أين المثقفون السوريون من الثورة
روزا ياسين حسن
سؤال ما فتئ يطرح طيلة شهور الثورة السورية يخصّ دور المثقفين فيها! يطرح السؤال أحياناً من باب الاستفسار، وأحياناً أكثر من باب الاستهجان والتخوين، خصوصاً وأن التطورات المتعاقبة للثورة جعلت دور المثقفين ينحسر أكثر مما كان في بداياتها لأسباب كثيرة يمكننا النقاش حولها. ولئن كانت الأصوات التي تخصّ ذلك تدور في فلك اتهام المثقفين بقلّة الشجاعة والانتهازية أو التماهي مع الديكتاتورية والانفصال عن الشعب والسكن في الأبراج العاجية، فإن وضع المثقفين كلهم في سلة واحدة أمر خاطئ، كما لا يمكننا النظر إلى أي شريحة بهذا المنطق الجمعي! كما أن الأمر أبعد من ذلك غوراً.
ففي معرض التذكر نلاحظ أنه ومنذ ازدهار حركات التحرر العالمية ومدّ الانتماءات الإيديولوجيات، خصوصاً اليسارية منها والقومية، والمثقفون والسياسيون أقرب ما يكونون إلى جبهة واحدة. فقد كان من الصعب أن ترى في الخمسينيات والستينيات مثقفاً سورياً غير مسيّس أو سياسياً غير مهتمّ بالثقافة! بالتالي كوّنت الثقافة والسياسة شيئاً بدا أقرب إلى جبهة تتناوشها علاقة خفية/ واضحة جعلت من السياسة، عموماً، محقونة بالفكر، كما جعلت من المثقف ملتصقاً بهموم مواطنه وسياسات عصره.
بعد مجيء حزب البعث إلى السلطة في سوريا كان ثمة إصرارٌ ممنهج على تشظية تلك الجبهة، فأتت أحداث الثمانينات وتصاعد خيار النظام الأمني الضاري، الذي تبدى في أحد أوجهه بالحرب على حماة وجسر الشغور، كما حملات الاعتقال الشاسعة التي طالت مروحة المعارضة بدءاً من الشيوعيين بتنوعاتهم الحزبية مروراً بالأحزاب القومية فالتيارات الدينية. ذلك العنف الشرس الذي تمّ تطبيقه على المعارضين، وتفريغ العمل السياسي والمدني من معناه وفاعليته، كل ذلك أدى إلى انقسام تلك الجبهة العتيدة: جبهة المثقفين والسياسيين. ولئن بدا أن جبهة المثقفين انكفأت على نفسها، إلا أنها في الحقيقة انقسمت إلى شقين: شق آثر الالتحاق بركب السلطة والتحوّل إلى جزء منها، وبالتالي انخرط في أحزابها ومؤسساتها الثقافية وغير الثقافية الفاعلة، ملكياً أكثر من الملك، متنعماً بخيرات السلطة مسخّراً قلمه لخدمتها وللطعن بالمثقفين الذين لم يرضوا التدجين، وأولئك هم الشقّ الآخر الذي احتفظ بمعارضته وموقفه ضد الديكتاتورية ولكن بصمت أو بمواربة، فالكلمة كانت ستودي بقائلها إلى مصير يشبه مصير رفاقه من المعارضة في المنفى أو في السجن أو تحت التراب. وربما كان أول تحرك لهذا الشق من المثقفين في بدايات التسعينيات حينما أصدر بعضهم بيان “التسع والتسعين” ضد مشاركة النظام السوري في حرب أميركا على العراق. وربما هذا ما يبرر شراسة السلطات وصدمتها آنذاك بصدور البيان بعد طول صمت!
هذه البنى ظلت تتراكم في دواخل المثقفين المعارضين على مدى عقود، جزء كبير منهم تصالح معها وظل معارضاً بسكون، وجزء منهم دفع حياته ثمناً لعدم قدرته على التصالح مع الصمت، وجزء راحت آليات النجاة داخله تقنعه بأن ثمة إيجابيات في النظام القائم تجبره على التعايش معه، ولكن ليس الانخراط فيه. من هذه الإيجابيات (المفترضة) الجانب الإيديولوجي/ السياسي الذي جعل الكثير من المثقفين يدافعون عن نظام يعتقدونه نظاماً ممانعاً وعلمانياً حداثوياً، كذرائع تكاد تلتقي مع خطاب السلطة. ويمكننا أن نتذكر أن الكثير من المثقفين السوريين الذين كانوا في خانة المعارضة دافعوا بشراسة عن مقدم بشار الأسد إلى الحكم عام 2000، على الرغم من أن بعضهم لم يكن وقوفه إلى جانب السلطة للقناعات الإيديولوجية السابقة التي قلتها بل لأنها ببساطة وهبته مكاسب عديدة مادية أم معنوية في تعامل جديد مع المثقفين يدخل في خانة: “ألاعيب الديكتاتوريات الحديثة”!!.
