أمثولة القامشلي
صبحي حديدي
أقام المواطنون السوريون الكرد مظاهر شتى لإحياء ذكرى شهداء الإنتفاضة الشعبية التي شهدتها مدينة القامشلي في 12 آذار، 2004، فجرى إشعال الشموع على شرفات المنازل والأسطح والشوارع، ونُفّذت اعتصامات ودقائق صمت جماعية في مختلف المدن السورية، بما في ذلك وقفة للطلاب أمام كلية الحقوق ومقرّ وكالة أنباء ‘سانا’، تدخّلت قوّات الأمن لتفريقها بالقوّة. المظهر الأبرز كان التجمّع المركزي في مقبرة ‘قدور بك’، في القامشلي، حيث احتشد قرابة عشرة آلاف من جماهير محافظة الحسكة، وألقت الناشطة السورية فهيمة صالح أوسي (هرفين) خطبة أخرى شجاعة. (كانت هرفين قد تعرّضت، قبل ثلاث سنوات، لاعتقال مباشر في شارع عام، سبقه اعتداء بالضرب الوحشي، وتمزيق الثياب، والسحل، والجرجرة من الشعر، تحت إشراف ضابط شرطة برتبة عميد، ليس أقلّ؛ وذلك بسبب خطبة جسورة طالبت فيها بإنهاء الأحكام العرفية، وسلطة الإستبداد والحزب الواحد، والكفّ عن اعتقال المعارضين واختطافهم).
والحال أنّ انتفاضة القامشلي كانت النذير الأهمّ، والأبكر نسبياً في عهد بشار الأسد، على احتمالات التحرّك الجماهيري المناهض للسلطة، وديناميات الإحتجاج السياسي ـ الاجتماعي في الجوهر، حتى إذا كان مضمونه المباشر يخصّ حقوق شريحة محددة من المواطنين، الكرد؛ في منطقة من سورية، محافظات الشمال الشرقي عموماً، و’الجزيرة’ بصفة خاصة. وهذه، كما تقتضي الإشارة، مناطق تعرّضت على الدوام للإهمال والحرمان ومعاملة الدرجة الثالثة، رغم أنها ‘أهراء سورية’ على نحو أو آخر، وفيها تتمركز ثروات البلاد ومواردها الأساسية: في محافظة الحسكة، النفط، وزراعة الحبوب، والأقطان، التي تعدّ محاصيل ستراتيجية؛ وفي دير الزور، النفط؛ وفي الرقّة، الكهرباء وسدّ الفرات.
وإذا كان التمييز البيّن يقع على مواطني هذه المحافظات الشمالية، بالمقارنة مع سواهم في محافظات أخرى، فإنّ التمييز الذي يعاني منه المواطنون الكرد أشدّ وأبعد أثراً، وهو بلغ ويبلغ مستوى التجريد من الجنسية والحرمان تالياً من حقوق التعليم وتسجيل الولادات الجديدة والسفر، إلى جانب التحريم شبه التامّ المفروض على الحقوق الثقافية والسياسية الأساسية. وعلى سبيل المثال، والمقارتة، هنالك في مدينة القامشلي مدارس خاصة تدرّس اللغة السريانية، وأخرى تدرّس اللغة الأرمنية؛ ولكنّ المواطن الكردي ليس ممنوعاً من هذا الحقّ الطبيعي فحسب، بل إنّ احتفال الكرد بأبرز أعيادهم، النيروز، يحتاج دائماً إلى إذن خاص من السلطات الأمنية، وينتهي غالباً بصدامات مع السلطات الأمنية.
من جانب السلطة، كان كسر انتفاضة القامشلي بمثابة التمرين الأوّل للأجهزة الأمنية وكتائب القمع العسكرية الخاصة، في عهد الأسد الابن، وفي أطوار ما بعد المواجهات الدامية مع جماعة ‘الإخوان المسلمين’، وما بعد مجزرة حماة، 1982. ولهذا لم تلجأ السلطة إلى خيار الهراوة الغليظة وحدها، بل استخدمت الرصاص الحيّ، وحصار مدن وبلدات القامشلي والحسكة وعامودا وديريك والدرباسية وعين العرب وعفرين، بإشراف مباشر من ماهر الأسد، قائد الحرس الجمهوري… وكأنه يعيد إنتاج مرابطة أمثال رفعت الأسد وعلي حيدر وشفيق فياض، على تخوم تدمر وحماة وحلب، مطلع ثمانينيات القرن الماضي!
وأجدني، كما في كلّ مناسبة تخصّ القامشلي، مسقط رأسي، أستعيد صورة للمدينة لا أظنها تشبه أياً من المدن السورية: موطن كريم لأقوام من العرب والكرد واليزيديين والأرمن والسريان والآشوريين، فضلاً عن البدو الرحّل والعشائر المستوطنة؛ الأمر الذي استدعى تعدّدية أخرى كريمة، ثقافية وأنثروبولوجية، على صعيد اللغات والأديان والمذاهب والتراثات والأساطير. وكانت علاقة البشر مع المواسم الزراعية قد جعلت منطقة ‘الجزيرة’، وبالتالي مدينة القامشلي بوجه خاصّ، تنفرد عن بقية المناطق السورية في أنّ معظم سكانها خليط ثنائي التركيب: إمّا من الوافدين الذين قَدِموا من مناطق الداخل السوري بحثاً عن العمل الموسمي ثم استقرّوا، أو من المهاجرين الذين توافدوا من تركيا والعراق وأرمينيا هرباً من الإضطهاد العرقي أو السياسي.
شخصياً، ومعذرة على هذه النقلة الذاتية، كنت أتكلم الكردية مع أصدقائي في المدرسة والشارع، رغم أنني لست كرديا؛ وأرطن ببعض السريانية، وبعض الآشورية، وأفهم الكثير ممّا يُقال أمامي باللغة الأرمنية. وفي سنوات الصبا كنّا، نحن المسلمين، نستضيف أصدقاءنا المسيحيين (على اختلاف طوائفهم وإثنياتهم) في مسجد المدينة الكبير، حيث يجري الإحتفال بعيد المولد النبوي، وتُوزّع صُرَر السكاكر والملبّس والنوغا. وكانوا يستضيفوننا في احتفالات عيد الميلاد، فندخل كنائسهم لا كالغرباء أبداً، ويحدث أن نشارك في بعض شعائرهم، ونأكل ممّا يأكلون، ونشرب أيضاً!
لكنّ مختلف حكومات حزب البعث، منذ استلامه السلطة سنة 1963، تكفّلت بالإجهاز على الكثير من أخلاقيات التعدّد الراقية هذه، أو رسّخت نقائضها عن سابق قصد معتمَد وتخطيط منهجي، ضمن سياستَين متكاملتين: ممارسة العديد، والمزيد، من أشكال التمييز ضدّ الكرد؛ واللعب على حساسيات طائفية ومذهبية بين المسلم والمسيحي، أو حتى بين المسلم والمسلم، وإيقاظ ما كان منها خاملاً نائماً، وإحياء ما اندثر وانطوى. وكما كانت انتفاضة القامشلي تمريناً مبكراً، في ضمير شعب متعطش إلى الحرّية، وفي حسابات سلطة لا ترتكز إلا على الإستبداد والفساد؛ فإنّ أمثولة تكوين المدينة الفريدة يمكن أن تصبح، اليوم، تمريناً يستعيد، مثلما يستشرف، صورة سورية الأجمل: حيث التعدّد قوّة، والاختلاف اغتناء، والوطن للجميع.