاب رؤوس الأموال الأجنبية التي يؤمل أن تزيد من إنتاجية السلع وتحسن من وضعية الشغل.
لكن هذه الإصلاحات لم تعط أكلها لسببين. أما السبب الأول فهو أن الحكومة لم يكن بمقدورها الانسحاب فجأة من الحقل الاقتصادي وترك المجال للسوق لتتحكم فيه. فالأمر سيؤول على سبيل المثال إلى إغلاق المؤسسات الكاسدة التي تشغل عشرات الآلاف من الناس. فالاقتصاد لم يكن اشتراكيا ولا رأسماليا بل كان يجمع بين مساوئ النظامين. كما أن النظام لم يقبل بدفع الثمن السياسي للإصلاحات الاقتصادية الحقيقية ولم يكن مستعدا للتخلي عن استخدام الاقتصاد كوسيلة سياسية لإعادة توزيع السلع والخدمات لتأمين الولاء والدعم. أما السبب الثاني فهو أن رأس المال الخاص لم يستثمر في الإنتاج بل توجه إلى الخدمات والمضاربات حيث يسهل تحقيق الأرباح. وهكذا تراكمت ثروات خاصة ضخمة بفضل النشاطات التجارية والمضاربات دون أن يكون لها أثر إيجابي على الإنتاج الوطني والشغل. ولا بأس هنا بالتذكير بأن البرجوازية التي أنتجتها سياسة الانفتاح لا تشبه البورجوازيات الأوروبية في القرن الـ 19 التي تشكلت أساسا في مجال الشركات الصناعية الصغيرة والمتوسطة. فهذه البورجوازية لا تستثمر رأسمالها في إنتاج السلع المادية أي أنها لا تخلق ثروة بل تستحوذ على جزء كبير من الثروة التي كانت قائمة من خلال المضاربات. ولهذا لم تكن الطبقات الغنية تجنح للديمقراطية مخافة أن تسلبهم امتيازاتهم. فالبرجوازيات في أوروبا ليبرالية بينما هي عكس ذلك في العالم العربي. فالبرجوازيون المصريون والتونسيون والجزائريون يستمدون قوتهم وثروتهم من تحالفهم مع الحكام الذين يحمونهم. فقاعدتهم ليست اقتصادية وإنما هي سياسية. وقد أدت الليبرالية إلى انتشار الرشوة إذ أن تراكم الثروات الخاصة لم يعد مناقضا للتوجهات الإيديولوجية. لكن السماح بالإثراء في بلد لا يتمتع فيه القضاء بالاستقلال كان معناه فتح الباب أمام الفساد الشامل. وقد ازداد الوضع الاقتصادي سوءا مع الليبرالية التي أدت إلى التضخم. وتناقصت القدرة الشرائية للعمال اليدويين والموظفين كما ازدادت ظروف العاطلين عن العمل صعوبة نتيجة إلغاء دعم بعض المواد الأولية والحد من دعم بعضها الآخر. وكان النظام يحمل داخله تناقضا أساسيا: فالاقتصاد قد تحرر لكن القضاء لم يكن مستقلا. وقد شاع في صفوف موظفي الإدارة التحايل مع غياب كامل للعقاب. وتركزت الثروات النقدية في شبكات زبونية تستمد قوتها من الجيش والإدارة والحزب الحاكم. ونتيجة هذا التصادم بين الطبقات الغنية الجديدة وبين موظفي الإدارة تآكلت شعبية النظام وتعززت المعارضة الإسلامية.
