أكراد سوريا وخياراتهم الصعبة
مصطفى اللباد
يفيض الحراك الشعبي في سوريا على حدودها الجغرافية – السياسية حتى يطال مناطق جوارها القريب والبعيد، بحيث يبدو الصراع على سوريا وكيلاً عن صراعات الشرق الأوسط: قومياته وطوائفه وفاعليه الإقليميين. ونظراً إلى محورية الجغرافيا السورية في ترجيح مشروع على آخر، وقوة إقليمية على أخرى، معطوفاً على الحضور القومي والعرقي والطائفي، لكل «موزاييك» الشرق الأوسط في الديموغرافيا السورية، يصبح للوضع السوري – بفضل الجغرافيا والديموغرافيا – تعقيداته الإقليمية المباشرة والساخنة. يظهر في المعركة الكبرى على سوريا الآن الأكراد باعتبارهم مكوناً أساسياً من مكوناتها، وهو مكون يملك وشائج وصلات مع أقران في العراق وتركيا المجاورتين. ومع تعاظم الضغط التركي على النظام السوري في الفترة الماضية، فقد عمد الأخير إلى سحب قواته من مناطق الشمال الشرقي لسوريا، محدثاً فراغاً كبيراً على الحدود السورية – التركية البالغ طولها تسعمئة كيلومتر. سارت حسابات النظام السوري في اتجاه أن هذا الفراغ الأمني سيكبح قدرات تركيا على التدخل في الأزمة السورية لمصلحة المعارضة، لأن تركيا وسوريا تتشابهان إلى حد ما في «موزاييكهما» البشري، إذ يشكل الأكراد أغلبية سكانية على ضفتي الحدود السورية – التركية. ويعني ذلك أن النظام السوري أراد توجيه تداعيات ما يجري داخل الجغرافيا السورية باتجاه الحدود الشمالية، بعد أن يلهب طموح الأكراد في سوريا والمنطقة ويربك خريطة أحزابهم وتحالفاتهم، بحيث يشكل كل ذلك في النهاية، درعاً واقية له من التدخلات العسكرية التركية المحتملة.
أصبحت غالبية مناطق الشمال الشرقي في سوريا تحت سيطرة الأكراد، فيما عدا القامشلي التي ما زالت القوات النظامية تسيطر عليها. ولأن القوات النظامية و«الجيش السوري الحر» منشغلان بالقتال في مناطق سورية أخرى، تحظى مناطق الأكراد بهدوء نسبي حتى الآن. على الأرجح ستشكل منطقة مسيطر عليها كردياً في شمال سوريا معقلاً جديداً لمنظمة «حزب العمال الكردستاني»، الذي يشن عمليات عسكرية على الجيش التركي منذ تأسيسه في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، إلى جوار معقله التقليدي في جبال قنديل بشمال العراق. نظرياً سيكون سهلاً على مقاتلي هذا الحزب أن ينفذوا إلى الأراضي التركية، انطلاقاً من معقلهم الجديد في سوريا. ويزيد من تفاقم المسألة أن مناطق سورية لها ميزة مقارنة بجبال قنديل تتمثل في المناخ، إذ أن شتاء سوريا ليس قارس البرودة مقارنة بجبال قنديل، ما يسمح بشن هجمات على الأراضي التركية بسهولة أكبر. كما أن الفراغ الأمني على الحدود السورية – التركية وطبيعة الشمال الشرقي لسوريا يمكن أن يكونا عاملاً مساعداً لاستقطاب مقاتلين جدد في منظمة «حزب العمال الكردستاني» من صفوف الأكراد السوريين. الآن يمثل الأكراد السوريون حوالي عشرين في المئة من عديد قوات «حزب العمال الكردستاني»، والنسبة بالتالي مرشحة للزيادة، وهي نتيجة أكثر من مقلقة لتركيا. ويتضاعف القلق مع احتمال حصول «حزب العمال الكردستاني» على صواريخ مضادة للطائرات أو حتى أسلحة كيمائية من الترسانة السورية، فتنقلب ساعتها توازنات القوى بين الأكراد وتركيا. حتى الآن يبدو النظام السوري ممسكاً بهذه الورقة انتظاراً لتطورات التدهور في علاقته مع تركيا، ولكن اجتماع مجلس الأمن القومي التركي في 24 يوليو/تموز 2012 للبحث في التطورات السورية، يشير إلى وعي الحكومة التركية بخطورة الموقف وطبيعة الأوراق التي يمسكها النظام السوري، إذ تم في هذا الاجتماع اتخاذ قرار بزيادة عدد القوات التركية على الحدود مع سوريا، ومن ضمنها كتيبة تركية للحرب الكيماوية.
