أطوار الليبرالية الغربية والطبقات الوسطى… من ازدهار إلى ذواء/ إدوارد لوس
لم تكن الأنظمة الديموقراطية الغربية على الدوام قوية. ففي أوقات من الحرب الباردة شابت هذه الديموقراطيات هشاشة بالغة. ولكن اتفاق وارسو ساهم في رص صفوف الغرب وحمله على الانشغال بتحسين أحوال سكانه. وكان النموذج الغربي في تنافس مع النموذج السوفياتي، ووجب على الأول تجسيد ما هي عليه الأيديولوجيا الليبرالية. ولكن اليوم، المشكلات تشق صفوف الغرب. والعلة الأبرز وراء الجَزَر (التراجع) الديموقراطي والانحسار هي نتائج حرب العراق الكارثية. فجورج دبليو بوش (الرئيس الأميركي) وتوني بلير (رئيس الوزراء بريطانيا) تذرعا لشنّ الحرب بمكافحة أسلحة الدمار الشامل ونشر الديموقراطية في الشرق الأوسط. وشوّه افتقارهما إلى الكفاءة والنزاهة صورة «الديموقراطية»، وأنزلا بها ضرراً بالغاً. والعلة الثانية وراء انحسار الديموقراطيات هي الأزمة المالية في 2008. وبقيت الصين وغيرها من الدول في منأى عنها، ولم تتأثر معدلات النمو فيها وفاقت العشرة في المئة. فالانكماش أو الركود لم يكن عالمياً ولا شاملاً بل اقتصر على ضفتي الأطلسي. فتعاظمت جاذبية نموذج النمو الصيني الاستبدادي. وترافقت هذه الجاذبية المتعاظمة مع تدفق الاستثمارات الصينية على أفريقيا وأميركا اللاتينية وآسيا.
والحق يقال أن الصين هي أكبر المستفيدين من العولمة، في وقت أن الأميركيين انتخبوا رجلاً يلفظ النظام الذي أرسته أميركا. ويرفع الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، لواء «أميركا أولاً»، أي بتر أذرع أميركا وإلحاق الأذى «الذاتي» بها. وإلى وقت قريب، كنا على قناعة راسخة بأن النجاح في اقتصاد خدمات هو رهن حرية الابتكار، أي حرية التعبير؛ وأن الليبرالية الاقتصادية تتعذر من غير ليبرالية سياسية. ولكن نموذجي الصين وسنغافورة، وهما في أحسن الأحوال شبه ديموقراطيات، أثبتا خلاف هذا الحسبان، وصار كل منهما علامة على النجاعة وصنو النمو.
ومنذ السبعينات، زاد العائد الفردي في آسيا خمس مرات، وتضاعف مرتين في أفريقيا، ولكن مستوى عيش الطبقات الوسطى الغربية تدنى. وقياساً على مؤشر العمالة الذي صاغه الاقتصادي روبرت فرانك، كان على العامل المتوسط الأميركي العمل 45 ساعة في 1950 ليسدد كلفة سكن متواضع في كبرى المدن الأميركية. واليوم، عليه أن يعمل 101 ساعة. وفي أوساط اليد العاملة الغربية المتوسطة الكفاءة، هذا التغير بنيوي ومستدام. وتمس الحاجة إلى مشروع مارشال جديد يحسن أحوال الطبقة الوسطى- وهذا استثمار مستدام في سبيل اكتساب الناس مهارات جديدة- وإلى تجديد نظام الحماية الاجتماعية ليحمي العمال في اقتصاد تغلب عليه وظائف صغيرة موقتة ومرنة مثل وظائف «أوبير» وخدمات التوصيل. والشعبويون يرغبون في التضحية بمكاسب العولمة لحماية وظائف لم تعد موجودة وسبق أن تبددت. ووفاضهم خالٍ من حل لتحديات تترتب على الأتمتة، وهذه خطر يفوق أخطار رفع القيود عن التجارة والتبادل الحر. ومثل هذا الحل يُبلغ من طريق نظام ضريبي متصاعد في الدول الأنغلو– ساكسونية.