كانت هناك إصلاحات سياسية تصاحب الإصلاحات الاقتصادية. ومقابل تخلي الدولة عن توفير الخدمات مجانا (السكن، الماء الجاري، الصحة…) منح المواطنون الحق في اختيار نوابهم في الجمعيات الوطنية. وبات على الناس أن يلجؤوا إلى السوق لا إلى الدولة للحصول على الدواء والمسكن ووسائل النقل… لكنه أصبح بإمكانهم اختيار نوابهم. وهكذا انخرم العقد القديم الذي كان يمنح الحقوق الاجتماعية مقابل الحقوق السياسية. غير أن الأنظمة لم تحترم قواعد اللعبة الجديدة. ولم تكن النخب نزيهة في تطبيق التعددية في مصر وتونس والجزائر… فقد زوروا الانتخابات للإبقاء على سلطتهم من خلال واجهة ديمقراطية. كانت التعددية شرعية حقا ونظمت الانتخابات فعلا لكنها زورت. ففي عالم قد تغير على الأقل منذ 1989 تاريخ انهيار أنظمة الحزب الواحد في أوروبا الشرقية، لم يعد بمقدور أي نظام الاستيلاء على السلطة إلا عن طريق الانتخابات. فقد بات من المسلم به في العالم العربي أن الانتخابات هي وحدها مصدر الشرعية وهذا تقدم بحد ذاته. وقد قبل الحكام الأمر لكنهم التفوا على الانتخابات من خلال التلاعب بإرادة الناخبين. فتزوير الانتخابات كان يعني أن الأنظمة القائمة لا تقبل بعدم ولاء الناخبين لها. فهي تلجأ إلى التزوير لتصحيح انزياحات الولاء حتى لا تضطر إلى إلغاء الانتخابات على “الطريقة الجزائرية”. ولهذا كانت تستخدم الشرطة التي بدونها لا يمكن القيام بالتزوير، والعدالة لاعتقال المحتجين، وأخيرا الجيش للقمع في حال الاحتجاجات العنيفة على النتائج أو لاعتقال منتخبي المعارضة إذا كانوا أغلبية.
ومن جهة أخرى تمت صياغة الانتخابات بشكل يجعلها لا تشكل تهديدا للنظام. فالأحزاب التي تملك مقومات النجاح يتم تحييدها إما بالحظر أو بالضغط عليها بوليسيا وقضائيا. فالترخيص لا يتم إلا للأحزاب التي لا تهدد السلطة. وكانت الأحزاب الإسلامية التي لا تقبل بقواعد اللعبة تحظر بذريعة تهديد الوحدة الوطنية والسلم المدني. وحول هذا الوضع بعض التيارات الإسلامية إلى حركات راديكالية باتت تلجأ إلى العنف، وقد عزز هذا الأمر قوة الأنظمة التي أصبحت تقدم نفسها باعتبارها درعا ضد الخطر الإسلامي وهو ما أكسبها دعم جزء من الطبقات المتوسطة فضلا عن دعم الغرب المهوس من احتمال وصول أنظمة إسلامية إلى الحكم في بلدان مجاورة لأوروبا. ومن هنا تحولت الحركات الإسلامية إلى ريع سياسي يجلب الدعم المالي، وبات قمع الإسلاميين وتعذيبهم يتم بمباركة من العواصم الغربية. ومع ذلك كان الغرب يضغط في اتجاه القيام بإصلاحات سياسية واقتصادية للحد من تزايد شعبية الإسلاميين في صفوف الطبقات الفقيرة. لكن الحكام كانوا يدركون أن القيام بإصلاحات سياسية واقتصادية حقيقية سيؤدي لا محالة إلى سقوطهم. ولهذا اختاروا الحفاظ على السلطة غير واعين بالتناقضات العميقة التي ستؤول عاجلا أو آجلا إلى انتفاضات عنيفة.
والحقيقة أن الأنظمة السلطوية العربية دخلت في أزمة عندما فقدت انسجامها الإيديولوجي. فهي من جهة قد سمحت برأس المال الخاص وقبلت بقوانين السوق لكنها في المقابل استمرت في استخدام الاقتصاد كوسيلة سياسية. كما أنها أنهت نظام الحزب الواحد لكنها زورت الانتخابات. وهنا تكمن أزمة الأنظمة السلطوية التي تجد نفسها اليوم عاجزة عن تلبية طلبات السكان الاجتماعية. ولتجاوز هذه التناقضات يلزم تمثيل مختلف التيارات السياسية في المجالس المنتخبة وهو ما لا يمكن أن يقبله حكام يعتبرون أن هناك مجموعات من السكان تسعى لتقويض سلطتهم المركزية. فثقافة النخب الحاكمة ترفض أي مشاركة سياسية لا تخضع لرقابة البوليس. فالأحزاب الحاكمة كالتجمع الدستوري الديمقراطي بقيادة بن علي في تونس والحزب الوطني الديمقراطي بقيادة مبارك في مصر والتجمع الوطني الديمقراطي وجبهة التحرير الوطني بالجزائر هي بمثابة وكلاء للإدارة مهمتها منع السكان من انتخاب ممثليهم. ولم يكن لهذه الأحزاب أي توجه أيديولوجي، ولم يكن لمنتسبيها أي قناعات سياسية بل إن الغنائم المادية التي توزعها الإدارة كانت هي وحدها التي تجرهم إلى هذه الأحزاب. وكان التجمع الدستوري الديمقراطي بقيادة بن علي يضم مليوني منتسب لكن هذا العدد الهائل لم يستطع مواجهة المحتجين في بلد لا يزيد سكانه على أحد عشر مليون نسمة. فقد فهم المتظاهرون أن هذه الأحزاب ليست سوى أصداف فارغة ولذلك كانت مقراتها أول بنايات تهاجم وتهدم.
