أنقرة وتركمان سورية: الاستثمار المتأخّر والمقلق لعمق اجتماعي واهٍ/ هوشنك أوسي
على غير عادتها، تأخّرت تركيا في اللعب بالورقة التركمانيّة السوريّة، قياساً بالورقة التركمانيّة في العراق. ذلك أن استثمار تركيا الرابط أو العنصر الإثني التركي المشترك ومظلوميّة «أبناء العمومة» في مسعى توسيع دائرة النفوذ، يعود إلى عام 1974، حين غزت أنقرة شمال جزيرة قبرص اليونانيّة، بحجّة دعم القبارصة من أصل تركي، على أنهم «مقموعون ومضطهدون» من جانب القبارصة اليونانيين. وما زال هناك 30 ألف جندي تركي يحتلّون شمال الجزيرة اليونانيّة، حتى بعد أن حصلت الأخيرة على العضوية التامة في الاتحاد الأوروبي. وما زالت القضيّة القبرصيّة من القضايا الدوليّة العالقة، ولم تصل إلى حلّ نهائي وناجع، تحت تأثير التدخّل التركي، على رغم كل القرارات الأمميّة ذات الصلة، بعد أن أعلنت «جمهوريّة قبرص التركيّة» نفسها، ولم يعترف بها أحد سوى تركيا. ومعلوم أن أنقرة حوّلت هذه «الجمهوريّة» إلى جيب أمني عسكري – سياسي في جزيرة قبرص، وإلى مرتع لتبييض الأموال.
كذلك التدخّل التركي في شؤون جمهوريات آسيا الوسطى: تركمانستان، أوزبكستان، كازاخستان، طاجيكستان وقرغيزستان، ومحاولة استمالتها، عبر تقديم الحوافز الاقتصاديّة وعقد الاتفاقات، كانا على أساس استثمار الجانب العرقي المشترك الذي يجمع قوميّات تلك الجمهوريّات مع الأتراك، على اعتبار أن الموطن الأصل للأتراك هو آسيا الوسطى وليس الأناضول. ذلك كله، في مسعى الى تشكيل إطار أو اتحاد سياسي – اقتصادي – ثقافي يجمع تركيا بتلك الجمهوريّات، بغية بسط النفوذ التركي عليها في مواجهة النفوذ الروسي والصيني، وحتّى الإسرائيلي والأميركي أيضاً هناك، نتيجة غنى المنطقة بالثروات.
طبعاً، لا يمكن أيضاً إغفال الدعم العسكري والسياسي التركي لأذربيجان في نزاعها الحدودي مع أرمينيا على منطقة «ناغورنو قرباخ»، لأسباب عديدة، منها ما هو عرقي، ومنها ما هو متعلّق بالعداوة التاريخيّة التي تكنّها تركيا للأرمن منذ المجازر الأرمنيّة (1915 – 1917).
في العراق
حاولت تركيا منذ مطلع التسعينات، استثمار الورقة التركمانيّة، واستقطاب العناصر التركمانيّة للعمل في الدوائر الأمنيّة والعسكريّة، كمترجمين من الكرديّة والعربيّة إلى التركيّة، أثناء فترة الصراع بين تركيا و «العمال الكردستاني». ومنحت تركيا جنسيّتها لآلاف تركمان العراق لقاء المهمات السياسيّة والعسكريّة والأمنيّة والإعلاميّة التي قاموا بها لمصلحة أنقرة. وهنالك الآن إعلاميون وأكاديميون ومستشارون معروفون في تركيا من أصول تركمانيّة عراقيّة.
لكن تركمان العراق منقسمون على أنفسهم، بين شيعة، ولاؤهم لطهران، وتركمان كردستان العراق، ولاؤهم لأربيل، وقسم من التركمان، هم السنّة الموجودون في كركوك والموصل، ولاؤهم لأنقرة. وأسست المخابرات التركيّة عام 1995، تنظيماً سياسيّاً أطلقت عليه اسم «الجبهة القوميّة التركمانيّة العراقيّة»، وهو عبارة عن ائتلاف مجموعات قوميّة تركمانيّة، مدعومة ماليّاً وعسكريّاً من تركيا. وبأمر من أنقرة، كانت وما زالت هذه «الجبهة» تحاول عرقلة تطبيق المادة «140» من الدستور العراقي، التي تقضي بتطبيع الأوضاع في كركوك والمناطق المتنازع عليها بين بغداد وأربيل، وإجراء استفتاء فيها، حول تابعيّة هذه المناطق. وبعد أن تحسّنت العلاقات السياسيّة والاقتصاديّة بين أنقرة وأربيل، قلّ اهتمام تركيا بهذا التنظيم التركماني قياساً بما كان عليه سابقاً. ووفق بعض التقارير، فإن العديد من عناصر «الجبهة التركمانيّة» في العراق، تسرّبوا إلى «داعش».
جدير ذكره أنه حين كانت العلاقات التركيّة مع النظام العراقي السابق جيّدة، إبان السبعينات والثمانيات ومطلع التسعينات، لم تكن تركيا تتحدّث عن أيّة مظلمة أو قمع أو هضم للحقوق يعاني منه تركمان العراق. وحتّى بعد هجوم «داعش» على مناطق الموصل، تلعفر، طوزخورماتو، وارتكاب مجازر بحق التركمان الشيعة، لم يرفّ جفن لأنقرة حيال ذلك، بسبب هويّة التركمان الطائفيّة – الشيعيّة هناك!.
