أيمكن “أتمتة” طقوس القراءة وعاداتها؟/ ديمة الشكر
ربما كان جدال المفاضلة بين الكتاب الورقي والإلكتروني، من أشهر الجدالات وأكثرها تواترًا في أيامنا، من بعدما استطاعت الشبكة العنكبوتية طبع حياة غالبيتنا بطابعها الصاخب، الأقرب إلى دوامة لا تهدأ، فالمعلومات فيها من كل صنف ولون، رغم طغيان صنف “كيفما اتفق”، وتتدفق المعلومات أيضًا كيفما اتفق. قيل الكثير عن أفضلية الورقي على الإلكتروني أو العكس، لكن، في الحالتين كان للسلوك البشري أثناء عملية القراءة حضورٌ قويٌ في النقاش. الفكرة البسيطة التي تقول بمتعة القارئ المنحاز للورقي، في وضع ملاحظات على هوامش الكتاب، أو وضع خط تحت الجمل التي تعجبه، طارت طبعًا صوب الفضاء الإلكتروني، إذ إن كل هذا صار متاحًا كما هو معروف، في الكتب الإلكترونية التي يبيعها الموقع العملاق أمازون.
يبدو النظر إلى السلوك البشري من خلال عيني من يريد “أتمتة” كل شيء، مثيرًا للفضول، إذ أن تواتر سلوك معين لدى شخص ما، لا يستحق الاهتمام، بيد أن تواتر السلوك نفسه لدى مجموعة من الناس، يستحق “الأتمتة”.
هي نظرة تعتمد الكم لا الكيف، ومن هنا خطورتها، إذ إن الكم يعبّر هنا عن عدد “المستهلكين”، وتاليًا ينظر إلى السلوك البشري باعتباره “بضاعة” محتملة، تستحق العمل عليها، وإنشاء “لوغاريتم” من أجل “أتمتتها”.
ذلك أن أمازون يتبع كل حركة أو نقرة يقوم بها قارئ الكتاب الإلكتروني، فوضعُ علامة على صفحة أو فقرة ما، ومشاركة ذلك مع قرّاء آخرين، واختيار جمل ومقاطع بعينها من أجل الحفظ، أو المشاركة، وغيرها من عادات السلوك البشري “إلكترونيًا”، تتحول إلى بيانات و”ميتا داتا”، تُعالج من أجل التنبؤ بالفعالية التجارية للكتاب، أي هل الكتاب ناجح تجاريًا أم لا؟ وأية جمل تعجب الناس أكثر؟ وفي كلام مختلف، فإن السلوك البشري “العفوي”، يتحول إلى “مصدر” لقياس حسابات الربح والخسارة.
وبعيدًا من الدخول في “زواريب” استهجان أو استحسان سياسة أمازون في التأثير على صناعة النشر والكتاب عالميًا بشكل يبدو أن لا عودةَ عنه، سيكون أجدى التأمل في طقوس القراءة وعاداتها لدى الناس.
وإن كنا نظن أن “القراءة الصامتة” سلوك بشري قديم يتزامن مع عملية القراءة نفسها، فهذا غير صحيح، إذ إن “القراءة الصامتة” أمر جيد ناجم عن انتشار المطابع والإنتاج الضخم للكتب ومحو الأمية قبل أي شيء. وهي، أي “القراءة الصامتة”، تجدد نفسها اليوم، إذ إن الضجيج والصخب المنبعثين بلا توقف من الإنترنت، وتلك العادة السيئة للشركات التجارية خصوصًا في تتبع المرء على الشبكة، وجمع بياناته، والتدخل بذوقه الشخصي، وفرض الإعلانات التجارية كقضاء لا راد له، أدت كلها على ما يبدو إلى تراجع أرقام مبيعات الكتب الإلكترونية، واستعادة الكتاب الورقي بعضًا من حصته السوقية. إذ إن الأمر يتعلق فعلًا بالصمت الذي يختاره المرء عند القراءة، والأهم منه، الحاجة إلى التأمّل والتفكير، من هنا جاء السلوك العفوي بوضع خطوط تحت جمل معينة، أو تدوين هوامش على الكتاب.
