أقصى درجات البرد/ بكر صدقي
إهداء إلى المرحوم عبد الله قبارة
هل سيطر داعش على تدمر بعد قتالٍ، أم انسحب منها النظام وسلّمها لداعش؟ هل تُدَمِّر داعش أوابد تدمر الأثرية؟ وما قيمتها أمام دماء مئات آلاف القتلى؟ وأيّهما أشهر: مدينة تدمر الأثرية أم سجن تدمر الرهيب؟
هذه هي الأسئلة الطافية على السطح هذه الأيام. وبمناسبة الحدث التدمريّ استيقظت ذكريات السوريين عن السجن الرهيب وعذابات من غابوا سنواتٍ وراء جدرانه ومتاهاته وزنازينه، ويعدّون بعشرات الألوف منذ مطلع الثمانينات على الأقلّ، حين كان هذا المكان مخزناً لأجساد وأرواح تعساء شاءت الأقدار أن يقعوا بين أيدي وحوشٍ بشرية.
لا يتسع المجال هنا للكثير الذي يمكن أن يحكى عن هذا السجن الاستثنائيّ. سأتحدّث فقط عن بعض عناصره في تعريفاتٍ موجزة.
المتاع:
يحتفظ السجين القادم إلى تدمر من أغراضه الشخصية بالثياب فقط. ويُعطى “عازلاً” وبطانيةً واحدة. ينام فوق العازل ويلتحف بالبطانية. كلاهما رقيقٌ جداً ومهترئٌ، لا يقيان من برد الصحراء الرهيب في الشتاء.
بدأت رحلة مجموعتي في تدمر في الثالث من كانون الثاني، أي في عزّ المربعانية. لم أجرّب في حياتي برداً أشدّ قسوةً قبل ذلك ولا بعده. كان علينا “فعل شيءٍ ما” للتخلص من ذاك البرد القاتل. ولم نكن نملك أية وسائل لفعل أيّ شيء، باستثناء إضافة كلّ ملابسنا فوق البطانية وقت النوم. الغريب أننا استطعنا النوم رغم كلّ ذلك البرد.
وكان علينا أن نغتسل بالماء البارد في وقتٍ مبكّرٍ من الصباح. كسرنا هيبة البرد الرهيب بالاغتسال كلّ صباحٍ، بعد قليلٍ من تمارين التحمية. تحوّل الجحيم إلى عادةٍ يوميةٍ وأصبح مقبولاً.
الباب والشرَّاقة:
هما صلتا وصلنا الوحيدتين مع العالم الخارجيّ، أعني خارج المهجع. أي أنهما مصدرا الخطر والرعب الدائمين. كلّ فتحٍ للباب يعني احتمال تنكيل.
مرّتين في اليوم لاستلام الطعام، مرّةً للتفتيش أي التفقد، وأحياناً للتنفس، ومرّةً في الشهر للفاتورة، وأحياناً لتفتيش المهجع بحثاً عن حفرياتٍ محتملةٍ لعملية فرارٍ مفترضة. في الفترة التي أمضيناها هناك (1996 – 1998)، كانت الإعدامات قد توقفت. أما إخلاء السبيل فهو نادر الحدوث (في عصر الأسد قاعدةٌ عامة: عدد الداخلين إلى السجون والمعتقلات أكبر دائماً من عدد الخارجين منها).
“الشرّاقة” فتحةٌ مربعةٌ في سقف المهجع، يراقب منها الحارس المناوب داخل المهجع على مدار الساعة. يتمّ تبديل الحرّاس كلّ ساعتين. وقت النوم 12 ساعةً إجباريةً، يناوب فيها أحد السجناء ويتمّ تبديله كلّ ساعتين أيضاً. هذا النظام الذي يُفترض أنه يغطي كامل الوقت للمراقبة الدائمة، يستخدمه بعض الحرّاس للتسلية. والتسلية عندهم هي التنكيل بالسجين المناوب.
التنفس:
نادر الحدوث، ولا يخضع لأيّ انتظام. لكن الأهمّ من ذلك أنه غير مرغوبٍ من السجناء، لأنه مناسبةٌ إضافيةٌ للتنكيل بهم.