نهاية الأنظمة السلطوية: دورة جديدة من الوطنية
يمر العالم العربي اليوم بحالة ثورية تفقد فيها الأنظمة زمام المبادرة. فهذه الأنظمة تنفعل بالأحداث دون أن تفعل فيها نتيجة تجاهلها الطويل للمجتمعات وما يمور فيها من تغييرات وتغافلها عن آثار التحديث على الاقتصاد وطموحات الشباب. فقد تبنى الشباب الوطنية التي كانت الأنظمة تدعي احتكارها وتؤسس عليها شرعيتها. فالثورات الجديدة تقول بلسان الحال إن أمانة الوطنية خانتها أنظمة بن علي ومبارك والقذافي والجنرالات الجزائريين… وإن “الشارع” أكثر وطنية ممن يتحدثون باسم الدولة. ويعكس ذلك عدد الأعلام التي يرفعها المحتجون أثناء مظاهراتهم. ولا تخفي الدلالة العميقة لاعتماد الثوار في ليبيا العلم الوطني السابق لنظام القذافي. وقد برهن الشباب أثناء الثورات على أن روح الوطنية ما زالت بالقوة ذاتها التي كانت عليها في عهد الأجيال السابقة التي كافحت من أجل الاستقلال. ولهذا كان من الصعب قمع حركات يرفع أصحابها العلم ويرددون النشيد الوطني كما حدث في تونس ومصر. ولعل هذه الثورات كانت تستقي مثلها من حركة التحرر الوطني. وكان أحد الانتقادات التي وجهها الكثير من الجزائريين إلى جيشهم أن الجنرالات الذين قادوه في عقد التسعينيات كانوا ضباطا سابقين في الجيش الفرنسي كالعربي بالخير وخالد نزار ومحمد تواتي ومحمد العمري وهم الذين ألغوا الانتخابات في يناير/ كانون الثاني 1992. فالمصدر الإيديولوجي الذي تبنى عليه الشرعية في النظام السلطوي أساسي ولذلك يسري الوهن في النظام كلما فقده.
ولدت الأنظمة السلطوية العربية من رحم الظروف الخاصة لمحاربة الاستعمار لكنها مع الوقت فقدت صلاحيتها وشرعيتها. وظلت تحافظ على بقائها في الحكم عن طريق العنف وريع النفط أو الدعم المالي للغرب. وقد أدت هذه الأنظمة دورها المتمثل في إنشاء سلطة مركزية توحد الأمة سياسيا. لكن القادة عجزوا عن تصور المرحلة اللاحقة أعني مرحلة الإشراك الشرعي لمختلف المجموعات الاجتماعية في مؤسسات الدولة. ويبقى السؤال المطروح هو: لماذا سرى الوهن فجأة في هذه الأنظمة وباتت مهددة بالانهيار؟ وللإجابة على هذا السؤال يمكن سبر غور اتجاهات عدة أبرزها التالية:
تعودت النخب الحاكمة على المصاعب الاقتصادية للطبقات الاجتماعية الأكثر فقرا وفقدوا مع الوقت الإحساس بحدة هذه المشاكل. كما طغى الفساد وانعدام الكفاءة على الإدارة التي فقدت هي الأخرى فاعليتها وباتت عاجزة عن تسيير البلاد تسييرا لائقا. وتنامى في صفوف السكان الشعور بأن همّ الحكام لم يعد تحقيق رفاه السكان الذين يواجهون البيرقراطية والفساد. لقد فقدت الثقة في النظام وووجه بالرفض فبات يلجأ إلى العنف لقمع المحتجين.
