أهمية المجتمع المدني في المراحل الانتقالية
عمر كوش
يكتسي الحديث عن المجتمع المدني أهمية خاصة مع الثورات والانتفاضات العربية، خصوصاً وأن إشادة مؤسساته وتمكينها، باتت مطلباً لشباب الثورات وناسها، الذين كان لهم الدور الرئيس في الحراك الاحتجاجي، الاجتماعي والسياسي، الذي شهدته كل من تونس ومصر وليبيا واليمن، ومازال مشتعلاً في سوريا.
ولا شك في أن الاهتمام بمفهوم المجتمع المدني ومحايثاته السياسية والاجتماعية، يأتي في سياق إمكانيات استثماره وتوظيفه في الخيارات الديموقراطية المطروحة في المراحل الانتقالية التي تمرّ بها بلداننا العربية، ويدخل في إطار الحدّ من انفراد وتسلط القوى الصاعدة، وبخاصة قوى وأحزاب الإسلام السياسي، المدعية امتلاك سبل الحل والربط والمنع والعقل، وضرورة الإقرار بأن الانتقال نحو النظام الديموقراطي، يستلزم عملية إعادة إنتاج للمفاهيم وفق أقلمات جديدة، خصوصاً وأننا نشهد تحولاً كبيراً في العلاقات ما بين الديني والسياسي على المستوى العالمي، الأمر الذي يتطلب تحليلاً واسعاً للعلاقة ما بين الشأن الديني والشأن السياسي، استناداً إلى تاريخ الأفكار أو تاريخ الأديان، وربطه بتاريخ الممارسات والسلوكيات الاجتماعية، وبالصراع ما بين مبادرات السلطات السياسية ومبادرات السلطات الدينية، وما عرفه المجالان الديني والسياسي من ترابط، كانت فيه القوى والموازين متقلبة في عهود عديدة.
وقد استخدم مفهوم المجتمع المدني من أجل نزع شرعية المجتمع ومجموع مواطنيه، وفصلها عن الشرعية المطلقة والميتافيزيقية وعن سلطة الدولة، وخصوصاً في نسختها العربية، أي توظيفه للحدّ من تغوّل واتساع دولة السلطة، التي تعني انتشار عيون السلطة وأجهزتها الأمنية في مختلف مجالات الحياة الاجتماعية، وفي مختلف مفاصل الحياة، حتى في داخل التكوينات الفردية للمجتمع، كالعائلة والحياة الشخصية لكل فرد، الأمر الذي يستدعي إعادة الاعتبار لمفهوم المواطن، والولاء للوطن، في وجه الانتماءات العصبوية ما دون المدنية، إضافة إلى تكوين استقلالية للمجتمع في وجه أي محاولة تسلط جديدة لأجهزة السلطة والدولة، ومحاولات مصادرة الحياة العامة والخاصة للأفراد ومختلف المجتمع.
وتجسدت الدولة، في كل من سوريا وتونس وليبيا، في صورة مؤسسة شمولية كليّانية، اختصرت بسلطة الحاكم وحاشيته، وانتشرت أجهزة المراقبة والضبط في كل مفاصل المجتمع والمؤسسات القائمة. ووظفت مقدرات الدولة في خدمة المصالح الضيقة للنخبة الحاكمة، فغاب الاهتمام بالشأن العام، شأن الوطن والمواطن، وصارت مشروعية الدولة تستمد من التحكم الشامل لسلطاتها الأمنية القمعية، لذلك فإن كل حركة أو فاعلية كانت تصدر عن المجتمع، اعتبرت مناهضة للدولة وتهديداً لسلطاتها، مما أدى إلى ظهور نوع من الاحتقان الاجتماعي ومواجهة ضدية ما بين الدولة وبين المجتمع، أدت إلى تدمير مختلف بنى المجتمع ومؤسساته، كونها أفضت إلى تغييب السلطة المدنية الوسيطة، واستبعاد كل رمز مدني، مقابل استحضار مختلف الولاءات ما قبل المدنية والعصبوية من عشائرية ومذهبية ودينية وطائفية.
