إدوارد سعيد: الثقافة وطن ومقاومة
عبدالله البياري
عرَّف قاموس وبستر المقاومة بأنها فعل المقاومة أو المعارضة أو القدرة على أي منهما، ولأن الفعل –أي فعل- إنساني لا يتأتى واقعاً دون مسير قيمية متخيلة له تحدد فضاءه المؤدى و نتائجه المرغوبة، ويمثل تمظهراً أداتياً للقيمة المحددة، وكذلك لأن التعريف القيمي للوجود الإنساني (فرداً أو/و جمعاً) ينتجه الإدراك الثقافي للذات، تغدو المقاومة فعلا ثقافياً بإمتياز.
وكما ذهب البعض من المنظرين –على غير قلة- إلى وصف السياسة “بأنها في جوهرها خطاب ثقافي، أي أنها مجموعة متكاملة من الرموز والمعاني التي نشترك في معرفتها جميعاً، يعاد تشكيلها وإعادة ترتيبها على الدوام فيما يعرف بالخطاب السياسي”، أي أن السياسة و المقاومة هما في النهاية بنيتين ثقافيتين متوازيتين لا تنفصلان -كما يدعي الخطاب النيوليبرالي المعولم-، ولا يمكن الإبقاء على أحداهما دون الأخرى، أو فرض أبجديات محددة من إحداهما.
وهذا بالضبط ما يمكن من خلاله جعل المقاومة الثقافة قادرة على أن تكون خطاباً مضاداً، يقوم على تحويل المواجهة بين الواقع كما إصطنعه المستعمِر وقيام المستعمَر بدحض هذا الواقع و هدمه، وبالتالي فالمقاومة هي أحد أهم وسائل التغيير الثقافي و السياسي وإدراك الذات و الآخر و المحيط.
وهو بالضبط ما يجعل المقاوم مثقفاً ويفرض على الثقافة أن تصبح مقاومة في مواضع مقابلة السلطة والقهر والظلم والإستعمار، عن طريق تفكيك البنية الخطابية التي تنتجها تلك الثقافة للتمكن من تخيل الآخر، ومن ثم في مراحل سيطرتها عليه، تفرض عليه أدوات تخيله وإدراكه لذاته وبالتالي ينتهي الأمر به مجرد مرآة للمستعمر، لا يملك تحديد ذاته و تعريفها من دونه.
لا تنفصل المقاومة في إرث سعيد عن المثقف، بل تكاد تكون وجهه الأقدر على تحديد دوره إتجاه ذاته وعالمه ، ولنا في سعيد نفسه أعظم مثال، فهو الذي عاش بين فضائين متباينين في آن: (مثقف أكاديمي) و(منفي فلسطيني عن وطنه)، وكان لهذا البون بين الفضائين وإجتماعهما الحدي في تجربة سعيد العامل الأساس الذي شكل نص هويته ونص كتاباته. تلك النصوص التي لا يمكن تطبيق منطق زميله هومي بابا فيما أسماه “الثقافة الهجينة” ، أو “الفضاء الثالث” ، وهو ما لا ينطبق على مثقفنا إذ أنه لم ينفصل عن الفضائين البينيين معاً إنما دمجهما بما لا يخل بأي منهما معاً أو على حدة. إذ أن حالة الحوار بين هاذين الفضائين النظيرين والمتفارقين هي ما أكسبت هويته قوتها الدافعة وتأثيرها الفكري المنتج، لقد صاغ المنفى مفاهيم سعيد فيما يتعلق بالثقافة والفكر والأدب فكانت “نزعة الاحتفاء بعالم الحس” و”نزعة العالم الدنيوي” و”روح الهواية” هي ما يراه لزاماً فكرياً يمكنه من تحرير فكرة المكان الأدبي من قيد المنفى بالمنطق النصي في الخطاب، والتخلص من ثبوتية وعليائية الصلابة الأكاديمية:
“المثقف يمثل رسالة فردية، طاقة لا تنضب، قدرة تلين لتشتبك بوصفها صوتاً ملتزماً واضح المعالم وجدير بالاعتراف به، مع عدد كبير من القضايا التي تتصل في نهاية الأمر بالتنوير و التحرر و الحرية”.
إن جل مايحتاجه المثقف ليمس القيمة الحرة في البنية الثقافية ويحررها –بحسب سعيد- نزعتان “نزعة الإحتفاء بعالم الحس” و”نزعة الإحتفاء بعالم الدنيا” ، وهي عناصر تجعل للنص كجزء من الخطاب مكانه في العالم المحسوس إذ يتمثله ويدركه الخطاب، يحس ويلمس ويوصف، ومنه ينطلق المثقف لتفكيك مناطق الحلول و التجاوز السلطوي فيه، ومن هنا كانت أهمية المقاومة الثقافية في التعامل مع الثقافة الرسمية كجزء من عوامل تشكيل الخطاب السياسي الرسمي، أي أن المثقف/المقاوم يجب أن يتحرك بين نبراسين:
1.الهواية، إذ تتيح له فضاءاً حراً لا هرمياً ، يبتعد به عن الصلابة.
2.الصدق في الإلتزام بالقضايا المتعلقة بتحرير القيم المطلقة، وبالتالي:
“الحقيقة الأساسية لدي، فيما أعتقد، هي أن المثقف فرد وهب ملكة تمثيل أو تجسيد رسالة أو رؤية أو فلسفة أو رأي أو موقف (من شيء ما)، مع الإفصاح عن ذلك لجمهور ما. وهذا دور له تأثيره القوي، ولا يمكن أن يؤديه المرء مالم يتوفر لديه إحساس بأنه شخص من شأنه أن يقوم علناً بإثارة أسئلة محرجة، و التصدي لجمود الفكر التقليدي والفكر اليقيني الجازم القائم على التسليم من غير تمحيص…، ومالم يكن من الصعب على الحكومات تحييدهم بضمهم إليها… ، ومالم يكن مبرر وجوده هو تمثيل ما دأبت الثقافة السائدة على نسيانه أو حجبه عن الأنظار، سواء كان أشخاصاً أو قضايا. بقوم المثقف بهذا كله مستندا إلى أساس من الكليات و المباديء العالمية التي تصدق على البشر أجمع [ولا يمكن استحواذها باسم الحقيقة المطلقة: الكاتب“]
وبالتالي فعلى المثقف أن يقوم ببناء وعي نقدي يرفض ويفكك ويعري ويحلل الخطاب السلطوي وتمثيلاته، ليس هذا فحسب بل يتغلب على صعوبة التداول، بجعل الفكرة ممكنة ومتاحة ومدركة “الشروط الواجب إستيفائها لتكون المعرفة ممكنة” عن طريق الطعن في “سيادة المنهج التقليدي الثابت”، ومن ثم كانت عبقرية قراءة سعيد للخطاب الإستعماري من منطلقه الثقافي والمعرفي، فيما عرف بالقراءة الطباقية، وهي قراءة مستوحاة من مفهوم يعود إلى موسيقى كنسية غربية ظهرت في القرون الوسطى عرفت باسم لاتيني يعني “النغمة مقابل النغمة” أو “النغمة ضد النغمة”، وصارت تعرف اليوم باسم الطباق الموسيقي أو “تصاحب الألحان المتقابلة”، إذ تأثر سعيد بعازف البيانو جلين جولد.
بعبارات أخرى، الوعي بتراكبية النص تقودنا لقراءته قراءة طباقية، تفكك دواخل النص وما يتوارى خلفه، فندرك الألحان أو الأصوات والمعاني التي تصاحب اللحن/المعنى/الصوت الإستعماري السلطوي، ويمكن بها كشف متضادات العلاقة وتذرر و طمس أو حتى إستحواذ القيمة حينها.
والقراءة الطباقية تنتج من جمع بين الفكرة الدالة المتكررة (الموتيف) والصفة الفارقة (الإختلاف)، وهما الأساس لأقامة علاقة طباقية بين السرد الاستعماري ومنظور ما بعد الاستعمار. وبهذا ينشأ سرد يحتوي على نقطة دفينة في مقابل كل نقطة معلقة (سائد/متنحي أو عليا/دنيا)، ونتمكن من النزول من سطح النص إلى أعماقه بحثا عن وجود الآخر الواقع تحت سلطة خطاب و تخيل الأاقوى، وبالتالي تفشي النزعة الإستبعادية النافية في الثقافة المعتمدة، بل وأكثر من ذلك يكشف و يستشرف مواضع مرآوية المستعمَر والمستعمر في أدب المابعد كولونيالي، والخلط التحرري القائم على استعارة منطق الأقوى لتعريف الذات.
لذا فمن الضرورة أن يكتسب الوعي النقدي فاعلية ذاتية بانفصاله عن الثقافة السائدة وحلوله في موضع مناوئ مستقل يمكنه من الشروع في “اكتشاف وتعليل مغزى العبارات التي تتألف منها النصوص” تلك النصوص التي عادة ما تكون حجر الأساس في تخيل و إدراك الآخر.
فمن معالم المثقف المقاوم لدى سعيد قدرته على الإطاحة بثبوتية وصلابه وتعالي الثقافة عن العالم الآني المحسوس، فالمفهوم السعيدي المحتفي بعالم الدنيا يطعن على السلطة المقيدة المعنية بالجزئي الصلب في الخطاب الأكاديمي ببنية الهيراركية المتعالية، ممهدا الطريق إلى فكرة الاحتفاء بعالم الحس (وفي أدبيات أخرى : القراءة العلمانية) حيث لا يكون النص الأدبي مجرد حلقة جديدة تحل في موقع محدد ومتعالي عن الواقع، إنما هو مرتبط بعالم المادة والأشياء بما يتضمنه من روابط ثقافية و سياسية و إجتماعية وسلطوية بين محتويات مصوصه. وبذلك يكشف سعيد عن علاقات النسب التي يكون فيها النص طرفاً، ويعري كذلك علاقات الإنتساب أو الممالأة التي يدخل النص نفسه فيها.
