أنطولوجيا “البهجة السريّة” للقمان محمود/ هوشنك أوسي مهرجان شعري في كتاب
“… وهنا أحب أن أنوه أن هذا الجهد الكبير قد استغرق من العمل أكثر من سنة كاملة من البحث والترجمة والتدقيق، كي يكون أهم وثيقة معبرة عن الشعر الكردي في غرب كردستان، كمحاولة مني لإعطاء صفة الشمولية لهذا العمل الأول من نوعه، والرائد في مجاله. حيث أفسحت المجال للشاعر الكردي الذي يكتب باللغة العربية أيضاً.(..). ولقد نجحت في ذلك إلى حد كبير، في جمع المشهد الشعري الكردي في سوريا بكل تبايناته واختلافاته ، بكل طبقاته وملامحه، وبكل أجياله الكلاسيكية والراهنة والحديثة” (ص8-9).
بهذه النبرة “المتواضعة”، مدح الشاعر والناقد والصحافي لقمان محمود كتابه الأخير “البهجة السريّة.. أنطولوجيا الشعر الكردي في غرب كردستان” الصادر عن دار سردم للطباعة والنشر في مدينة السليمانيّة بكردستان العراق. ورغم الكتابات “الإحتفائيّة” الكثيرة التي تناولت الانطولوجيا، لا مناص من تسجيل بعض الملاحظات على هذا الجهد. وأوّلها، أنه ليس “الأوّل من نوعه والرائد في مجاله”، لأن الشاعرة الكرديّة السوريّة خلات أحمد، سبق وأن أعدّت انطولوجيا خاصّة بالشعراء الكرد السوريين، الذين يكتبون بالكرديّة والعربيّة، تحت عنوان: “نوافذ باكرة” وصدرت العام الفائت، عن جمعيّة البيت للثقافة والفنون في الجزائر، (بالتعاون مع وزارة الثقافة الجزائريّة).
اختيار محمود “البهجة السريّة” عنواناً، أتى ملتبساً. فمفردة “السرّيّة” توحي بالقمع والحظر والملاحقة للهويّة القوميّة والثقافيّة الكرديّة في سوريا، وأن الشعر الكردي نالهُ نصيب. ولكن، ليس بذلك القدر من المبالغة. بدليل حصول بعض الشعراء الكرد، على تراخيص طباعة مجموعاتهم الشعريّة، بعد ترجمتها للعربيّة، في سوريا. كما لم نسمع في السنوات الثلاثين الأخيرة، أن شاعراً كرديّاً تمّ اعتقاله كونه نشر كتابه الشعري سرّاً. ما يعني أن الحالة “السريّة”، لا تنطبق تماماً على الشعر الكردي السوري. أمّا بخصوص كلمة “البهجة”، فالشعر الكردي؛ الشعبي والمدوّن، هو سِفرٌ من الأحزان والآلام والمصائب والكوارث والخيانات، إلى جانب الافتخار بأمجاد الماضي وملاحم المقاومة والعشق. وبالكاد نلمح فيه بوادر “البهجة” أو “اللذّة” السريّة أو العلنيّة!. وبالتالي، لم يكن اختيار “البهجة السريّة” عنواناً موفّقاً.
بخصوص الترجمة
الفقرة المقتبسة من قصيدة “من أنا – kîme ez” للشاعر جكرخوين، ترجمها محمود على النحو التالي: “من أنا؟/ الكردي الكردستاني/ أنا الشرقي/ هذه الأبراج والقلاع/ وهذه المدن والقرى/ أنا من صان وحمى هذا الشرق من غدر الروم والإفرنجة/ هذه الصحارى وهذه الواحات كلها كانت في قبضتي/ وبالقتال الضاري مزقت شوكة وكبرياء الغزاة. ” (ص11).
علماً انه أتى بالشطر الأول من الفقرة الأولى (Kurdê Kurdistan) ودمجها بالفقرة الثانية من القصيدة، وترجمها على أنها “الكردي الكردستاني” والأصحّ “كُردُ كردستان”. كما ترجم جملة ” Ez im rojhilat” (أنا الشرقي…) والأصحّ “أنا الشرق / بما فيه من أبراج وقلاع / بما فيه من مدنٍ وقرى…”. فجكرخوين وصف نفسه بالشرق، ولم ينسب نفسه إليه. وفي هذا المقتبس أيضاً، دمج الشطر الرابع من الفقرة الثالثة (Ev bej û avî) بالفقرة الثانية، وترجمها على أنها “الصحارى والواحات” والأصح “البراري والبساتين”. ومعروفٌ أن طبيعة كردستان، جبليّة تتخللها سهول ووديان، وخالية من الصحارى والواحات!. كما ترجم الأسطر الأخيرة من الفقرة على هذا النحو: “وبالقتال الضاري مزقت شوكة وكبرياء الغزاة”. والصحيح؛ “حميت الشرقَ بالحرب والقتل من الروم والفِرنجة”. ولا يوجد في النصّ أيّة عبارة، تعني: “مزقت شوكة وكبرياء الغزاة”، علماً أن الشوكة، تُكسَر، ولا تُمزّق!.