تطور الوسط الدولي ووسائل الإعلام بشكل لا يخدم الأنظمة. فمن جهة أصبحت القنوات الفضائية وكاميرات الهواتف النقالة تفضح استخدام القوة في قمع المتظاهرين. ومن جهة أخرى باتت المنظمات المدنية الحقوقية أكثر جرأة وقدرة على إدانة الاعتقالات التعسفية والتعذيب. فبيان من منظمة العفو الدولية أو منظمة “هيومان رايتس ووتش” بات بمثابة إدانة. لقد تقلص هامش المناورة في مجال القمع لدى هذه الأنظمة التي لم تكن تحكم إلا بالقمع والترهيب.
تغيرت صورة الإسلاميين ولم يعد ينظر إلى الأنظمة بوصفها دروعا ضد العنف الإسلامي. بل إن الرأي العام الوطني بما فيه الطبقات الوسطى بات ينظر إلى الإسلاميين بوصفهم ضحايا خاصة في تونس ومصر والجزائر. ففي الجزائر مثلا قتل في عقد التسعينيات آلاف الإسلاميين دون أن تتم محاكمتهم وفقد الكثيرون منهم. كما أن خطاب الإسلاميين السياسي قد تغير وبات يتخذ من حقوق الإنسان واحترام التعددية والديمقراطية مراجع له. كما حرص خطابهم على إدانة العنف. ولهذا لم يعد ينطلي على أحد ادعاء بن علي وبوتفليقة ومبارك بأنهم حماة للحرية من الإسلاميين.
هناك أيضا تطور لدى العسكر الذين بدؤوا يعون بأنهم يدافعون عن أنظمة فاسدة رغم أن بعضهم استفاد من الوضعية فأثروا وأثرت أسرهم. وكان الجيش يستخدم كحزب سياسي ويتماهى مع النظام. لكن أجيال الضباط الجديدة أدركت أن الجيش مؤسسة للأمة لا للنظام. وهذا ما يفسر كون الجيش في تونس ومصر لم يطلق رصاصة واحدة على المتظاهرين. وبفضل طول احتكاكهم بزملائهم في الغرب أصبح العسكريون أكثر حرفية وباتوا يدركون أن الانتخابات الحرة، كما أوضحه المثال التركي، ليست خطرا على الأمة حتى ولو كان الإسلاميون هم الفائزين.
وفي الخلاصة فإن العالم العربي يحاول تجاوز تناقضات خصخصة الدولة. فالوطنية في القرن العشرين أنشأت أمما مستقلة استقلالا شكليا. أما الوطنية في القرن الواحد والعشرين فتصبو إلى إنشاء دول القانون. وسيدفع الحكام ثمنا ثقيلا (الهجرة، المتابعات القضائية) لاعتقادهم بأن الدولة يمكن أن تخصخص بغير حساب. ولفهم ما حدث في تونس ومصر وليبيا لا بد من الانطلاق من اعتبار تاريخي. ففي عقدي الخمسينيات والستينيات كان الطموح إلى بناء أمم ذات سيادة هو الذي فجر حمى الوطنية التي غشيت المنطقة. وقد استمدت النخب الوطنية حينئذ شرعيتها من هذه المهمة التي أنجزتها فعلا. فقد استولت تلك النخب على السلطة لتحقيق أهداف يريدها السكان. فناصر وبورقيبة وبومدين كانوا يتمتعون بشعبية معتبرة وكانت صورهم تزين الصالونات المتواضعة لأسر الطبقات المتوسطة والفقيرة. ولم يترك هؤلاء القادة بعد وفاتهم أي ثروة خاصة. فلم تكن لهم حسابات مصرفية خاصة ولا مساكن عائلية شخصية. أما الحكام الذين خلفوهم فقد اشتهروا بحب الرفاه وبتكديس الأموال الخاصة. ولا تعود الفروق بين الجيلين إلى تفاوت في نفسيات الأفراد. فالزعماء الأول طبعهم الكفاح الوطني بميسمه الخاص أما خلفاؤهم فهم نتاج الأجهزة الإدارية ولم يكونوا سياسيين وإنما مسيرو ميراث حاولوا الاستفادة الشخصية منه. فقد كان بورقيبة مناضلا وطنيا صادقا تماهى مع تونس. أما خليفته بن علي فقد كان شرطيا وانتهازيا استخدم تونس لمصلحته الشخصية.
عدي الهواري-أستاذ في مؤسسة الدراسات السياسية في ليون، باحث في (CERIEP) و(GREMMO)، بفرنسا.
المصدر: مركز الجزيرة للدراسات