وحين يصنف المرء الناس تصنيفات إتنية وعرقية، يفرِّق ويرسي الشقاق عوض أن يجمع. فما يسمى «التفوق السكاني» اليساري- أي تعاظم حجم الناخبين من غير البيض في كل انتخابات وتراجع المحافظين- ينفخ في البيض شعورهم بأنهم أقلية. وهذا الخطاب يلعب بنار الهويات، وهو بالغ الخطورة. وخسارة هيلاري كلينتون هي قرينة على ذلك. فأكثر من نصف الأميركيين من أصول لاتينية يرون أنهم بيض، وكثر منهم ليسوا ديموقراطيين «بالفطرة». والأسوأ أن سياسات الهوية ضيقة الرؤية. فأبناء الطبقات الوسطى والدنيا، سواء كانوا من السود أم البيض أم من الذكور والإناث أو المتحولين جنسياً، يجبهون مشكلات الترقي الاجتماعي ويتعثرون في النجاح في الاقتصاد الجديد. وحريّ بالسياسة التقدمية أن تنشغل بما يجمع الناس كلهم.
ولم تكن الأحزاب الشعبوية لتجذب الناس لو كان النمو الاقتصادي يعتد به. ولا أرى أن العنصرية هي علة نجاح الأحزاب هذه، بل أرى أن السياق الاقتصادي هو صاحب الأثر الأبلغ في النفوس. فثقة الناس في النظام تزعزعت وتداعت. وهذه لحظة بالغة الخطورة. فالغوغائيون من أمثال ترامب الأميركي وفاراج البريطاني ولوبن الفرنسية سارعوا إلى تأجيج المخاوف. والمواقف المناوئة للمهاجرين أقوى في أكثر دول الرعاية الاجتماعية سخاء. فاستقبال عدد كبير من المهاجرين حين تقليص تقديمات الرعاية الاجتماعية، قد يوحي للناس أن العدالة الاجتماعية تنتهك. وأرى أن استقبال ألمانيا أو السويد أعداداً كبيرة من المهاجرين هو أمر رائع. ولكنهما لم تحسنا إدارة شؤون هذا الاستقبال. فمن العسير النجاح في دمج أعداد ضخمة من المهاجرين في وقت الناس تخشى خسارة مستحقاتها الاجتماعية.
وليس التوجه إلى الناخبين بالقول إن مواقفهم سيئة وإنهم «في صف الخاسرين في التاريخ» في محله. فباراك أوباما لم يدافع عن الزواج المثلي إلا بعد سنوات على مكوثه في البيت الأبيض. ولم تبادر إلى ذلك هيلاري كلينتون إلا في 2013. وانساق أوباما وكلينتون وراء استفتاءات الرأي العام، وأيدا التطورات الاجتماعية وطعنا في مواقف المخالفين لهما في الرأي وقالا إنهم «في صف الخاسرين في التاريخ»، كما لو أن باراك وكلينتون من أصحاب يقين وحقيقة مطلقة وأن خصومهما أغبياء. ومثل هذه التكتيكات يؤجج الردود الشعبوية. وقبل عام، أصدر أوباما توجيهات تترك للأطفال اختيار دورة المياه المناسبة لجنسهم. ولكن التوسل بالسلطة التنفيذية للبت في مسألة من هذا النوع في أثناء الحملة الانتخابية، كان في مثابة انتحار أمام شعبوية ترامب. فهذه السياسة رسخت ما يسوقه ترامب وغيره واعتبارهم أن التقدميين تشغلهم توافه الأمور وأنهم منفصلون عن مشاغل عامة الأميركيين الحقة. وشاركت، أخيراً، في مؤتمر «أسبن» لشؤون الأمن والدفاع، وشرح أحدهم أن أصحاب البلايين في مطلع القرن العشرين كانوا أكثر فقراً من الطبقات الوسطى اليوم. فالاقتصاد لا يأتلف من مقاييس مادية فحسب، بل كذلك من مقاييس وثيقة الصلة بمكانة الناس في المجتمع. فإذا شعر المرء أنه لا يساهم في المجتمع وأنه من غير دور، وأن العصر يلفظه، لن يغنيه حيازته «آيفون» عن دور ومكانة، ويرجح أن توسل به (الهاتف الذكي) إلى التعبير عن سخطه وإحباطه.
* معلق، صاحب «انحسار الليبرالية الغربية»، عن «لوبوان» الفرنسية، 3/8/2017، إعداد منال نحاس.
الحياة