هفوات في المنهج
أولاً: ذكر محمود أسماء الشعراء وفق الترتيب الهجائي وحسب. وكان عليه تبويب الكتاب وفق تصنيفات نقديّة. مثلاً: “الشعراء الكلاسيكيين – التقليديين. وشعراء الحداثة”. أو “الشعراء الذين يكتبون بالعربيّة والشعراء الذين يكتبون بالكرديّة”. وهذا ما فعلته خلات أحمد في انطولوجيا “نوافذ باكرة”. وعليه، أتت الانطولوجيا خليطاً، دون فرز، لا يسهّل على الباحث أو الناقد مهمّته، إنْ أراد إجراء بحوث ودراسات عن الشعر الكردي في سوريا.
ثانياً: لم يأتِ محمود على ذكر أسماء شعريّة معروفة، وبعضهم، أهمّ من بعض الأسماء المذكورة في الانطولوجيا. وحسب ما أسعفتني الذاكرة، استطعت إحصاء ما يزيد عن 23 شاعراً وشاعرة، ممن تمّ تجاهلهم، يكتبون القصيدة الحرّة، وخمسة شعراء كتبوا ويكتبون القصيدة الكلاسيكيّة (العاموديّة الموزونة)، وهم: مناف محمد، هفال حسو، كمال نجم، نذير ملا، آزر أوسي، سليمان آزر، نوح سليمان، جوان نبي، نرجس اسماعيل، يونس الحكيم، محمد نور الحسيني، عبدي جاجو، صالح بوزان، دارا عبدالله، هوشنك بروكا، عبد اللطيف الحسيني، اسماعيل كوسه، محمد رشو، رفعت شيخو، محمد بلال يوسف، نديم يوسف، دلدار فلمز، حنيف يوسف، محمود بادلي وحسين درويش. أمّا الشعراء الذين كتبوا القصيدة التقليديّة، فهم: يوسف برازي – بيه بوهار، سيداي كَلَش، ملا حسن كرد (حسن هشيار)، محمد علي حسو ومحمود صبري (تمّ تكريمه في مهرجان الشعري الكردي سنة 2002). وأتى على ذكر كل من الشعراء سيداي كلش (ص 13) ويوسف برازاي (ص14/15) ودلدار ميدي (ص17)، في المقدّمة، ولم يذكرهم في الانطولوجيا؟!
ثالثاً: لم يكن محمود على مسافة واحدة من الشعراء، بحيث نشر لبعضهم عدّة قصائد، ولآخرين قصيدتين أو قصيدة، بينما نشر لنفسه ثلاثة قصائد وومضتين (ص310/314)!. كما لم يكن متوازناً ومحايداً في التعريف بالشعراء، أثناء ذكر نبذة عنهم، بحيث أسهب في تعريف البعض، بينما قدَّمَ شعراء آخرين باقتضاب شديد، ولم يذكر كل عناوين نتاجاتهم. مثلاً، لم يشر إلى الشاعرتين خلات أحمد وأفين شكاكي، اللتين أعدّتا انطولوجيا خاصّة بالشعر الكردي!. وذكر محمود أكثر من خمسة شعراء، بأن لكل واحد مجموعة شعريّة أو مجموعتين، دون ذكر عناوينها، وسنوات صدورها!. علماً أن إعداد الانطولوجيا استغرق سنة كاملة، “من البحث والترجمة والتدقيق” (ص8)!.
رابعاً: بخصوص المراجع، كان عليه العودة إلى بعض انطولوجيات الشعر الكردي، بغية الاستفادة من المعلومة، وتوخّي أخطاءها. مثلاً: “تغريدة الأقلام الرقيقة” عن الشعر النسائي الكردي للشاعرة أفين شكاكي، الصادرة عن دار روناهي في مدينة دياربكر – آمد هذا العام. و”نوافذ باكرة” انطولوجيا شعراء الكرد السوريين، المذكورة آنفاً. وأنطولوجيا الشعر الكردي التي أعدّها الباحث سليم تمو، الصادرة في اسطنبول سنة 2007.
