أميرلاي .. و«الطوفان في دولة البعث»
احمد باشا
ضجيج لتلاميذ مجتمعين حول رجل مجهول، بعضهم يحملون كتبهم في أيديهم، وكثير منهم يشذون في لباسهم عن اللباس المدرسي الأزرق ـ الذي استحدث في عهد بشار الأسد ـ يسمع في البداية صوت هذا الرجل، بلكنة أهالي الجزيرة السورية يقول «فلتصورنا الآن ونحن ندخل المدرسة»، ويتقدم صاحب الصوت ليقف في مواجهة الكاميرا، يضع نظارته الشمسية، يختفي لثوان، وليتضح «المنظر العام أمام سور كبير لمدرسة الجزيرة الشرقية في مدينة القورية بريف دير الزور، على الجدران أُخفيت بعض الكتابات بالطلاء الأسود وبعضها لا يزال ليوضح يأس من يحاول إخفائها دائماً». يعود الرجل مجدداً إلى عمق الكادر ممسكاً بيده علم الثورة السورية، ويتحدث للكاميرا باللغة الفصحى «نحن الآن أمام إحدى المدارس، مدارس البعث، اليوم الطلاب يعانون معاناة كبيرة، فأبناء جلدتنا يسممون أطفالنا بأفكار البعث المهترئة»، ثم يأمر المصور باللهجة العامية «امشي معي لشوف»، ثم ليصرخ في وسط باحة المدرسة «أتحداك يا بشار الأسد .. أدعوك لمناظرة.. أنت تعرفني شخصياً!».
ليس من الخطأ القول بأن المشهد السابق يصلح لأن يكون اقتراحاً جديداً كمشهد افتتاحي لفيلم الراحل عمر أميرلاي «الطوفان في دولة البعث»، لكن ما سيحدث بعد دخول المعلم وتلاميذه إلى فضاء المدرسة سيؤكد أنه من العجالة تبني مثل هذا الاقتراح، وأن المشهد السابق ليس إلا مفتاحاً حقيقياً للدخول في عوالم فيلم تسجيلي سوري، صنع بتاريخ 21/11/2011 حسب ما قاله بطل الفيلم «مدرس القورية» في باحة المدرسة، كإشارة منه لتاريخ صناعة الفيلم من جهة، وليؤكد أهمية عنصر الزمن من جهة ثانية. زمن الفيلم لا يتجاوز العشر دقائق، «العبارات على الجدران وهتافات التلاميذ حول معلمهم تشي بأنه زمن الثورة السورية، لنكتشف بعدها بأنها عشر دقائق تمثل صرخة في وجه عائلة واحدة حكمت لما يزيد عن الأربعين عاما، وهذا ما يستشف تحديداً عند الغوص أكثر في تفاصيل المكان» المدرسة.
حالة الهيستيريا المصاب بها بطل الفيلم «المدرس» سببها بالأساس عنصرا الزمان والمكان في الفيلم، فثمانية أِشهر تجابه أربعة عقود خلال رحلة مدتها عشر دقائق، كما كانت هذه الرحلة أيضاً لتفضح العلاقة بين الداخل والخارج، الخارج المضاء بمصدر الضوء الطبيعي، الخارج المستقل والمكتف بعناصره الأساسية، والتي هي أولاً كمية كبيرة من الشعارات الموجودة على الجدران والمقموعة أًصلاً ببقع الطلاء الأسود، ثانياً الرهبة التي تسكن وجوه التلاميذ التي يكسرها في كثير من الأحيان فرح التلاميذ بمعلمهم، أما الداخل فشبه مظلم فيه غرفة المدير»السلطة» وصور بمختلف الأحجام لرئيس البلاد، تحتل بطريقة عشوائية كل الجدران الداخلية.
البطل هو شخصية من الداخل قامت بفعل التمرد، وما يسبغ عليها صفة المأساوية كونها احتفظت بالخطاب نفسه، وبالأزياء أيضاً، ولكن بلغة جديدة «لغة الثورة السورية»، لذلك اقتحم وحده فضاء السلطة «غرفة المدير» بعد أن رافقه التلاميذ إلى المدخل الداخلي للمدرسة وهم يهتفون حوله «حرية للأبد .. غصب عنك يا أسد».
التمرد يبرره درامياً كمية الشحن النفسي والبصري في الخارج، ويبرره أيضاً زمن الثورة السورية وقسوة الفضاء في الداخل.
بحذائه أزال الصورة، وحطم صورة كبيرة للرئيس وداس عليها، كما أخرج سكيناً ليزيل آثار بقايا إحدى الصور، السكين كغرض تجاوز دلالته الوظيفية هنا، ليأخذ دلالة ثورية تنبع عن كمية القهر المتراكم حتى داخل زمن الفيلم، فاللحظة التراجيدية كانت عندما بدأ بإزالة صورة الرئيس على الباب ليكتشف أخرى تحتها وأخرى أيضاً وليخرج من الغرفة كسيزيف، سيستعمل آلة حادة في النهاية.
في مثل هذه الأيام رحل أميرلاي صاحب «الطوفان في دولة البعث» الذي قام برحلة مشابهة، ولكن في زمان مختلف وبلغة ثورية خاصة، لم يتسن له أن يرى كيف أن شخوصه أو معادلاتها في الواقع السوري سمحت لنفسها بالثورة، كما أرادت هذه الشخوص أن تبوح لعمر: لا تقلق أبداً! سنستمر في رصد فصول هذا الطوفان.
لذلك كان القطع المفاجئ في آخر الفيلم.
(كاتب سوري)