ومن الطبيعي في حالة كهذه أن تنتشر الدعوة المضادة وهي دولنة المجتمع تحت راية إعادة الاعتبار للمجتمع المدني، التي تهدف في نهاية المطاف إلى المطالبة بإعادة الاعتبار لطاقات ومقدرات المجتمع ومختلف قواه الحية من مؤسسات واتحادات نقابية وثقافية ونواد اجتماعية ..إلخ، وذلك كي يسهم المجتمع في بناء قدراته الخاصة ويمارس رقابته على الدولة وسياساتها، وكي يكون للمواطن الحق في مواطنته والحق في الحرية وإبداء الرأي وممارسة الديموقراطية، من خلال المؤسسات الوسيطة بينه وبين الدولة.
وكان مردّ مثل هذا السعي تقليل التعسف الذي مارسته سلطة الدولة العربية، كي تؤكد مشروعيتها الشمولية بعد أن فقدت مشروعيتها الثورية، حيث انتهت المشروعية المستمدة من مرحلة الاستقلال السياسي عن المستعمر، وما عرف بمعارك التحرر الوطني والتنمية، بعدما أضحت البلاد تابعة للغرب والشرق وفشل التنمية الذريع، فراحت السلطات الحاكمة تبحث عن مشروعية أخرى، تمكنها من السيطرة على قوى المجتمع ضمن شمولية سلطتها وأجهزتها. لكن الأمر انتهى في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا بقيام ثورات وطنية، أسقطت شرعيات الأنظمة الحاكمة فيها، وأخذت تسير في مرحلة بناء شرعية جديدة.
وتميزت مرحلة ما قبل الثورات العربية، باختلاط أقلمات مفهوم المجتمع المدني بتوظيف سياسي، ففي ظل غياب الممارسة المدنية ومصادرة الحق في الممارسة السياسية الديموقراطية والتداول السلمي للسلطة، كان من الطبيعي أن يكون المدني مدخلاً للسياسي، مع العلم أن المجتمع المدني له تعبيراته ومؤسساته المختلفة عن المجتمع السياسي والأحزاب السياسية، وهو ما دعا المفكرين إلى الفصل ما بين السياسي والمدني، وما بين كل منهما وبين السلطة الحاكمة التي انفردت في كل شيء. وعليه كانت الأصوات المنادية بإحياء المجتمع المدني، في الحالة العربية، تنادي أيضاً بالديموقراطية والمواطنة والحريات العامة والخاصة وسواها من المفاهيم المتقاطعة معه والمتخارجة منه. ودخلت جميعاً في سياق البحث عن مخرج من حالات القمع والاستبداد والانهيار والتردي الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، بعد أن عجزت الصورة العربية للدولة عن تحقيق متطلبات التنمية بسبب الفساد المستشري في سلطاتها، وتضافر عوامل عديدة، داخلية في المقام الأول، أدت إلى فصل نفسها عن المجتمع وقواه الحية، فضلاً عن العوامل الخارجية، التي جعلت منها السلطة مشجباً تعلّق عليه كل شيء. كما عجزت عن أن تكون دولة مجموع مواطنيها، لذلك فإن إعادة الاعتبار للمجتمع المدني في المرحلة الانتقالية، يصب في مصلحة الجميع، دولة ومجتمعاً، من خلال إعادة الاعتبار لمفهوم المواطن الحر، ولدولة الحق والقانون، الضامنة لحرية المواطنين وحقوقهم دستورياً وقانونياً. وكما علّمنا التاريخ أن الدول والسلطات يمكن أن تضمحل وتزول مع الزمن، لكن المجتمعات وشعوبها باقية، حتى وإن تغايرت أقلماتها وأعادتها في أرض جديدة وشعب جديد.