من المحتمل أن يمضي وقت التنفس (ساعةً أو ساعتين أو ثلاثاً، وفقاً لمزاج الحراس فوق) بسلامٍ، أي دون عمليات تعذيب. في هذه الحالة يؤمر السجناء بالجلوس في وضعية القرفصة لصق الحائط ووجههم إليه، في صفين متلاصقين، مغمضي العيون، محنيي الرؤوس، ممنوعين من الكلام والهمس والحركة وإصدار أيّ صوت. الجلوس في هذه الوضعية، أحياناً طوال ساعتين، ربما هو التعذيب الأشد وطأةً. تشعر بثقل الزمن كجبلٍ فوق ظهرك لا يتزحزح. الذهن وحده خارج المراقبة. تحاول التفكير في أشياء تبعدك عما أنت فيه، لكنك تفشل غالباً. حرارة الشمس فوق الرأس الحليق تطرد من ذهنك كلّ الأفكار والذكريات والصور (جلسات اليوغا الإجبارية هذه حدثت دائماً في الصيف. صيف الصحراء).
التعليم:
في سجن تدمر، يجرَّد السجين، أول ما يجرَّد، من اسمه وملامحه. ولا يمنح حتى رقماً بدلاً من الاسم. الشرطيّ يحدد السجين إما بتحديد مكانه أو بلون ملابسه، ثم يخاطب رئيس المهجع طالباً منه “تعليم” الضحية (التعليم من علامةٍ، وليس من علم). حين يُفتح الباب في الصباح التالي يخرج المعلَّمون إلى الباحة ويتعرّضون للتعذيب.
لا يتمّ التعليم بناءً على مخالفةٍ بالضرورة، بل يمكن أن يحدث بلا سبب. بل كان يحدث أحياناً أن يسأل الشرطيذ رئيس المهجع عن عدد المعلمين، ويكون الجواب: لا يوجد معلَّمون. فيطلب الشرطي إخراج عددٍ من السجناء يحدّده عشوائياً لتلقي التعذيب.
في فترةٍ من الفترات كان كلّ مهجعٍ ملزَماً بتقديم عددٍ من الضحايا (4-5) كلّ صباحٍ. فكان الوجوم المتوتر يخيّم على المهجع. الرعب الصافي المحسوس نعيشه جميعاً طوال ساعةٍ قبل فتح الأبواب. رعب انتظار التعذيب أشدّ فتكاً بالروح من التعذيب نفسه. ليست هناك أية ضمانةٍ أن تقتصر حفلة التعذيب على ألمٍ مؤقتٍ مهما كان فظيعاً. يمكن أن ينتهي الأمر إلى الموت أو العطب. لا ضمانات لأيّ شيءٍ في تدمر.
اللغة:
اللغة فقيرةٌ فقر المكان وبدائيته. أوامر عسكريةٌ وجيزةٌ وشتائم صادرةٌ من خيالٍ محدودٍ ومريض.
“شو لون كس أمك؟” كان هذا هو السؤال الذي يقضّ مضجع الرقيب كاسر. المفروض أننا لا نعرف أسماء عناصر الشرطة ووجوههم. نعرف فقط أصواتهم. لكن أخطاء يرتكبونها كانت تكشف عن بعض الأسماء. وبعضٌ آخر كنا نسميهم بنسبتهم إلى بلدهم: الشاميّ والكرديّ والحلبيّ مثلاً. كانت لهجاتهم تشير إلى انتماءاتهم المحلية. لدى الكرديّ شتيمةٌ واحدةٌ: “يا منيوكة” يخاطب بها كلّ سجينٍ، ذكرٍ بالطبع. الشاميّ كان متعاطفاً، ربما وحده من بين جميع زملائه الوحوش. لم يؤذِ أحداً بكلمة. بل حذّرَنا ذات مرّةٍ قائلاً بصوتٍ خفيضٍ: “جاء أبو رائد!”.