يأمل الأكراد السوريين استثمار القتال الدائر بين النظام ومعارضيه المسلحين، ليفرضوا منطقة حكم ذاتي خاصة بهم، وإن اختلفوا حول وضعيتها الدستورية أو تحالفاتها الإقليمية. وفق ذلك المقتضى أفلحت القوات الكردية – على اختلاف فصائلها – في إبقاء «الجيش الوطني الحر» وكذلك القوات النظامية خارج مناطق الكثافة السكانية الكردية؛ إلا أن الحكومة السورية ما زالت متمركزة في القامشلي على الحدود مع العراق. ومع انتهاء الاحتفالات والتظاهرات الكردية في المناطق السورية الشمالية، التي أعقبت انسحاب القوات النظامية السورية وبالتحديد في قرى ديركي وأفرين وشنديريسن، فقد بدأت الخلافات تظهر والتمايزات في المواقف تتعمق بين الأحزاب الكردية السورية. يبدو مفهوماً، بالنظر إلى ديناميكية الوضع الكردي وخصوصية تاريخ الكرد، أن تتنافس القوى والأحزاب والتيــارات الكردية في سوريا في ما بينها لتغليب رؤى ووجهات نظر على أخرى، ومن المفــهوم أن هذا التنافس ينعكس مباشرة على جانبي الحدود مع العراق ومع تركيا، على الأقل لجهة التأثير في خيارات الأكراد على ضفاف الحدود. تأسيـساً على ذلك يبدو أن «الترمومتر» السياسي الكردي في الشرق الأوســط ليس في حال من الركود راهناً، بل يشهد صعوداً وهبوطاً انطلاقاً من شمال شرقي سوريا.
يتمركز «حزب الوحدة الديموقراطية الكردي» في بؤرة المشهد الكردي، إذ يملك هذا الحزب وحده حوالي نصف القوة الكردية السورية، مثلما يتمتع بعلاقات عضوية مع «حزب العمال الكردستاني» في تركيا، إلى الحد الذي يعتقد فيه بعض المراقبين أن الأول هو الواجهة السياسية للثاني في سوريا. من ناحيته يعتبر مراد قرايلان، الزعيم الفعلي الحالي لـ«حزب العمال الكردستاني» في تركيا وقائد التيار الرئيسي فيه، أن حزبه سيظل محايداً في الصراع بين نظام الأسد ومعارضيه، كي يضمن لنفسه مكاناً إلى جوار المنتصر في النهاية. وإذ يتعاون فهمي حسين، زعيم التيار الأكثر تشدداً بين الأكراد السوريين، مع النظام السوري أكثر من الأخرين، فإن صالح مسلم أحد زعماء «حزب الوحدة الديموقراطية» يطالب بمنطقة حكم ذاتي كردية في سوريا، ويتهم «المجلس الوطني السوري» بأنه لا يعترف بالحقوق الكردية. هنا يلتقي مسلم في أطروحاته مع «حزب السلام والديموقراطية» الكردي في تركيا (الواجهة العلنية لمنظمة «حزب العمال الكردستاني» في تركيا)، وهو مطلب يلاقي معارضة شديدة من تركيا. يعتبر صالح مسلم أن قوات الأسد لم تنسحب من كامل الأراضي الكردية السورية، وأن «الجيش الحر» مفتت ومنقسم ولا يمكن التفاوض معه، وعليه لا تسير حسابات أكراد سوريا في اتجاه أن أيام الأسد باتت معدودة، بل أن الصراع سيستمر لفترة مقبلة. بالمقابل تفضل مجموعات كردية أخرى منطقة حكم ذاتي كردية، في إطار دستور سوري جديد. وإذ تفرق الرؤى حيال مستقبل الأكراد في سوريا بين قياداتهم، فإن معارضة التدخل العسكري الدولي (التركي) في سوريا تجمعهم سوياً.