وليست “القراءة الصامتة” إلا نتيجة للتطور البشري، إذ قبلها كانت القراءة عامّة وجهرية، فحين كان عدد المتعلمين قليلًا بالنسبة إلى عدد السكان، كان مألوفًا مشاهدة من يقرأ لمجموعة من الناس. وفي الأمس العربي القريب، كان ذلك رائجًا، فأكثر من أديب وكاتب عربي في القرن العشرين، أجاب حين سُئل عن طفولته بأنه كان يقرأ الجريدة لجدّه أو لأبيه في مجلسه، أو أنه حضر لمرات مجالس فيها قراءة للشعر القديم، وحكايا عنترة وعبلة وغيرها من المدوّنات. أي أن القراءة كانت نشاطًا اجتماعيًا، وجلساتها تعتمد الاتصال والتواصل بين الناس.
من الصحيح أن جلسات مماثلة ستشّكل نواة محفزّة لطفل ما كي يغدو كاتبًا أو أديبًا، إلا أن عملية التكوين هذه فلنقل، تحتاج أيضًا “القراءة الصامتة” والتأمل لإعمال الفكر، والتفكير العميق، وبالطبع تدوين ذلك كلّه، بدءًا من ملاحظات على الهوامش، واقتباسات من المكتوب، وصولًا إلى التأليف والتركيب.
وصحيح أن سلوك القراءة يتغيّر اليوم، ويعتمد إلى حد كبير على الاتصال والتواصل مع “الآلة”، كما يظهر أن “البصري” صار أكثر تأثيرًا، فتعبير “لغة بصرية” يتواتر في الإعلام ودراسات الميديا والفنون وغيرها من المجالات، إلا أن هذا كلّه لا يدخل إلى كل مناطق السلوك البشري، فلا يمكن قياس “الصمت” الذي يريده القارئ، ولا يمكن القبض على تفكيره، رغم وفرة الاقتراحات التي تريد توجيهه، كأن يختار كتابًا، ويُخرج لوغاريتم البرمجة له، كتابًا ثانيًا متوقعًا أنه سيعجبه، فيقترح عليه أن يشتريه.
لكن على الأرجح ما زال أمام القارئ مساحة للمناورة، حيث يستطيع استعمال “لوغاريتم البرمجة” بصورة لا تتوافق مع الهدف من وضعه. فبدلًا من الإنصراف لشراء كتب مقترحة، يُستعمل “لوغاريتم البرمجة” أداة للبحث والمقارنة. إذ إن المنطق الذي يقوم عليه “اللوغاريتم” يمكن إدراكه بتكرار الاستعمال. وبكلام مختلف يستطيع القارئ أن يستوعب “سلوك الآلة”، ويدرك حدودها فيناورها، خلافًا للآلة التي تظن أن القارئ لا يفكر، وأن سلوكه ثابت ولن يتغيّر.
وعود على بدء، فإن واقع تدوين الملاحظات ووضع الخطوط على جمل معينة في الكتاب الورقي، سلوك بشري رائج، بيد أن “قيمته” تتعلّق بالقارئ نفسه. فالمرء يُحب نسخه الخاصّة من الكتب من أجل هذا الأمر بالذات، ويحب “التلصص” على نفسه وتأمّل ما اقتبسته أو اختارته. لكن كيف يكون الحال، حين يكون القارئ كاتبًا شهيرًا؟
في حال مماثلة، ستحتل الملاحظات والخطوط تحت الجمل رتبة عالية، باعتبارها أحد أسرار الإبداع. كانت تلك حال ملاحظات وهوامش واختيارات الكاتب المسرحي الشهير صموئيل بيكيت.
إذ تضافرت مؤخرًا جهود جامعات أوروبية في بلجيكا والمملكة المتحدة مع جامعة تكساس الأميركية، من أجل رقمنة مكتبة بيكيت الشخصية، التي لا تزيد عن 1010 مجلدات مختارة بعناية على ما يبدو.
وتفصح الملاحظات والاقتباسات والخربشات عن أفكار بيكيت وانفعالاته أثناء القراءة وتكشف شيئًا من طريقة تفكيره لتجلو بعضًا من غموض أعماله وأسرارها، خاصة نزعته العبثية ونظرته التشاؤمية.
ومن أشهر مجلدات مكتبة بيكيت المرقمنة: إميل سيوران، ثيودور أدورنو، جاك دريدا، فضلًا عن كتب علمية ونسخ من الكتاب المقدس وكثير من القواميس.
ضفة ثالثة