أسلمة الثورات؟
نادر قريط
في صيف 1788 وأثناء نزهته اليومية، شاهد كانط أفراخا من السنونو وقد تمزقت إربا، ففي ذلك الصيف البارد ندرت الحشرات وإضمحل الغذاء، الأمر الذي دفع السنونو إلى طرح أفراخه خارج الأعشاش؟ فأصيب الفيلسوف بالذعر، وأدرك أنها قوانين الطبيعة! حينئذ لمعت له فكرة كتابه الشهير: أسس متافيزيقية الأخلاق، وفيه يختصرالواجب الأخلاقي بمقولة: تعامل أو اسلك وفق مبادئ الإرادة، كما لو أنك تريدها قانونا عموميا ساريا على الجميع.
ولإختبار ذلك، كان لابد من سيادة قوانين العقل، المشروطة بإستقلال الإرادة (أي تحقق الحرية: بمعنى الإنصياع لقانون وليس لأهواء) فما يُميز الإنسان هو عقل ضابط لغرائزه، والحرية تتمثل بإستقلاله عن أسر الطبيعة الغريزية. لذا فإن منابع الأخلاق تكمن في الحرية، والأخلاق ليست بحاجة لعلّة تبررها.. ومن ينشدها عبر مسوّغ ديني فهو حسب كانط إنسان تافه.
سبق لكاتب السطور أن ردد هذا الكلام، في غمرة النشوة بالثورة التونسية، التي جسدت إنتصار الواجب الأخلاقي، ذلك أن التوانسة رفضوا رؤية البوعزيزي يُطرح خارج العش ويُمزق إربا. فتربة تونس كانت ممهدة لضبط غرائز السلطة المتوحشة وإسقاطها.. لكن ماذا عن مجتمعات عربية أخرى؟! وكيف تنضج الثورة إذا كان الإسلام في مستوياته التاريخية والفقهية، مازال مكبلا بقيود تتعارض مع القيم الكونية لحقوق الإنسان. فهل يستوعب الفكر الإسلامي شرط المواطنة كأساس للدولة؟ وهل يستوعب حرية الضمير (والإعتقاد) ومساواة المؤمن بالكافر؟! أوليس تعدد الزوجات وحد الردة وقطع اليد ودونية المرأة وأهل الذمة وغيرها من المفردات المدججة ب “قال تعالى” مصادرة لمبادئ الأخلاق؟
لا شك بأنها أسئلة حيوية! وإن كانت المشكلة في تونس أخف وطأة من وساوس العفيف الأخضر، فالمجتمع فيها متجانس ومثقف نسبيا، والإسلام السياسي لم يحصد سوى ثلث الأصوات والسلفية فيها أقل عددا من النيو نازي في ألمانيا. لكن ماذا عن مصر التي تأسلم برلمانها حتى عنق الزجاجة، وكيف نختبر الواجب الأخلاقي، هناك حين تزدحم الأرصفة بالمصلين (نهارا) وبالمشردين (ليلا) وحيث تكون الصلاة فرض عين، بينما إيواء طفل مشرد فرض كفاية!
ماذا عن سورية كنموذج مركب للتعدد (الديني والمذهبي والإثني) والتوحّد (قلب العروبة) والممانعة وإسرائيل ؟
ها هنا تصبح الإجابات مواربة وملغومة وتفضح لاوعي الكتاب..فالحدث السوري أنتج إنقساما حادا عنيفا يوازي حدة المكبوت وعنف السلطة. فجأة أصبح الربيع العربي نذير خراب وحرب أهلية.. وباتت الكتابة إنقساما فجا يعكس بنية العصبيات وخارطة المذاهب والأديان. وبرغم قدرة المثقف على التمويه (الوطني) والمراوغة، نقرأ بين السطور فأفأة شعرية تبرر فظائع الديكتاتورية، وتلتمس الأعذار للقتل والجرائم بحجج التقدم والعلمانية (وفلسطين)
أحد هؤلاء الشعراء، لا يؤيد الثورة إلا بعد فصل الدين عن الدولة (وخروج المظاهرات من دور الأوبرا الحورانية) وبعد مساواة المرأة بالرجل، وبعد أن يقسم الناس على السلمية ورفض التدخل الأجنبي، مع أن الرجل لم يُخفِ تعاطفه مع ثورة الإمام الخميني، ولم يتأفف من ولاية الفقيه، إضافة إلى أنه يعيش ويحلم بجوائز ذلك الغرب الملعون، المتهم بمؤامرة إسقاط النظام (وتدمير صناعة العلكة الوطنية)
أحد كبار التنويريين، لا يرى ربيعا ضاحك الأزاهير، إلا بعد أخذ إمضاء فولتير وروسو، وبعد تنقية الإسلام من شوائب الزمن، وكأن به يضع العربة أمام الحصان، متناسيا أن الثورات لا يمكن تفصيلها حسب الذوق، والحدث أيا يكون هو صيرورة بذاته وأمثولة لنفسه.. فالثورة الفرنسية مثلا، لم تكن فولتيرية تماما كشعاراتها، حتى وإن جسدت وعيا نخبويا بالعدالة والمواطنة وقيم الجمهورية، فهي رغم كل شيئ، حدث تاريخي أشعله الفقر وجنون أسعار القمح، ولا غرابة أن تبدأ تلك الثورة بأصوات نساء فقيرات أميّات، لم يسمعن قط بعقد روسو، بقدر سماع عويل أطفالهن الذين عضهم الجوع، فهاجمن القصر الملكي في ضواحي باريس وسرقن حتى الطناجر والستائر والأغطية.
