أصدقاء أمريكا في العالم المسلم: حلفاء… أم ضرع بقرة خامس؟/ صبحي حديدي
يُنسب إلى هاري ترومان، الرئيس الأمريكي الثالث والثلاثين، هذه العبارة: «أنظروا إلى جميع نوّاب رؤساء الولايات المتحدة، أين هم؟ لقد كانت فائدتهم أشبه بضرع خامس لدى بقرة!». وفي توصيف المنصب ذاته، روى توماس مارشال، نائب وودرو ولسون، الرئيس الثامن والعشرين: «كان يا ما كان، كان هناك شقيقان، أحدهما اتجه إلى البحر، والثاني صار نائب الرئيس، فلم يُسمع عن أيّ منهما بعدئذ!». أمّا سبيرو أغنيو، نائب ريشارد نكسون، الرئيس التاسع والثلاثين، فقال: «خلال الأسبوع الماضي اتخذت خطوة غير عادية بالنسبة إلى وظيفة نائب الرئيس: لقد نطقت ببنت شفة!».
جو بايدن، نائب باراك أوباما، الرئيس الحالي الرابع والأربعين، فقد مازح طلاب «معهد السياسة» في جامعة هارفارد، الأسبوع الماضي، فاعتبر أنّ المنصب يداني مهنة البغيّ Bitch؛ وكان يردّ على سائل قدّم نفسه بصفة نائب رئيس الهيئة الطلابية في الجامعة، فقال: «أليست هذه مهنة بغي؟ اعذرني، أقصد هذا الشيء المسمى نائب الرئيس». الأمر الذي لم يمنعه، في المقابل، من الخوض في مسائل لا صلة لها البتة بالمزاح، مثل السياسة الخارجية الراهنة للولايات المتحدة، والتحالف الدولي الذي تقوده واشنطن ضدّ «داعش»، ومعضلات التجارة الحرة، وانتشار وباء إيبولا، و… «المشكلة الأكبر» للولايات المتحدة في سوريا، التي يتسبب بها حلفاء أمريكا الأساسيون في الشرق الاوسط.
هنا أحد ردود بايدن على بعض أسئلة الحضور: «ماذا كانوا يفعلون [أولئك الحلفاء]؟ لقد صمموا على الإطاحة بالأسد، وجوهرياً إشعال حرب سنّية ـ شيعية بالإنابة، فماذا فعلوا؟ صرفوا مئات الملايين من الدولارات، وعشرات، بل آلاف الاطنان من الأسلحة إلى كلّ من أراد محاربة الأسد ـ ما عدا أنّ الناس الذين تمّ تزويدهم بهذه كانوا من النصرة والقاعدة والعناصر المتطرفة من الجهاديين القادمين من كلّ أرجاء الأرض». ردّ آخر، أكثر خطورة في منطقه، وإنّ كان أشدّ حماقة، سار هكذا: «أفلح الرئيس في توحيد تحالف من جيراننا السنّة، لأنّ أمريكا لا تستطيع مجدداً الدخول إلى أمّة مسلمة والظهور بمظهر المعتدي. توجّب أن يقود السنّة في مهاجمة منظمة سنّية. فما الذي لدينا للمرّة الأولى…».
هنا ينقطع شريط الفيديو، المتوفر على الموقع الرسمي للبيت الأبيض، والذي يظلّ المصدر الوحيد للواقعة، خاصة وأنّ وسائل الإعلام الأمريكية غفلت عن، أو تجاهلت عامدة، هذه التصريحات المثيرة؛ ولولا افتضاحها أولاً، على شاشة القسم الإنكليزي للفضائية الروسية، لبقيت طيّ الكتمان أو التعتيم. صحيح أنّ بايدن سارع إلى الاعتذار، عبر نصّ رسمي قرأته كيندرا باركوف، الناطقة باسمه، بعد أن انتشرت تصريحاته في الصحافة التركية، وصدر عن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ردّ فعل عنيفاً وتوبيخياً؛ ولكن ما فائدة اعتذار دبلوماسي منافق، يمتدح أردوغان شخصياً، والحلفاء صنّاع «المشكلة الأكبر»، ما دام لسان بايدن قد نطق وافصح وأبان، والسيف سبق العذل؟
هذه، إذاً، مناسبة أخرى لاستعادة سؤال قديم، متجدد أبداً، حول المكانة الفعلية لأصدقاء أمريكا في أنظمة العالم المسلم: أهم حلفاء، حقاً، لهم ما كسبوا وعليهم ما اكتسبوا؛ أم هم، في نهاية النهار، أشبه بضرع بقرة خامس، افتراضي بالطبع، على غرار وظيفة نائب الرئيس الأمريكي في عبارة ترومان الساخرة؟ وهي، من جانب آخر، تذكرة بتلك الحماقات الفاضحة التي ينساق إليها غالبية ساسة أمريكا، والغرب إجمالاً، كلما تعيّن أن يتفاصحوا حول مذاهب الإسلام عموماً، والانقسام السنّي ـ الشيعي خصوصاً. الأسهل، لأنها أيضاً الأعلى جاذبية، تلك الصيغة التي تحيل «داعش» إلى طرف سنّي، لا مفرّ من محاربته عبر أطراف سنّية؛ وكأنّ جرائم التنظيم في الموصل وسنجار وكوباني، بل أينما توغلت المنظمة الإرهابية، كانت تستهدف الشيعة حصرياً، وليس مسيحيي الموصل، وسنّة الكرد، والإيزيديين الذين ليسوا شيعة في كلّ حال.
