أيّ سوريا ما بعد نظام حزب البعث؟
نجيب جورج عوض
لم يقل خطاب الرئيس الأسد الأخير للمراقب للأوضاع السورية الحالية سوى أنَّ النظام البعثي في سوريا يدرك في العمق، وبرغم حالة النكران التي يبديها للرأي العام، بأنَّ ما يحصل في سوريا هو حراك تغييري بنيوي وانعطافة مصيرية في تاريخ البلد وأنه لم يعد قادراً على النجاة من دون أن يخرج من جلده القديم. طرح الرئيس في خطابه أنَّ هناك اعترافاً بإمكانية تعديل الدستور ومادته الثامنة. كما أشار إلى قرب صدور قانون أحزاب جديد. سبق هذا رفع حالة الطوارئ بمرسوم رئاسي. تلك الأمور إن تحققت ستعني أن كل من منظومة حكم الحزب الواحد، ومنظومة الحكم الأمني والمخابراتي ومنظومة الهيمنة السلطوية واحتكار السلطة قد بدأت بالسير على طريق الزوال، وأن النظام الذي حكم سوريا لعقود أربعة ماضية لم يعد قادراً على الاستمرار بالاعتماد عليها. حتى ولو بقي رأس السلطة في موقعه، فإنَّ النظام الذي أعطاه يوماً السلطة وشرعَن له تبوءه لها بدأ يتداعى ولن يبق أبداً كما كان حتى ولو استمر لفترة ما في إدارة شؤون البلاد. هذا ما سيقود إليه السير على طريق تعديل الدستور وصدور قانون أحزاب وإنهاء حالة الطوارئ. بدأ عهد نظام الحزب الواحد بالانتهاء، وآجلاً أم عاجلاً سنجد أنفسنا وجهاً لوجه مع السؤال عن سوريا ما بعد البعث وعن أي نظام دولتي جديد سنشهد في سوريا بعد إجراء تلك الإصلاحات المذكورة.
أي نظامٍ وأي مجتمعٍ في سوريا ما بعد نظام الحزب الواحد؟ لا شك أنَّ هذا السؤال يشغل الأوساط السورية والعربية والعالمية مثلما شغل تلك الأوساط في حالة الثورات التي اندلعت في باقي أجزاء العالم العربي. ولا شك أنَّ الكثيرين بدأوا يطورون تصورات لبدائل مستوحاة من تجارب دولتية ومجتمعية في دول عربية وإسلامية مجاورة لسوريا إقليمياً. السؤال هو أي تلك البدائل وأي تلك التصورات يمكن أن ينطبق على طبيعة التركيبة السوسيولوجية والدينية والإثنية والطائفية والسياسية في سوريا؟
هناك من يعتقد أنَّ النموذج التركي هو البديل المناسب للبلاد العربية بما فيها سوريا، وتركيا نفسها تعمل جاهدة كما يبدو لمحاولة تطبيقه في جارتها اللدود بالذات. إلا أنَّ البديل التركي لا ينفع في سوريا. فتركيا دولة لا تعترف بالأقليات الإثنية والدينية فيها ولا تعطيهم حقوقاً متساوية ومتكافئة ولا تعترف بوجود أقليات غير مسلمة على أراضيها. حتى أنه يمكن القول إنَّ السجل التركي في التعاطي مع الأقليات أسود بامتياز. كما أنَّ المجتمع التركي في غالبيته العظمى ليس مجتمع اسطنبول ولا حتى جزءها الغربي بما يبديه هذا الأخير من تعددية وحداثوية وانفتاح على الثقافات الأخرى. القسم الأعظم من المجموع السبعين مليون التركي يحيا سوسيولوجيا وثقافياً في سياق ما قبل-حداثوي، منغلق على ذاته وتغلب عليه أنماط العيش والوجود الجمعي الريفي والديني الصارمين ولا مكان فيه للتعدد والتنوع والمواطنة بمعانيها المدنية. دعك من المجتمع. تمر تركيا الدولة أيضاً حالياً بفترة انتقالية سياسية وتشريعية بنيوية قوامها محاولة الحزب الحاكم الإسلامي أسلمة الدولة وقرأنة (من قرآن) التشريع وتعميم ثقافة التدين في المجتمع، ما يدفع للقول بأنَّ ما درجنا على تسميته بتركيا الأتاتوركية العلمانية قد تختفي من الوجود في العقدين القادمين. لهذا، قبل أن نقول إن هناك نموذجاً تركياً مناسباً للعالم العربي، علينا أن ننتظر لنرى ما سيؤول إليه هذا النموذج التركي وما سيطرأ عليه من تغييرات جذرية قادمة قد لا تجعلنا نعتبره بعد الآن “نموذجاً” أصلاً.
لا ينطبق على سوريا أيضاً النموذج المصري. فمصر أيضاً تعاني الأقلية الدينية غير المسلمة فيها، وكذلك التيارات الليبرالية واليسارية، من اضطهاد وضغوط وعنصرية مجتمعية تكاد تكون ممنهجة ومتراكمة عبر قرون طويلة من الأصولية الدينية المتجذرة في السياق السوسيولوجي والثقافي والديني التاريخي في أرض النيل، لدرجة يمكن معها القول بأنَّ الأنظمة السياسية التي حكمت مصر الحديثة لم تكن مسببة لهذا الاضطهاد في ذاته، وإن كانت استثمرت حقيقة وجوده في أجنداتها السلطوية. بعد نجاح ثورة شباب مصر العظيمة الأخيرة بإسقاط حكم مبارك، بدا وكأنَّ الشباب المعاصر قد ترك لسبب أو لآخر ساحة الحراك السياسي للتيارات الدينية والأحزاب الإسلاموية المنظمة في البلد فعاثت في ثمار الثورة ومبادئها تمزيقاً وتشويهاً وراحت تكشر عن أنيابها التكفيرية والعنفية وتحاول أن تؤسس لبديل أصولي سلفي يرتدي ثوب التعددية والديموقراطية. وإلى أن تدور الأيام ويتمكن شباب الثورة المصري وتيارات الحراك السياسي والثقافي الليبرالية والعلمانية والديموقراطية واليسارية من تنظيم نفسها والبدء بالعمل النوعي والمؤثر في الساحة المصرية العامة، فإن مصر لن تكون نموذجاً تعددياً وديموقراطياً ومدنياً يعوَّل عليه ويحتذى به كنموذج دولتي تعددي مدني منقتح وقائم على حقوق الإنسان. وستظل الأقليات الدينية أو الثقافية في البلد تدفع ثمن الواقع المصري دماً وتنكيلاً واضطهاداً حتى بعد سقوط النظام الماضي الذي اعتادت الأوساط المصرية أن تعلق على شماعته الاضطهاد المجتمعي والديني ضد الأقباط في مصر حين كانت تقبل أن تعترف بوجوده أصلاً.
لا ينطبق على سوريا أيضاً النموذج العراقي. فالعراق بلد فيه تعددية دينية وإثنية وطائفية. إلا أن تعدديته تأخذ في عراق اليوم صورة التشظي والتقسيم الديمغرافي الإثني والطائفي الهوية، حتى يكاد المرء وهو يتفرج على خريطة العراق أن يعاين ثلاث دول عوضاً عن دولة واحدة. لم تصبح العراق دولة بعد سقوط نظام البعث الصدامي السابق فيها. كما أنَّ مجتمعها يشهد نكوصاً حاداً نحو مظاهر سوسيولوجية ما قبل-حداثوية تستعيد منطق القبيلة ومرجعية المؤسسة الدينية الشموليين والإقصائيين وتستحضر علاقات عرقية وإثنية وطائفية انغلاقية خطيرة نجحت حتى الآن في تحويل العراق من جمهورية ودولة إلى دويلات وأحلاف ظرفية. العراق هو نموذج مثالي في العالم العربي المعاصر عن إمكانية انزلاق مجتمع ما من حالة تعددية منفتحة وتعايشية إلى حالة تعددية منغلقة وصدامية وتقسيمية. هو ليس المثال الذي نصبو إليه في العالم العربي، بل إنه البعبع الذي بتنا جميعاً نخاف منه.
لا ينطبق على سوريا أيضاً النموذج اللبناني مع كل ما قد يبدو فيه من ملامح مشجعة وجذابة للمجموع المسيحي السوري أو للمجموع الشيعي العربي. لا يمثل لبنان في وضعه الحالي وظروفه المعقدة نموذجاً دولتياً مدنياً يمكن التعويل عليه. لبنان هو نموذج “مجتمع الطوائف” لا “مجتمع الدولة”. لا تحكمه تعاقدات مدنية بين مجموع المواطنين، بل تحدد طبيعته ككيان صفقات ومحاصصات قياداته الطائفية وتحالفاتهم. ومع أنَّ المجتمع اللبناني يتمتع بمقومات الحداثة والتقدم والتنوع التثاقفي بحكم انفتاح البلد التاريخي القديم والمعاصر على الثقافات العالمية وتمتعه بحرية فكرية وإعلامية لا تشبه ولا تضاهي إلا نفسها في العالم العربي، إلا أنَّ هذا لا يعني أن لبنان وصل في مسيرته الدولتية إلى مرحلة تحقيق المجتمع المدني الحقيقي. فحقوق الإنسان فيه استبدلت على مستوى الممارسة بحقوق المجموع الطائفي وحصصه. والديموقراطية استبدلت بالهيمنة السياسية الأحادية، والمجتمع المدني استعيض عنه بضروات ومقتضيات التعايش السلمي والسلم الأهلي. أما ذهنية المواطنة فبديلها هو ذهنية الولاء. تعددية وانفتاح ومدنية لبنان تلعب اليوم دوراً سلبياً ضده لأنها تستخدم في تعزيز طائفيته ذهنية المتصرفية لا ذهنية “الدولة” فيه.
كما لا ينطبق على سوريا النموذج الخليجي. المجتمع الخليجي يخلو من أقليات دينية أو إثنية وإن كان فيه أقليات طائفية. أما أولئك المنتمون لأديان غير إسلامية في البلدان الخليجية فلا يتمتعون بحرية العبادة ولا بحقوق مساوية لحقوق باقي المواطنين المسلمين. لم يتطور بعد في العالم الخليجي مفهوم المواطنة المدني إذ تحكم البلدان الخليجية منظومات معرفية وعلاقات انثروبولوجية تنسجم مع بنيتها الجمعية والتوحيدية الصرفة ويميز نسيجها السوسيولوجي ثقافة “طاعة أولي الأمر” وقدسية ولاء الدم وصلات القربى والرحم، والتي تعبر عن النسيج القبلي والعشائري الضارب القدم في تاريخ شعوب الخليج. لهذا، لا نجد في دول الخليج مفهوم “الجمهور” أو “المواطنين” بل مفاهيم “الرعايا” و”الأبناء” و”الأتباع”. ولهذا لا يحكم ذهنية العمل السياسي فيها منطق التعدد والمساواة وتداول السلطات وتكافؤ فرص الحكم، بل ذهنية التوريث والاستمرارية والحصرية والأحادية والتحاصص. في مجتمعات لا تعددية دينية أو إثنية واضحة وحقيقية الوجود فيها، قد ينجح تطبيق نموذج الإمارة والمملكة والدويلة. لكنه حتماً لا ينجح في مجتمعات تعددية ومفتوحة ومتنوعة الثقافات.
لا ينطبق في الواقع على سوريا أي من نماذج الدولة والمجتمع الموجودة في دول جارة لها. لهذا، من الخطأ تركَنَة، أو مصرَنَة، أو عرقَنة، أو لبنَنة أو خلجَنة سوريا. ما ينطبق على سوريا هو ما يميزها عن سواها ويجعلها سوريا. ما ينبغي أن يحصل لسوريا ما بعد-نظام الحزب الواحد هو “سورَنة” سوريا، أي إعادتها إلى طبيعتها الحقيقية التي فقدتها حين تحولت إلى مزرعة وإقطاعية للعائلة الحاكمة: فضاء دولتي مجتمعي فسيفسائي ومفتوح وتعددي بامتياز. سوريا لا يمكن أن تكون إلا فسيفساء في الطبيعة وفي الممارسة وفي الهوية. والذي حصل خلال الأربعين سنة الماضية أن “سوريانية” سوريا طُمسَت تحت محاولات البعث والحكم الأسدي إما لتركنتها أو لخلجنتها. ما نراه اليوم من خوف وشروخ خطيرة تأخذ طابع التطأيف في صراع النظام مع حراك التغيير ما هو إلا إحدى نتائج محاولات التركنة والخلجنة المذكورتين.
سوريا فيها أقلية دينية مسيحية فاعلة وعريقة، ذات وجود تاريخي قديم وأصيل يعود في وجوده إلى ألفي عام. لهذا لا يمكن التعامل معه على أنه وجود طارئ أو ظرفي أو عرضي، ولم ينجح أي حكم إسلامي تعاقب على هذه الأرض في فعل ذلك. فدور المسيحية كفكر وكثقافة وكإرث دور بنيوي وتأسيسي في تكوين بنية الإسلام في سوريا يتجاوز في حضوره وفاعليته وحقائقيته دور أتباع الدين المسيحي من السوريين في المجتمع السوري المعاصر. وحتى لو أنكر المجموع الإسلامي في سوريا وجود الأقلية المسيحية (وهو الأمر الذي يرفض فعله كل أطياف الإسلام في البلد) فإنهم لا يستطيعون أن ينكروا التاريخ والإرث ولن يجدوا من يدعمهم ويقف معهم ويساندهم في العالم إن هم فعلوا ذلك. وإذا كان المواطن المسيحي السوري تعوَّد أن لا يعاني من أي اضطهاد (بعكس شقيقه القبطي) ديني أو مجتمعي بسبب دينه في سوريا البعثية، فهو لا يمكن أن يقبل بأن يصبح ضحية مثل هكذا اضطهاد في عصر السعي الشعبي في سوريا لدولة عادلة لكل أبنائها: لدولة تعبّر عن سوريا حقاً.
من جهة أخرى، في سوريا أقليات أخرى إسلامية فاعلة ومؤثرة وتاريخية ولا يمكن للغالبية السنية أن تنكرها أو تتنصل من حقوقها ودورها ولا أن تجبرها على العيش في قطاعات جغرافية محددة في سوريا كما يحصل في العراق: كأن تجبر العلويين مثلاً على العيش في الساحل وأن تحشر الأكراد في شمال شرق سوريا، أو أن تجبر الدروز على العيش حصراً في جبل العرب ومنطقة حوران. المجتمع السوري لطالما عاش في تداخل واختلاط ديمغرافي قديم ومتشابك ولطالما ربطت بين أكراده وسنته وعلوييه وسواهم روابط القربى والدم والنسل والمصير الواحد. وما كل هذا النكوص للهوية الطائفية وتنامي الخوف من الآخر الذي استعرت ناره في الأسابيع الأخيرة إلا أحد منتجات النظام الأحادي والشمولي الذي بنى وجوده على ثقافة الخوف من الآخر وجعل تهديد التوتر الطائفي صمام أمان هيمنته وسيطرته على البلد.
في سوريا أيضاً تعدد ثقافي ولغوي وإثني قديم ومتجذر ولا يمكن لأحد نكرانه. فسوريا فيها أرمن وأكراد وتركمان وسريان إلى جانب العرب. ولكل من هؤلاء لا أصله الإثني المميز وتاريخه الثقافي الخاص فقط، بل وله لغته القومية الخاصة به من أرمنية وكردية وسريانية وتركمانية. حتى في ذروة هيمنة عقيدة العروبة وهيمنة لسان الضاد، وبرغم أن أبناء تلك الإثنيات يتكلمون العربية ويعتزون بذلك حتى اليوم، لم تستطع العروبة ولا السياسية التعريبية القسرية أن تمحي أو تزيل هذا التنوع الثقافي الغني في سوريا ولم تتمكن من محو وجوده من المجتمع. أضف إلى هذا، أنَّ سوريا وبحكم موقعها المتوسطي والجغرافي المميز لطالما كانت فضاء مفتوحاً على الثقافات الغربية والشرقية على حد سواء، ولطالما تركت تلك الثقافات آثارها على معارف وعلوم وآليات تفكير الناس.
في سوريا أيضاً تاريخ لا بأس به من المدنية والصراع من أجل تأسيس دولة المواطنة، والذي لم تعكره أي حرب أهلية بين طوائف (كما حصل في لبنان) أو صراعات مجتمعية بين أديان (كما حصل في مصر) أو نزاعات عشائرية أو قبلية أو إثنية (كما حصل في الخليج والعراق). أضف إلى هذا أنَّ عقيدة البعث وباقي الأحزاب القوموية والعروبية واليسارية في البلد ساهمت، كل بحسب قدراته وأساليبه وموقعه في السلطة أو خارجها، وعبر مراحل مختلفة من تاريخ سوريا الحديث، في انتشار فكرة العلمانية ومبدأ “الدين لله والوطن للجميع” بين فئات الشعب المختلفة. حتى وإن كان مفهوم العلمانية ما زال ملتبساً وغامضاً في الثقافة السورية العامة، وحتى لو كان الشعب بحاجة ماسة إلى تعلم ثقافة العلمنة ومعناه الحقيقي بدل أن يخاف منها بشكل وهمي على ميوله الدينية، إلا أنَّ تجنب العيش مع الآخر انطلاقاً من هويته الدينية والإثنية أو الحكم عليه انطلاقاً من طائفته أو لغته أو قوميته والتعايش بين الأطياف المتعددة على قاعدة أنَّّ الوطن للجميع وأنَّ الكل سوريون، كلها أمور كانت وما زالت تمثل الميل العام ونمط التفكير السوسيولوجي والمواطني السائد في سوريا. وهو نمط سائد حتى في الأوساط الإسلامية المحافظة في سوريا، إذ إن أتباع تلك الأوساط نشأوا وتربوا وعاشوا في فضاء تعددي مفتوح لا يختزل الآخر بدينه أو طائفته، بل هم جزء لا يتجزأ من إرث سوريا ونسيجها.
كل تلك العوامل السابقة الذكر تجعل من سوريا في المبدأ وفي الإمكانيات فسيفساء حقيقية قد تكون فريدة في طبيعتها في المنطقة. وهي تجعل من سوريا ربما البلد الأكثر استعداداً وقابلية (لو أرادت ذلك) للتحول إلى جمهورية مدنية ديموقراطية تعددية ومنفتحة ومتعددة الثقافات، لا بل وحتى دولة علمانية سياسياً. ما تحتاجه سوريا ما بعد-البعث هو أن تعود إلى سوريتها الفسيفسائية وأن تؤسس مجتمعها المدني ومنظومتها الدولتية العلمانية. لا مستقبل لسوريا إلا في علمانية وديموقراطية نظامها السياسي ومدنية ومواطنية وتعددية وحرية نسيجها السوسيولوجي واعتماد نظامها التشريعي على شرعة حقوق الإنسان. تحتاج الدول عادةً عقوداً طويلة وأجيال عديدة كي تخلق في مجتمعاتها فضاءات فكرية وثقافية وانثربولوجية جاهزة للعيش بشكل صحي ومتوازن في ظل أنظمة ديموقراطية علمانية ومجتمعات مدنية ومواطنية وتعددية حرة. أؤمن أنَّنا في سوريا لا نحتاج لوقت طويل ولا لعقود عديدة جداً كي يصبح المجتمع السوري جاهزاً للعلمانية السياسية والمدنية والتعددية والمواطنة الاجتماعية. كل ما علينا هو أن نبني على ما هو موجود أصلاً في البنية التحتية لسوسيولوجيا وانثربولوجيا الفضاء الجمعي للبلد وأن نثمن ما يجعل سوريا أصلاً تتميز عن سواها من البلدان العربية وتتمايز عنها جميعاً.
فسيفساؤنا التاريخية الثقافية والدينية والإثنية والسوسيولوجية والطائفية هي كنزنا الثمين جداً الذي طمرته عقود من الأحادية والهيمنة، وهي ورقتنا الرابحة في لعبة تأسيس الدولة السورية الحديثة إن كنا فعلاً نريد أن نعطي يوماً ما لجيراننا دروساً في الديموقراطية والمدنية. أن نتخلى عن هذا السلاح الفاعل والمتفرد ونضيّع الوقت باستيراد نماذج جاهزة من دول الجوار لهو الجهل والغباء بعينه. سوريا تحتاج فقط لأن “نسورنها”، لا لأي شيءٍ آخر. هل يفعلها من سيتولى بناء سوريا الجديدة، كائناً من كان، في الشهور القادمة؟
المستقبل