في سورية
حين كانت علاقة تركيا في غاية السوء والتوتّر مع سورية، إبان حكم الأسد الأب، في حقبة الثمانينات والتسعينات، وكذلك حين تحسّنت العلاقة بين الجارين اللدوين، بعد مجيء «العدالة والتنمية» إلى الحكم ولغاية 2012، لم تكن تركيا تتحدّث مطلقاً عن وجود مظالم تركمانيّة في سورية. ربما لأن تركمان سورية لا يقيمون في مناطق تعوم على ثروات باطنيّة، كما هي الحال لدى تركمان العراق.
وبعد مضي سنة ونيّف على اندلاع «الثورة السوريّة»، بدأت تركيا تتحدّث في شكل خافت وخجول، عن مظالم التركمان، وأن أنقرة معنيّة بالدفاع عن «أبناء العمومة» و «الإخوة» التركمان. ذلك كله، في إطار السعي الى تشكيل منطقة عازلة داخل الأراضي السوريّة. وسرعان ما ارتفعت وتيرة الحديث التركي عن حقوق التركمان السوريين ومظالمهم، حين بدأت شوكة «حزب الاتحاد الديموقراطي» (الفرع السوري للعمال الكردستاني) تقوى في سورية، وتسليم نظام الأسد إدارة المناطق الكرديّة السوريّة على الحدود الجنوبيّة التركيّة لهذا الحزب، والنجاحات العسكريّة المهمّة التي حققها الحزب الأوجلاني (السوري) عسكريّاً وميدانيّاً في مواجهة تنظيم «داعش» الإرهابي. لذا، تنبّهت أنقرة إلى ضرورة استثمار الورقة التركمانيّة السوريّة بالسرعة القصوى. حيث عقدت مؤتمراً لما يسمّى بـ «المجلس التركماني السوري» نهاية آذار (مارس) 2013، شارك فيه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان (حين كان رئيساً للوزراء)، ورئيس الوزراء أحمد داود أوغلو، (حين كان وزيراً للخارجيّة). ولم تكتفِ أنقرة بجعل خالد خوجة، التركماني السوري الأصل، الحاصل على الجنسيّة التركيّة، رئيساً لـ «الائتلاف» السوري المعارض، بل سعت إلى مزيد من تعزيز النفوذ والسيطرة التركيّة على المعارضة السوريّة، عبر تحريك ملفّ المكوّن التركماني في سورية، ليس لسواد عيون التركمان، بل لغاية في نفس أنقرة. وهذا الهدف، بات معروفاً، سواء عبر محاولات تركيا الحثيثة لتكرار سيناريو شمال قبرص في سورية، و«قوننة» أو «شرعنة» وجود عسكري تركي محتمل في سورية، تحت غطاء المنطقة الأمنيّة العازلة، تكون في مثابة جيب أمني تركي داخل سورية، يمكن التفاوض عليه لاحقاً، سواء بقي النظام السوري أو رحل، وصولاً الى تعزيز حصّة تركيا في سورية الأعوام المقبلة.
من جهة أخرى، ستستخدم أنقرة تركمان سورية كرأس حربة في مواجهة أي طموح كردي في سورية، بعد استنفاد ورقة «داعش» أو احتراقها في هذه المواجهة. ذلك أن تركيا، تنبّهت في شكل متأخّر إلى أن إثارة ملف تركمان سورية، ستلقى رواجاً أكبر في الغرب، كأقليّة عرقيّة «مظلومة»، ويساهم ذلك في تعزيز النفوذ التركي في سورية بدلاً من الاستمرار في دعم أنقرة التنظيمات التكفيريّة والإرهابيّة.
زد على ذلك، أن سلوك أنقرة في دعم التنظيمات التكفيريّة بات يحرج حلفاء تركيا الغربيين، ما يجعلهم غير متحمّسين للدفاع عن حليفهم، سواء في السياسات الاستفزازيّة التي تنتهجها أنقرة أو في المواجهة مع موسكو، بخاصّة في ما يتعلق بمسألة إسقاط الطائرة الروسيّة وتبعاتها على العلاقة بين روسيا وتركيا من جهة، وارتدادات ذلك على العلاقة بين روسيا وحلف شمال الأطلسي من جهة أخرى.
في ضوء ما سلف، سيكون تركمان سورية العنوان العريض للخطاب السياسي والإعلامي التركي، في المرحلة المقبلة. هذا الاستثمار المتأخّر، قد لا يكون مقنعاً كثيراً للغرب، ما دام هنالك تركمان مقموعون في تركيا، فقط لأنهم علويون، وليسوا من أهل «السنّة والجماعة»، وينتمون إلى أحزاب المعارضة العلمانيّة التركيّة، العلنيّة منها والمحظورة – المتطرّفة.
ويبقى السؤال: إلى أي مدى سيخدم الاستثمار التركي للورقة التركمانيّة القضيّة السوريّة في شكل عام، وقضيّة تركمان سورية على وجود الخصوص؟ وكيف ستكون مستويات استجابة تركمان سورية ونخبهم السياسيّة والثقافيّة لاستثمار بخس كهذا، مع الأخذ في الحسبان تبعات ذلك على علاقة التركمان ببقية شركائهم في الوطن السوري حاضراً ومستقبلاً؟
* كاتب سوري
الحياة