لكن الأعيب تلك جعلت من المثقفين، كما السياسيين، شريحة شبه منفصلة في تأثيرها وفاعليتها عن بقية شرائح المجتمع طيلة العقود الماضية، لذلك لا يمكننا، في معرض التفكيك هذا، النظر إلى المثقفين البعيدين عن الشارع باعتبارهم في معظمهم انتهازيين، فبعد أفول موجة الأيديولوجيات التقدمية التي تكلّمت عن التصاق المثقف بشعبه والتماهي مع طبقته والنزول إلى رجل الشارع، راح المثقف يبحث عن تفرّده وفردانيته والتي هي (بنسختها الأسوأ) بعدٌ تام عن الجموع والعيش في قفص التنظير، كما ترافق هذا مع موجة عالمية بعد حداثوية تنظّر للانسلاخ ذاته، فارتبط وجود المثقف بثقافته وإبداعه فحسب وإلى حد بعيد.
من كل ما سبق أعتقد أن المثقف السوري صُدم كما غيره بالثورة، فهي ثورة مفاجئة مباغتة، خصوصاً بعد تلك العقود التي أظهرت الشعب خانعاً مستسلماً. وهنا تجلّت نتائج التاريخ، فالثورة التي لم يكن للنخب الثقافية أو السياسية تأثيراً مباشراً في اشتعالها، رغم أننا لا يمكن أن نتجاهل التأثير التراكمي الخفي، شعرت بأنها ثورة منفصلة عنها. ولئن حاولت تلك النخب الالتحاق بالثورة فقد اعتقدت بأن الانصياع الكامل لرغبة الشارع واجبهم، وتخلّوا عن دورهم النقدي والتوعوي في أكثر الأوقات حاجة إليه! وإذا استثنينا بعض المناطق، وفي بعض الأوقات، التي كان لمثقفيها دور فاعل في ثورتها، وهو دور اجتماعي بالدرجة الأولى، فإن فاعلية المثقفين، في عموم مناطق الثورة، كانت شبه معدومة، وهذا ما جعل الثورة تنحرف أحياناً عن مسارها أو تجنح نحو الانتقام والتطرف في بعض المناطق المشتعلة.
لقد انخرط البعض القليل من مثقفي سوريا في الثورة تماماً وكتب عنها (مشيحاً بنظره حتى عن أخطائها)، البعض الآخر معها في العمق لكنه متخوّف من حرب أهلية أو مشاكل طائفية (خصوصاً من ينتمي إلى أقليات طائفية أو إثنية)، البعض منهم من العلمانيين مع إرادة الشعوب حقاً ولكن المدّ الإسلامي (المزعوم) يجعلهم متخوفين في ظل تعتيم على الكثير من الحقائق بين مدينة ومدينة وشريحة وشريحة. ولئن خرج من يقول: “لم لا نرى أولئك المثقفين في الشارع؟” فأنا أعتقد أن انفراجة أمنية بسيطة ستجعل الكثير منهم يظهرون في الشوارع، كما سيبقى البعض منهم أيضاً مصراً على موقفه، وستنقلب مواقف البعض الآخر بانتهازية. فالمظاهرات اليوم أشبه بمشاريع للشهادة لا يقدر الجميع على شجاعتها. ويمكننا أن نذكر الكثير ممن اعتقل، في مظاهرات المثقفين أو نشاطات أخرى، خصوصاً الشباب الذين يحاولون التخلص من عبء الارتهان للإبداع فحسب، الأمر الذي اعتاد عليه بعض شيوخ المثقفين.
نهاية، أعتقد أن مقارنة مثقفي سوريا بمثقفي مصر الثورة أمر مجحف، فقصر عمر الثورة المصرية وإيجاد مكان معتمد لنزول المتظاهرين هو ميدان التحرير ووقوف الجيش مع الشعب ووجود وسائل الإعلام المتنوعة كل ذلك يجعل المقارنة بالوضع السوري أمراً صعباً وظالماً للغاية.