أبو رائد حمارٌ ساديٌّ فظيعٌ. طوال ساعتين من التنفس كان يأمرنا بإجراء تمارين الضغط والرقصة الروسية. وبذريعة ملامسة البطن للأرض أثناء تنفيذ التمرين السادس، كان “يعلِّم” عدداً منا. مع العلم أن الجميع كانوا يفشلون في مواصلة تنفيذ التمرين بعد المرّة العاشرة أو العشرين، حسب كلّ واحد.
الطعام:
لاستلام الطعام طقسٌ غريبٌ، شرطه الأهمّ سرعة التنفيذ. ومع أن مهارتنا في عملية الاستلام تطوّرت، مع الزمن، إلى حدٍّ كبيرٍ؛ كان الشرطيّ يصرخ طوال الوقت: أسرع من هيك يا عرصات!
مرّةً ضبطنا الساعة لمعرفة الزمن الذي يستغرقه استلام الطعام، من لحظة فتح الباب إلى لحظة إغلاقه. كانت النتيجة إحدى عشرة ثانية! لتقدّروا “أولمبية” هذا الرقم سأقوم بوصف العملية:
وقت توزيع الطعام أصبح معروفاً بصورةٍ تقريبية. ينتظر ثلاثة “فدائيين”، هم سخرة اليوم، قرب الباب وفي أيديهم طسوتٌ بلاستيكية. حين يفتح الباب ويصدر الأمر باستلام الطعام، يقفز الثلاثة من فوق الإطار الحديدي للباب، تجنباً للتعثر به والسقوط، ويضعون الطسوت على الأرض. يسكب الباحاتية (وهم سجناء من القسم العسكريّ للسجن، ويتصرّفون مع السجناء السياسيين مثل الشرطة) الطعام في الطسوت. يصدر الشرطيّ الأمر بحمل الطسوت. يحملها عناصر السخرة ويدخلون المهجع. يغلق الباب. والباب ضيق، لا يمكن خروج الثلاثة منه معاً من غير اصطدام. فيخرجون فرادى ويدخلون فرادى. ولا يجوز أن يندلق شيءٌ من الطعام على الأرض، مع العلم أن أحد الطسوت فيه غالباً مرق البندورة.
الجريدة:
في زماننا، كانوا يوزّعون علينا جريدة البعث كلّ يومٍ تقريباً، ولكن مع تأخيرها يوماً واحداً على الأقلّ من تاريخ صدورها.
يقرع الشرطيّ على “شرّاقة الباب” (الطاقة الحديدية الصغيرة في باب المهجع اسمها شرّاقةٌ أيضاً. وكذلك واقية المطر المصنوعة من أكياس الخبز البلاستيكية، التي يمكن رفعها وقت هطول المطر من “الشرّاقة” المفتوحة في السقف). يفتحها رئيس المهجع ويستلم منها الجريدة المطويّة بعنايةٍ. يأمره الشرطيّ: حافظ عليها يا عرصا. ثم يغلق الشراقة.
نفرّق الجريدة إلى ورقاتها الثلاث، ويبدأ الدور بثلاثة قرّاء. بعد عشر دقائق يتمّ التبديل. كنا نقرأ في الجريدة كلّ ما يتيحه الوقت قبل إعادة تسليمها، مطويةً بعنايةٍ ونظيفةً من أيّ أثر، في اليوم التالي. من الأخبار وتتماتها في الصفحة 11، إلى التقارير الصحفية إلى الصفحات الثقافية والرياضية، وصولاً إلى إعلانات الوفيات.
بل كانت هذه الأخيرة تستحوذ منّا على اهتمامٍ خاصٍّ. فالزمن يمرّ، ومن المحتمل أن يموت أشخاصٌ نعرفهم، ونحن معزولين عن العالم عزلةً مطلقة.
الزيارات:
القاعدة العامة هي الحرمان من الزيارات. لكن عدداً محدوداً من رفاق مجموعتنا تلقى زياراتٍ بفضل وساطاتٍ أو رشى أو علاقاتٍ مفيدة. جاءت الزيارة الأولى بعد نحو سنةٍ من وجودنا في هذا السجن، أي بعدما كنا يائسين من تلقّي أية زيارةٍ على الإطلاق. ومع الزيارة حصلنا على أوّل طعامٍ “بشريٍّ” يمكن التلذذ بأكله.