بخصوص المقدّمة
أتت المقدّمة على شكل دراسة نقديّة، افتقرت التنظيم والضبط وفق عناوين محددة. بالإضافة إلى أن الرؤى النقديّة التي طوى محمود مقدّمته عليها، بحاجة إلى المزيد من الدراسة والتحليل والتوثيق. وأمكنني تسجيل الملاحظات التاليّة:
أولا: لم تتطرّق المقدّمة إلى جذور وبدايات الحداثة الشعريّة الكرديّة. وأثناء الحديث عن قدري جان، لم يذكر أن العديد من الدراسات تشير أن الحداثة والخروج عن نظام الشطرين والقافية، بدأت مع هذا الشاعر.
ثانياً: أثناء شرحه لسليم بركات، يقول محمود: “لقد بحث سليم بركات ويبحث بإستمرار عمّا يحقق له قولاً فنيّاً، يعكس وعي اللاشعور المناسب، مع السياق المكاني المشحون بالإيحاء الرمزي الشفيف، كتشكيك في عمق الكلام المباشر، للوصول إلى عناصر ذات صلة وثيقة باللغة من خلال “الحلم” الذي يعيد أطراف الحقيقة – الشمال إلى مصدر واحد من حيث الماهية والإحساس.” (ص19). وهذا الكلام بحاجة الى شرح. ذلك أنه ليست وظيفة الناقد، الزيادة في “تلغيز” النص، بل تقريبه من قارئه، للحدود القصوى، ومحاولة شرحه وتحليله، بلغة سلسة وبسيطة، لا تحمل الحشو والتكلّف والتفلسف، وتدوين الجُمل المركّبة الطويلة، التي تدخل القارئ في متاهة!
ثالثاً: في تصنيفه للمدارس أو التجارب التي أثّرت على الشعراء الكرد السوريين، أتى محمود على ذكر؛ جكرخوين وسليم بركات وشركو بيكس. وإذا كان الأوّلان كتابا بالكرديّة اللاتينيّة والعربيّة، (وهما لغتا الثقافة الكرديّة السوريّة)، ولا شكّ في تأثيرهما على الشعراء الكرد السوريين، إلاّ أن بيكس تمّت قراءته عبر الترجمة إلى العربيّة. وقلائل جدّاً من قرأوه بهجته الكرديّة – الصورانيّة. فكيف يمكن الحديث عن تأثير بيكس على الشعر الكردي السوري، بحيث يشكّل تيّاراً أو مدرسة فيه؟!. أعتقد أن هذا الرأي، مبالغٌ فيه، ويحتاج الى السند والمزيد من الدراسة!. وكان حريّاً بالكاتب، أن يأتِي بأمثلة مقاربة من تجارب شعراء كرد سوريين، متأثّرين بشعر بيكس، كما فعل أثناء مقاربته نتاج بعض الشعراء الكرد المقلّدين لتجربة جكرخوين!؟
وفي الحيّز المخصص لتأثير بيكس على الشعر في غرب كردستان، يسهب محمود في تناول هذه التجربة، وكأنّه بصدد دراسة نقديّة خاصّة بهذا الشاعر الكردي العراقي!، وليس بصدد دراسة عامّة، من المفترض أنها مقدّمة للانطولوجيا!. وهنا أيضاً، يطلق محمود حكماً – رأياً، يستوجب المزيد من الدراسة والتنقيب النقدي، إذ يقول في الصفحة 29: ” فخلال الأعوام الثلاثين الماضية شكلت أشعار شيركو بيكس النهر الرئيسي للقصيدة الجديدة في سوريا”!؟
رابعاً: أثناء تناوله تجارب الشعراء؛ جكرخوين، بركات وبيكس، يُستشفّ من التقييم النقدي وكأنّه يسعى إلى توثين وتصنيم هذه القامات، لشدّة إغداق المديح عليها، وأنها لن تتكرر، ولن يتجاوزها أحد!. ولَعمري أن ذلك يأتي بالضدّ من وظيفة النقد التي تسعى إلى تحليل التجربة والنصّ جماليّاً، والبحث عن مكامن العيب والعثرة والخلل في أيضاً. زد على ذلك، أن نهر إبداعات الشعوب، وبخاصّة الشعر، لا يتوقّف عند قامة شعريّة بعينها، مهما بلغ علوّها. ولا يمكن اختصار التجربة الشعريّة لشعبٍ ما، بعدّة شعراء، مهما عَظُمَ شأنهم.
الحقّ أن أقرب وصف لـ”البهجة السرّيّة”، أنها بمثابة مهرجان شعري غفير، ضمن كتاب، شارك فيه مئة شاعر وشاعرة. ويمكن أن يحدث في كل مهرجان، طغيان أسماء على أسماء أخرى، ويمكن أن تقع اللجنة المنظّمة في أخطاء وهنّات، وتفضيل لهذا الاسم، وتسليط الأضواء عليه أكثر من غيره. إلاّ أنه في النهاية، يبقى مهرجاناً، فيه الكثير من الإيجابيات، التي يستحق منظّموه الشكر والتحيّة عليها.