استدعت هذه التطورات حركة نشطة من مسعود البارزاني في العراق، الذي اضطر إلى التعاطي سياسياً مع «حزب الوحدة الديموقراطي الكردي» بالرغم من تحفظه على أطروحاته وطموحاته، حتى لا يفقد موقعه كشخصية مفتاحية في الحركة القومية الكردية. توصل بارزاني إلى اتفاق في أربيل بين حزب «الوحدة الديموقراطية الكردي» في سوريا ومجموعات كردية أخرى، في ما عرف باسم «اتفاقية أربيل»، التي وقعت في 11 يوليو/تموز 2012 للتنسيق والتفاهم بين الأحزاب الكردية في سوريا. بمقتضى الاتفاقية المذكورة تم تشكيل «المجلس الكردي الأعلى»، وهو عبارة عن تحالف سياسي بين «المجلس الوطني الكردي» و«المجلس الشعبي لكردستان الغربية»، الذي يضم «حزب الوحدة الديموقراطية» أيضاً. تبدو الاتفاقية محاولة لفرد مظلة سياسية كردية موحدة على الأحزاب الكردية السورية، غير أن طابعها المؤقت يبدو طاغياً بحيث لا يرجح أن تستمر لفترة طويلة. ويعود السبب في ذلك إلى عدة أسباب أولها: يملك مسعود بارزاني تأثيرأ محدوداً بعض الشيء على الأكراد السوريين (ما عدا بعض العشائر الكردية القريبة من الحدود العراقية)، وثانيها أن التضارب في الرؤى الكردية السورية له خلفيات في الجوار الكردي سواء العراق أو تركيا، إذ ان رؤية مسعود بارزاني كزعيم لمنطقة تحظى بشبه اعتراف عالمي بخصوصيتها ضمن الجغرافيا العراقية، لا يريد تعريض هذه المنجزات الكردية للخطر بمواجهة عسكرية واسعة مع تركيا. على العكس من ذلك يريد «حزب العمال الكردستاني» في تركيا توسيع المواجهة العسكرية وتحفيز الأكراد عليها، وصولاً إلى انتزاع تنازلات سياسية من تركيا في مناطق الأكراد بالأناضول. وثالثاً لأن موازين القوى الكردية والسورية والإقليمية في طور من التغير والتبدل، ما يجعل التوازنات التي قامت عليها «اتفاقية أربيل» غير مرجحة البقاء في الفترة المقبلة.
يقف الأكراد في سوريا أمام خيارات صعبة، داخلية لجهة طبيعة الحراك السياسي في ما بينهم، ولجهة التحالف السياسي مع القوى السياسية السورية غير الكردية، وإقليمية بخصوص علاقاتهم المستقبلية مع إقليم كردستان العراق الذي يتماسون معه جغرافياً، ولناحية روابطهم المتوترة مع تركيا، والتي تتفاقم أكثر كلما زاد حضور «حزب العمال الكردستاني» بين صفوفهم. لم تكن حياة الأكراد في الشرق الأوسط سهلة طيلة القرون الخمسة الماضية، ويبدو أن خياراتهم ستظل صعبة .. على الأقل خلال المرحلة الانتقالية الراهنة من تاريخ المنطقة!
رئيس مركز الشرق للدراسات الإقليمية والاستراتيجية – القاهرة.
السفير