فاضح أيضاً أن يتحدث بايدن عن «آلاف الأطنان» من الأسلحة، التي قدّمها حلفاء أمريكا، صنّاع «المشكلة الأكبر»، إلى كلّ من أراد قتال الأسد؛ لا لأنّ أطناناً من الأسلحة لم تصل إلى صفوف المعارضة المسلحة على اختلاف فصائلها، فهي قد وصلت بالفعل، ولكن لأنها لم تكن بالآلاف كما يزعم نائب الرئيس الأمريكي، وإلا لكانت حال النظام العسكرية غير ما هي عليه، جذرياً. وفاضح، استطراداً، أن يتناسى بايدن حقيقة ساطعة تشير إلى أنّ أرقى صنوف الأسلحة والذخائر ـ الأمريكية منها، تحديداً، وربما حصرياً ـ إنما غنمتها «داعش» في حروبها مع جيش رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي، أو بالأحرى جرّاء انسحاب ذلك الجيش من أية مواجهة عسكرية فعلية مع ميليشيات البغدادي.
وذات يوم غير بعيد، بدا لافتاً أنّ أوباما ـ المنتخَب حديثاً، كأوّل رئيس أسود في تاريخ الولايات المتحدة ـ اختار البرلمان التركي (وليس الأندونيسي مثلاً، كما قالت ترجيحات مبكرة) لمخاطبة العالم المسلم، ولإعادة ترسيم العلاقات المستقبلية بين البيت الأبيض وهذا العالم، في مستوى شعوبه وقضاياها الكبرى، إسوة بأنظمته ومصالحها الصغرى. وكان أوباما قد استبق الخطوة بإعادة تأكيد الموقف الأمريكي لإدارتَيْ جورج بوش وبيل كلنتون، حول ضرورة انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي: «يجب على الولايات المتحدة وأوروبا الاقتراب من المسلمين بوصفهم أصدقاء لنا، جيراننا وشركاءنا في محاربة الظلم، والتعصّب، والعنف»، قال أوباما في براغ.
لكنّ خطبة أوباما أمام البرلمان التركي هي التي تولت التشديد على البُعد الثقافي (الديني والحضاري والتاريخي، في معانٍ أخرى) وراء خطوة كهذه بصفة خاصة، ثمّ إبراز الخلفية الستراتيجية والجيو ـ سياسية لعلاقة الغرب بالعالم المسلم، وبالإسلام عموماً. ولسوف يقول، في مثال أوّل: «ما يربط تركيا بأوروبا هو أكثر من مجرّد جسر على البوسفور. تجمع بينكم قرون من التاريخ المشترك، والثقافة، والتجارة. وأوروبا لا تضعف، بل تكسب، من تعددية العرق والتراث والعقيدة. وعضوية تركيا سوف توسّع وتقوّي الأساس الأوروبي من جديد». وفي مثال ثانٍ، أوضح ربما، أعقب التأكيد على أنّ أمريكا ليست في حرب مع الإسلام، قال أوباما: «سوف نصغي بانتباه، وسوف نجسر سوء التفاهم، وسنسعى إلى أرضية مشتركة. وسوف نلتزم بالاحترام، حتى عندما لا نتفق. ولسوف نعبّر عن تقديرنا العميق للعقيدة الإسلامية، التي فعلت الكثير في صياغة العالم على مرّ القرون، بما في ذلك داخل بلدي».
فهل، في الحصيلة، بلغ أوباما غايته وخاطب العالم المسلم، بروحية رأب الصدع الذي زادت في اتساعه سياسات سلفه بوش على مدى ولايتَيْن، انطوتا على غزوَين وحربَيْن في ديار الإسلام؟ أو، في صياغة أخرى للسؤال ذاته، هل أمكن لنبرة الانفتاح على تركيا، ثمّ تكرار النبرة ذاتها في خطبة جامعة القاهرة، أن تؤتي ثمارها في المدى المنظور، سواء في تلك الولاية الأولى، أم في الثانية التي ينقضي نصفها؟ وفي نهاية المطاف، وهل نجح هذا العطّار ـ ذرب اللسان، حسن النوايا، سليل أب مسلم… ـ أن يصلح ما أفسدته دهور، سبقت بوش الابن وبوش الأب، لكي لا يرتدّ المرء إلى جورج واشنطن نفسه، أوّل رئيس أمريكي؟
لا يحتاج المرء إلى تصريحات بايدن الأخيرة لكي يجيب، دون إبطاء، ليس بالنفي القاطع، فحسب؛ بل كذلك بالافتقار إلى أيّ ضرع يحكم علاقة أمريكا بحلفائها في أنظمة العالم المسلم، فما بالك بضرع خامس!
٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس