أسرى أعزاز وحرائر سوريا/ ربيع بركات
شكلت «صفقة أعزاز» خاتمة سعيدة لأسرى جانبيها، إلا أنها أبرزت بعضاً من أكثر مظاهر الحرب السورية بشاعة. ولم يكن الدافع وراء إتمام الصفقة إنسانياً بحتاً، فقد رافقها ابتزاز سياسي وتلاعب إعلامي على الضفتين، أريد منهما إخفاء الكثير من معاني الخطف والخطف المتبادل، وتسويق سرديات تفيد كلاً من أطراف الحرب الأهلية المشرقية. غير أن التلاعب المذكور، مرفقاً بالمقدمات الإنسانية للمسألة، هما، بالضبط، ما يجعلانها مرآة لعفونة الواقع.
بداية، يفيد التذكير بأن مطالب الخاطفين في «أعزاز» تحولت عما كانت عليه مطلع الأمر، مع تواصل الشد والجذب بين رعاة الخطف الإقليميين والمستهدفين منه. فبعدما كانت الأثمان المتوخاة سياسية، تستهدف «حزب الله» بالذات، تراجعت لتحصيل ثمن إنساني، تمثل بالإفراج عن أكثر من ستين سجينة سورية (بانتظار الإفراج عن المزيد) وتشاركت في إنجازها معدّلة عوامل ميدانية تمثلت بتقدم تنظيم «داعش» وتصفية «لواء عاصفة الشمال»، خاطف اللبنانيين في الشمال السوري، إضافة إلى احتجاز طيارين تركيين على الأراضي اللبنانية بغرض المبادلة.
غير أن ذلك لا يمنع من الإضاءة على أن ثمن الإفراج عن المخطوفين كان إطلاق عشرات الأسيرات اللواتي تعكس قصصهن ظلام الأجهزة الأمنية السورية وأقبيتها، وأن بعض هؤلاء احتجز بناء على مضبطة اتهامية، تكفي وحدها لشرح أسباب الأزمة السورية وبداياتها كـ«مؤامرة» لنيل حقوق إنسانية بديهية. ومن هذه «المؤامرات»، على سبيل المثال لا الحصر، كان «تجنيد فتاة في الخامسة عشرة من العمر عن طريق ضابط نمساوي يعمل في قوة الأمم المتحدة لمراقبة فض الاشتباك في هضبة الجولان»، وفق بيان الخارجية السورية الذي شرح «ملابسات» اعتقال المدونة الشابة طل الملوحي العام 2009، وهي التي حُكمت بالسجن لخمس سنوات رغم كونها قاصراً، وبناء على اتهام يدين صاحبه بالتسلط على أبسط أدوات القول والفعل، أولاً وقبل كل شيء.
وقد كان لتعاطي النظام الاستخباري مع قضية الأسيرات وسائر أسرى الحراك المدني، وتسويقه روايات خيالية حول أسباب الاعتقال (كما جرت العادة)، صدىً مقابلاً لدى معارضة الخارج ومعاونيها في الداخل. فأنتج الأخيرون، بأسلوب لا يقل رداءة في كثير من الأحيان، خطاباً مماثلاً لناحية تبرير خطوات أو التملص منها، أو القفز بين التبرير والتملص بـ«براغماتية» هزلية. فكان أن بدأت قصة المخطوفين اللبنانيين بقول المستشار السياسي في «الجيش الحر» بسام الدادا إن زعيم الجماعة الخاطفة، عمار داديخي (أبو ابراهيم)، «مسؤول عن ميليشيا ولا علاقة له بالجيش الحر»، فيما أصدر «المجلس الوطني السوري» بياناً يقول فيه إن أخباراً وردته «تشير إلى أن المخطوفين ليسوا مدنيين مئة في المئة بل شاركوا في تدريبات»، مصدقاً بذلك على رواية «لواء عاصفة الشمال» الأولية التي زعمت وجود خمسة ضباط من «حزب الله» في عداد المحتجزين، وسوّقتها أجهزة إعلام عربية.
