أكراد سوريا ومعركة الإصلاح
خورشيد دلي
منذ تفجر أحداث مدينة درعا جنوبي سوريا تتجه الأنظار إلى أكراد سوريا وموقفهم إزاء ما يجري في البلاد, ولعل ما زاد من شغف معرفة الموقف الكردي هو عدم انضمام الحركة الكردية (باستثناء تظاهرات بسيطة ) حتى الآن إلى حركة المسيرات والاحتجاجات الجارية في عدد من المدن والبلدات السورية, وهو ما أثار الكثير من الأسئلة والتساؤلات.
ولعل مرد ذلك هو اعتقاد الأوساط السورية بأن الأكراد سيكونون في مقدمة حركة الاحتجاجات نظرا للتداعيات التي تركتها أحداث القامشلي عام 2004 وللإجراءات التي يعانون منها منذ عقود, فضلا عن أنهم يشكلون كتلة بشرية كبيرة نسبيا وقوة حزبية منظمة, بمعنى آخر ثمة قناعة مفادها: أنه سيكون لأكراد سوريا تأثير بالغ على تحديد مستقبل حركة الاحتجاجات الجارية في البلاد.
واقع وتاريخ
يجمع السوريون على أن الأكراد يمثلون جزءا مهما من النسيج العام للبلاد, وهم يتوزعون إضافة إلى مدينتي دمشق وحلب في مناطق الشمال والشرق, يشغلون امتداد المناطق الحدودية مع تركيا وصولا إلى الحدود العراقية شرقا, وبذلك يشكلون حاجزا بشريا بين سكان سوريا الداخل والداخل التركي.
ونظرا لعدم وجود إحصائية رسمية حول عددهم وكذلك غياب مثل هذه الإحصائية لدى الأكراد فإنه يتعذر معرفة الرقم الدقيق لعددهم, إلا أن التقديرات المتفقة عليه تقريبا تشير إلى أن نسبتهم تقارب 10% من مجموع السكان البالغ نحو 22 مليون نسمة, أي أكثر من مليوني نسمة, وهم يدينون بالإسلام.
هناك اعتقاد سائد لدى العديد من الأوساط السورية بأن أكراد سوريا قدموا من تركيا هربا من أعمال القتل التي ارتكبت هناك في النصف الأول من القرن الماضي, وسواء كان هذا الاعتقاد ناتجا عن عدم معرفة أو عن رغبة سياسية محددة بهدف الحد من المطالب الكردية في البلاد, إلا أنه في الحالتين يفتقر إلى المعرفة الدقيقة بتاريخ الأكراد في البلاد ودورهم الاجتماعي في تكوين المجتمع السوري قديما وحديثا, فوجود الأكراد في هذه المناطق سبق اتفاقية سايكس-بيكو وترسيم الحدود بين سوريا وتركيا بعد انهيار الدولة العثمانية.
وعلى الرغم من التطور السياسي لدى الأكراد فإن البنية العشائرية مازالت قوية لديهم, ومن أبرز هذه العشائر: المللي, الكيكي, الدقوري, الآشتي, الكوجري، الدوركي… ترجع تاريخها إلى مئات السنين, وقد تحالفت هذه العشائر مع القائد المصري محمد علي باشا ضد الحكم العثماني ومن ثم مع ابنه إبراهيم باشا, وكذلك خاضت مع العشائر العربية في الجزيرة ثورات مشتركة ضد الأتراك كثورة نصيبين في نهاية القرن التاسع عشر, وفي عهد الاستعمار الفرنسي قاد سعيد أغا الدقوري ثورة أهالي عامودة ضد الفرنسيين انتهت بقصف فرنسي للمدينة بالمدرعات والطائرات.
باختصار ساهم أكراد سوريا شأنهم شأن بقية فئات الشعب السوري في تأسيس الدولة السورية الحديثة، وقد برز منهم قادة على مختلف المستويات السياسية والدينية.
المشكلة الكردية
يمكن القول إن الصيغة القومية التي طرحتها الحركة الكردية السورية في نهاية الخمسينيات وإعلان موقفها السلبي من الوحدة السورية–المصرية ( 1958-1961) أثارت النزعة القومية المتشددة لدى أوساط حزبية وحكومية واسعة في سوريا حيال الأكراد خاصة أنها جاءت في مرحلة اتسمت بصعود الفكر القومي العربي والكاريزما القومية للزعيم الراحل جمال عبد الناصر.