هكذا هي الثورات، حدث بركاني.. وطبقات مظلومة ومضغوطة تقلب بالعنف سكونا ظالما. فعلام نطالب الحمم بالرومانسية!! كذلك كانت الثورة الإيرانية ساعة إنقلب مهمشو العجم، على طبقة الشاهنشاه المستعجمة والمُترفة، وأصبحوا أئمة الأرض (“إنقلاب” الفارسية هي ترجمة دقيقة لمعنى Revolution)
لقد كانت الطبقة المستغلِة في أوروبا القرن 18 تتألف من إقطاعيين نبلاء، وكنيسة تسيطر على نصف الأراضي. لهذا مثّلت الثورة الفرنسية عداءا سافرا للدين وإنتقاما وحشيا من الإكليروس. أما في بلادنا فإن طبقة النبلاء تختلف تماما، إنها أولغاريشية علمانوية جشعة منفلتة من كل الضوابط الأخلاقية والقانونية، وطفيلات تعيش على نهب الثروة وقوت الناس وجهدهم. إذاً، الدين ليس محورا آنيا في الصراع الإجتماعي، لأنه ببساطة لا يملك أراضي ومصانع وأقبية مخابرات كي تثور عليه الجماهير. إنه كيان لغوي، وطقوس ومساحة للهوية، يبتزها الجميع ويوظفها كلّ حسب هواه (سلطة ومعارضة) وفي أمريكا اللاتينية لم تكن الكنيسة في مرمى الثوار قط، بل على النقيض تماما، فقد كان لاهوتها التحريري جزءا من التراث التحرري لتلك القارة.
من هنا يستعصي عمليا إشتراط العلمنة والثورة معا كما في طبعتها الفرنسية الشرسة
إن الهدف الأقصى للتنوير حسب كانط هو: “بلوغ الرشد بإعتماد العقل، والقدرة على التفكير الذاتي المستقل والممارسة النقدية المتواصلة” وهذه صيرورة طويلة لا نهائية للمجتمعات والأجيال، بعكس الثورة فهي حدث يولّده الإحتقان والتطاحن الإجتماعي المرير، وقد يكون الدين أداة للثورة أو خصما لها، لذا فإن إشتراط فعل التنوير على الثورة هو ترف فكري، لأن هدف الثورة، رفع المظلومية والحيف، وإجتثاث أسبابها وهذا لا يتحقق في زمننا إلا بإقامة دولة القانون، سيما وأن فقه الدولة الحديثة بات يُقدّم “القانون” على سواه، ويضعه شرطا للديمقراطية وإطارا للحرية.
إننا بالتأكيد أمام حقبة سوف يتصدرها الإسلام السياسي، لأنه ببساطة يحتكر لغة الوعي الجمعي، ولمزيد من الموضوعية فإننا أمام كوكتيل من البرغماتية والدوغمائية والأبوية المُستحدثة، وهذه فرصة تاريخية للعقل الديني كي يخرج من “كهف” الماضي، وأن يشمر أصحابه عن إيمانهم، ويستسقوا السماء ويملؤوا الحقول سنابلا، فالعمران هو مقياس الأمم والحضارات، وفي الإمتحان يُكرم المرء أو يُهان.. وبكل تأكيد ستظل أهم مقولات الحداثة سدا يحجب ناظرهم، لكنها فرصة ذهبية كي يثبتوا: أن جاهلا بالحداثة، أكثر رحمة وإنسانية من وحش يتستر بها.