غير أن «لواء العاصفة» سرعان ما ثبّت نفسه كجزء لا يتجزأ من «الجيش الحر» في ظرف زمن قصير. وسقطت إثر ذلك بيانات «المجلس الوطني» التي كانت قد تبرأت من «اللواء» وكاد بعضها يتهمه «بالعمالة للنظام» (ورد هذا الاتهام على ألسنة معارضين يدورون في فلك «المجلس الوطني»). وظهرت على زعيمه «أبو ابراهيم» عبقرية في إدارة ملف الاختطاف وتسويقه إعلامياً وإشباع المخطوفين بـ«عارض استوكهولم» ومشتقاته. وأريد للمراقب أن يصدق أن الرجل الذي توجه غير مرة إلى «وسائل الإعلان» (كان يخطئ التعبير كل مرة)، خبير في الإعلام وأدواته وسيكولوجيا المشاهدين، وأن القضية غير متابعة أمنياً واستخبارياً من الدول التي لعبت دوراً في الإفراج عن المخطوفين لاحقاً (تركيا وقطر).
وقد ترافقت أزمة المخطوفين مع ارتفاع في حدة التجييش الطائفي. فسُلطت الأضواء على هوية المحتجزين المذهبية واعتبرت قرينة تسمح بالاشتباه بـ«علاقتهم بالحرس الثوري الإيراني»، وفق ما دللت عليه أولى بيانات «لواء العاصفة» التي سوغت عملية الاعتقال (وقد سوغت جماعات أخرى عمليات القتل أخذاً بذات المعيار). وفي حين أخذت بيئة المخطوفين في لبنان تنسج مظلوميتها الخاصة من الرواية، راح الخاطفون (أو المتعاطفون معهم) يركزون على سرديتهم ـ المحقة أيضاً ـ حيال مئات أو آلاف المعتقلات في سجون النظام. وبعدما فشلت جهودهم لنيل ثمن سياسي، كان رعاتهم الإقليميون يمنون النفس به، أخذوا يضغطون عبر ورقة المحتجزين لاسترداد ما تيسر لهم من «حرائر سوريا» المحتجزات. وزاد الشرخ بين الروايتين مع توظيف كل منهما من أجل شيطنة الفريق الآخر في معادلة الخطف. ولم ينفع الجهد المبذول لتسويق رواية محبوكة في الإعلام حيال «الضيوف اللبنانيين» لدى خاطفيهم، في تعديل مزاج جمهور حزب الله من المسألة، بمثل ما فشل الطرف الآخر في تقديم شرح مقنع لإصرار النظام السوري على احتجاز ناشطات خلف قضبان عفنة.
ويصح القول إن معظم الجراح التي برزت مع القضية هي نتاج العنف السوري المتمادي وتذبذب مؤشرات حل قريب، وهي لن تندمل أثناء المواجهة المستمرة ولا حتى بعيد انتهائها رأساً. غير أن المسألة أظهرت إمكانية المباشرة بمداواة أحد هذه الجراح قبل أن يضع النزاع أوزاره. والحديث هنا عن قضية المعتقلين لدى الجانبين، وعلى رأس هؤلاء الأسيرات القابعات داخل سجون الأجهزة الأمنية. وقد فتح احتمال جدي من هذا النوع للمرة الأولى إثر مبادلة ثمانية وأربعين مخطوفاً إيرانياً بنحو ألفي معتقل سوري قبل نحو عشرة أشهر، لكن الإجراء هذا ظل معزولاً ولم يستكمل بمبادرات مماثلة تخص سوريين من دون سواهم (وبعضهم أسرى لدى المعارضة)، علماً أن شأناً من هذا النوع يحتاج إلى دخول اللاعبين الإقليميين المعنيين بالحرب بصفة وسطاء على الخط، وهو ما لا تبدو الأرضية مهيئة له راهناً مع «استياء» الرياض من ضعف حصتها من مغانم التسوية المحتملة.
يبقى الأكيد أن تهيئة مسرح من هذا النوع ممكنة، ولو ببطء، عن طريق منظمات دولية معنية بشؤون الأسرى وتطبيق قواعد «القانون الإنساني الدولي» (في أيلول 2011، سمح لوفد من «الصليب الأحمر الدولي» بزيارة معتقل عدرا في دمشق للمرة الأولى منذ بدء الاحتجاجات، لكن المبادرة أتبعت بخطوات متقطعة لم ترقَ إلى مستوى العمل المنظم). عندها، يصبح الإفراج عن «أسرى إعزاز» مقدمة لسلسلة من الإجراءات التي تفيد في ضمور المناخ الذي عززه احتجازهم، وضاعفه، قبل هذا الاحتجاز، حجب النور عن مئات المعتقلات السوريات.
السفير