ولعل الأجراء الأكثر سلبيا على حياة أكراد سوريا تلك الخطة التي تقدم بها رئيس الشعبة السياسية في محافظة الحسكة محمد طلب هلال عام 1962وقد تبنتها الحكومة عام 1965 واقتضت هذه الخطة:
– إقامة حزام بشري من سكان القبائل العربية من خارج محافظة الحسكة في مناطق المحافظة, من الحدود العراقية شرقا إلى مدينة رأس العين غربا, وتضمنت الخطة عمليات نزع الأراضي الزراعية من الفلاحين الأكراد وإعطاءها للذين تم استقدامهم بصورة خاصة من محافظة الرقة, وقد أطلقت على هذه الخطة في البداية (المزارع الجماعية) تيمنا بالشعارات الاشتراكية ثم أطلقت عليها لاحقا اسم (الحزام الأخضر) فيما سماها الأكراد بـ (الحزام العربي).
– احتوت الخطة على مجموعة من الإجراءات الإقصائية والتمييزية التي استهدفت وجود الأكراد في سوريا من خلال سياسة التجهيل والإنكار والتجويع والإفقار الاقتصادي والاجتماعي والحرمان الوظيفي.
– استكمالا لهذا المشروع أطلقت الحكومة في عهد الرئيس أمين الحافظ حملة لتعريب أسماء القرى والبلدات التي لها أسماء كردية، وقد جرى تطبيق ذلك لاحقا.
– سبق هذه الخطة المرسوم رقم 93 في العام 1962 والذي قضى بتجريد عشرات آلاف الأكراد من الجنسية السورية, وقد وضع الرئيس بشار الأسد نهاية لهذا المرسوم بإصداره المرسوم رقم 49 القاضي بمنح المسجلين في سجلات أجانب الحسكة الجنسية السورية.
– يضاف إلى ما سبق فإن النظرة الأمنية في التعامل مع الأكراد جعلت العلاقة معهم حذرة في الاتجاهين, وقد شكلت أحداث القامشلي عام 2004 منعطفا كبيرا في تعميق هذه النظرة, خاصة في ظل قناعة السلطة بأن قسما كبيرا من أكراد سوريا يتحركون لصالح أكراد العراق وتركيا, فأصبحت (النزعة الانفصالية) صفة ملتصقة بهم وحاضرة في كل لحظة.
في الواقع, كانت لهذه الإجراءات وغيرها آثار سلبية بالغة على الحياة اليومية للأكراد, فالإحصاء حرم عشرات الآلاف من الحقوق المدنية والسياسية وكذلك من حقوق التملك والسفر, كما أن الإجراءات المختلفة اختزلت العلاقة بهم في إطار نظرة أمنية أدت إلى حدوث شروخ اجتماعية خاصة في ظل حملات الاعتقال المتواصلة للناشطين الأكراد وفصل العديد من الطلاب من المدارس والجامعات وغير ذلك من الإجراءات التي نتجت عنها ما يمكن تسميتها بالمشكلة الكردية في سوريا.
وهي مشكلة تتمثل في حرمان كتلة بشرية لا يستهان بها من حقوقها المتعارف عليها في الدساتير والقوانين والمواثيق والشرائع الدولية والمنظمات المعنية بحقوق الإنسان وحريته.
في الإجمال, أدت السياسة السابقة للحكومات المتتالية إلى إفقار القسم الأكبر من أكراد البلاد, وقد أجبرت الظروف المعيشية الصعبة الآلاف منهم على الهجرة من مناطقهم إلى أطراف المدن الكبرى وكذلك إلى الخارج ولاسيما أوروبا بحثا عن لقمة العيش والحرية.
جدل الحل والموقع
لقد انطوت سياسة ترك الأمور على ما هي عليه طوال الفترة الماضية، والاكتفاء بالمعالجة الأمنية، على مخاطر كبيرة خاصة في ظل التطورات الجارية التي تشهدها المنطقة وبلوغ الشأن الكردي في العراق وتركيا حالة متقدمة سياسيا وتنظيميا بما يشكل كل ذلك إلهاما للتطلعات القومية الكردية في عموم مناطق التواجد الكردي في المنطقة.
