أمل يشبه اليأس
فارس البحرة
لماذا ثرتم وقد احتملتموهم عشرات السنين؟
لأننا لم نعد نستطيع احتمالهم، ولأننا وجدنا الصبر لا يجدي هدى، ولأننا ثرنا، ولأن الأمر لا يخص أحداً غيرنا! هذي بلادنا، تلك مواعيد ثورتنا، اضبطوا عقولكم عليها، لا العكس!
ما الذي يعرفه عن سورية أعداء ثورتها؟ غير أكاذيب الممانعة، وفنادق استقبلتهم، أو فساد يصنع الثروات والسعادة لقلة قليلة على حساب ملايين السوريين، غير أنانيتهم وروتين حياتهم، وأوهامهم التي بالكاد تتجاوز بضعة الكيلومترات السورية التي يألفونها؟ ماذا يعرفون عن ملايين لم تحسب حسابها سياسة سورية أو عربية أو عالمية منذ عشرات السنين؟ ماذا يعرفون عن السوريين؟ بؤسهم، فقرهم، جوعهم، تشردهم، ندرة فرص عملهم، سوء تعليمهم، وقبل كل شيء هدر كرامتهم وإنسانيتهم؟ استعبادهم؟ ماذا يعرفون عن عمق دوافع ثورتهم كي تختزل بمؤامرة أو طيش؟
للنمط التقليدي من السياسة والثقافة العربيتين عدو واحد “لا شريك له” هو إسرائيل. فماذا لو أثبت عدو أنه لا يقل شراسة عن آلة القتل والدمار الإسرائيلية وربما يزيد؟ ما المتوقع عندما يصادر حق شعب في أن يعادي من ارتكب ويرتكب بحقه مختلف أنواع الجرائم، كون المجرم ليس إسرائيل بل من “يمانعها“؟
لن تسقط المعاداة، ولكن قد تخترع لها أسباب جديدة، طائفية مثلاً.
تريد السياسة والثقافة العربيتان ثورة تندرج في مفاهيمهما ومسبق أحكامهما. وتريد الثورة السورية ثقافة وسياسة عربيتين قادرتين على مواكبتها لا العكس. في البدء كان الإنسان، وجوده الحق، فعله، لا مفاهيم بالية تُستظهر عنه. لكن هل كان الإنسان؟ هل تعترف السياسة والثقافة السائدة في العالم كله بوجود البؤساء؟
لن يقدم الثائر السوري ما يروي عطش مدمني الطمأنة. فلم يثر السوريون إلا لطمأنة نفوسهم المهددة بأشكال العدم. وكلما طال أمد ثورته يتأكد السوري أن من واجبه أن يقدّم القلق لا التهدئة، أن يفاقم من ذعر أعداء ثورته والمتشككين بها. إذ يبدو أن عالماً يشعر السوريون فيه بوجودهم لن تقوم قائمته إلا على أنقاض عالم من يتجرؤون على نقاش حقهم في الوجود.
ليس جديداً ولا مفاجئاً ما يلقاه السوريون على أيدي الغول. ولم تقم الثورة ليكتشف السوري ما يعرفه جيداً من استهانة بحياته وكرامته ومن غياب غده. عندما يستيقظ السوري ولا يجد النهار، يعرف أن عليه أن يصنعه بساعديه، ثم يعلق شمسه عليه، ويرسم عليها الابتسامة.
لم يأت التوافق العالمي على مجانية الموت السوري من عدم، السوري هو الذي جاء من عدم، ثم توافقَ العالم على أن العدم الذي جاؤوا منه هو المكان الأنسب لأولئك العديمين. لن يحبط البذخ في إعدام السوريين ـ دفعهم إلى العدم ـ ثورتهم، على العكس، سيذكي نارها، مثلما كان السبب في انفجارها. الشعور العميق بانعدام قيمة الحياة هو ما دفع السوريين إلى تجسيد شعارهم: “الموت ولا المذلة!” يحارب السوري العدم كي يوجد، يصنع أسطورة تكوينه. هل يذكر ذلك بشيء؟ أجل، بالثورة الفلسطينية، الثورة السورية وصل ما انقطع. تتفق إسرائيل وإيران ضدها!.
من تظن نفسك كي تواجه العالم كله؟“ لسان حال المتفرج الساكن في بيت الأسف ومن تظن نفسك عندما تخضع للعالم كله؟!“ يجيب الثائر. ليس المكلومة أجسادهم ولا المبتورة أعضاؤهم ولا المهدومة بيوتهم ولا المقتول أهلوهم ولا النازحون المشردون المنفيون بعمال الأسف وعبيده، إنما الداعون للاستسلام رعاة الذل هم النظّارة!
الثائرون في سورية هم الملايين المنسية، وصوت الملايين المنسية في العالم كله. من المفهوم أن يتواطأ عالم النخب ضد الملايين التي انفجرت تطالب بالعدالة. مخيفة الملايين!
لم تقم الثورة لتأتي بغد أفضل، الغد الأفضل حلم النخب، ثارت الملايين لتأتي بالغد فحسب، يكون غدها أو لا يكون!
هل سنندم؟ نعم! سيندم المتسائلون. الثائرون لا يتساءلون. ذاهبون إلى مصيرهم الوحيد بأمل لا يتزعزع، لأن فيه كل خصائص اليأس.
خرج المارد من القمقم، أعيدوه إن استطعتم، إني أتحدى!.
الأيام