وانطلاقا من هذه النقطة ينبغي التوقف عند اختلاف النظر إلى المشكلة الكردية في سوريا, فالنظام يرى أن المشكلة لها طابع خدمي وتقني سببها الإهمال بالدرجة الأولى, فيما يرى الأكراد أن المشكلة إضافة للبعد السابق لها جوانب سياسية تتعلق بحقوق ثقافية وسياسية , منها حق الأكراد في التعلم والدراسة والبث والنشر بلغة الأم أي الكردية, والاعتراف بهم رسميا كمكون اجتماعي في البلاد, ومراعاة مشاركتهم في الإدارة المحلية والمشاركة والتمثيل المناسبين في الحياة العامة في البلاد ومؤسساتها, وإلغاء الإجراءات الاستثنائية التي اتخذت بحقهم خلال العقود الماضية.
في الواقع, لا يخفى على المراقب أن ثمة خطوات انفتاحية للنظام تجاه الأكراد في الآونة الأخيرة كما حصل خلال احتفالات النيروز هذا العام ومرسوم منح الجنسية وإطلاق سراح العديد من المعتقلين السياسيين الأكراد, وهي خطوات يرى البعض أنها تعبر عن نية النظام لحل هذه المشكلة في إطار الإصلاح التدريجي، فيما لا يتوانى البعض عن القول إنها تأتي لاستيعاب الأكراد على أمل عدم انخراطهم في الاحتجاجات الجارية والتي تتسع رقعتها يوما بعد آخر.
الخطاب الكردي في ظل الحراك السوري الجاري اتخذ حتى الآن منحيين. الأول: رفع شعارات عامة مطالبة بالحرية والديمقراطية على مستوى البلاد. والثاني: المطالبة بحقوق ثقافية وسياسية تقر بخصوصية الهوية القومية.
وعلى مستوى التحرك في الشارع, من الواضح أن هذا الأمر يدخل في إطار الحسابات, فثمة من يخشى أن يؤدي تحركهم إلى بروز أو إصباغ نزعة انفصالية عليهم وهو أمر بنظرهم سيؤثر سلبا على الحراك الجاري, وقسم آخر يرى أن ما يجري هو بين أبناء البيت الواحد وليس للأكراد علاقة له, وقسم ثالث يرى أن الذين يقومون بالاحتجاجات بل وحتى المعارضة السورية ليست لديها رؤية لحل المشكلة الكردية, وقسم رابع يرى أن التطورات الأخيرة فتحت الطريق أمام حل مشكلتهم خاصة في ظل الخطوات الإيجابية التي اتخذها النظام فلماذا هدر الدماء والأرواح؟
في الواقع, مهما كانت الحسابات والجدل بشأنها, فإن ثمة مسائل مهمة ينبغي التوقف عندها في زحمة التطورات الجارية. أولى هذه المسائل: هي أن المشكلة الكردية في سوريا هي مشكلة سورية بامتياز, مشكلة دولة أهملت جزءا من تركيبتها الاجتماعية والسكانية لأسباب أمنية وأيديولوجية, فتحول هذا الجزء المعطب بفعل الإجراءات المتتالية إلى كتلة بشرية قابلة للانفجار.
والمسألة الثانية تتعلق بضرورة الحفاظ على النسيج الاجتماعي للعلاقات الكردية-العربية. والثالثة هي أن الأكراد بعددهم الكبير نسبيا وأحزابهم ووعيهم التنظيمي والسياسي يشكلون رقما صعبا في الحراك السوري الجاري بما يعني أن الأنظار ستبقى متجهة إليهم في المرحلة المقبلة.
الحراك السوري يتقدم وربما يراود البعض تكرار النموذج المصري فيما النظام يريد الإصلاح على طريقته ومن خلاله, ولعل الخطوات التي اتخذها والإشارات التي يرسلها في إطار التطلع إلى إصلاح مدروس جعل من الأكراد براغماتيين ينشدون بالدرجة الأولى مصلحتهم وحلا مقبولا لمشكلتهم.
الجزيرة نت