وبهذا يتمكن المثقف من الرد النصوصي على نص السلطة الاستعمارية المعتمد حيث أن “الخنوع الذليل للسلطة في عالم اليوم هو واحد من أفدح الأخطار التي تحيق بالحياة الفكرية التي يراد لها أن تكون مفعمة بالنشاط ومراعية للمثل الأخلاقية العليا” وذلك عن طريق الوعي المجتمعي وعقل نقدي مقابل السلطة ومؤسساتها المعرفية و الخطابية وبالتالي السياسية.
فالمثقف/المقاوم ينبغي أن يمثل “… التحرر و التنوير، ولكن ليس بوصفهما مفهومين تجريديين أو إلهين يتعين على البشر عبادتهما على الرغم من إنقطاع صلتهما بالحياة و البون الشاسع الذي يفصلهما عن البشر. أما تمثيلات المثقف – الأفكار التي يوم بتمثيلها وكيفية تقديمه هذه التمثيلات لجمهور ما- فإنها ترتبط بتجارب أو خبرات تقع على نحو مستمر في داخل مجتمع ما، ويجب أن تظل جزءاً لا يتجزأ من هذه الخبرات: خبرات الفقراء، المحرومين من حقوقهم، من لا صوت لهم، المحرومين من التمثيل ، من لا حول لهم ولا قوة”.
النص في نظر إدوارد سعيد منتج ثقافي له تفاصيله المكانية الملموسة و المحسوسة ، فهو ليس بناءاً خاملاً بل له تاريخه الإجتماعي و السياسي والثقافي أي أن له وجوده المادي “المتشابك مع ظروف وزمان ومكان ومجتمع” وهو ما ينتج عنه “قدر من الاتصال المباشر بين المؤلفين ووسيلة التواصل اللغوي حين يكون من موجودات العالم”، وعلى عكس ما ذهب إليه البنيوين و الواقعيون، يرى سعيد أن النص هو جزء من العالم الذي تشكل منه أو أستنبط منه. وعندما يتورط النص في علاقة ممالأة مع التاريخ والثقافة والمجتمع فإنه يتخلص حتماً من قيد ما يسمى بالأدب الأوروبي المعتمد ويرجع إلى نسيج ثقافته، وبالتالي فإن “إعادة إنشاء شبكات الممالأة تؤدي لإبراز الخيوط التي تربط النص بالمجتمع والمؤلف والثقافة أي تحويل النص إلى شيء محسوس”، وتعزيز مادية النص هو مفتاح باب قراءة الأدب الإنجليزي مثلاً بشكل طباقي للتيقن من مدى مشاركة تلك النصوص في تنفيذ مشروع سياسي متسع وكاسح، عن طريق إعمال الخيال الخطابي المدرك للآخر وعلاقة الذات منه ، وبالتالي قراءة هوياتية: هوية المجتمعات الخاضعة للإستعمار ، وهوية ثقافة الإمبراطورية الاستعمارية، وهو ما يمكن تطبيقه على الحالة الفلسطينية، وتمثلات الفلسطيني بعد أوسلو مثلاً.
فالقراءة الطباقية مثلا تسلط الضوء على المساحات الفارغة في المكان الآخروي في الخطاب الإمبريالي فانتيجا لجين أوستن تصف إستغلال المساحات الواسعة من سطح الكرة الأرضية بإضفاء حضور على تلك الغيابات أو “الفضاءات النائية، التي قد يكون بعضها غير معروف”، وعلى هذا فتلك ليست مجرد إشارة إلى “روح المغامرة التجارية التي تدفع المرء لحيازة أراض وبسط سيطرته عليها فيما وراء البحار من أجل تحويلها إلى مصدر للثروة في الإقليم الذي جاء منه. كما أنها ليست واحدة من الإشارات الكثيرة التي تشهد على وجود حس تاريخي ينضج بسلوكيات قويمة وأخلاق كريمة بل يضم كذلك صراعات بين أفكار، ومنازعات مع فرنسا في عهد نابليون ومعرفة بتغيرات إقتصادية واجتماعية مزلزلة كانت تقع في حقبة ثورية من حقب تاريخ العالم”.
ومن النماذج الأخرى للقراءة الطباقية التي ذكرها سعيد في كتابه “الثقافة و الإمبريالية” ، أوبرا “عايدة” لفيردي والتي يكاد يكون فيها الإرتباط تاماً بين الأعراف الثقافية والأعراف السياسية ، فأوبرا “عايدة” تثير أسئلة مركبة عن “علاقتها باللحظة التاريخية والثقافية الغربية التي كتبت فيها” ، وأسئلة كذلك عن تفردها و”موضوعها وإطارها الزماني والمكاني وفخامتها ومؤثراتها البصرية والصوتية التي تلهب العواطف على نحو غريب، وموسيقاها المتطورة إلى حد الإفراط والوضع الأسري المقيد الذي تصوره، وإختلافها عن بقية نماذج فيردي”، فسعيد يطالب بقراءة أوبرا “عايدة” قراءة طباقية لأنها تجسد “سلطان النسخة الأوروبية من تاريخ مصر في لحظة من لحظات تاريخها في القرن العشرين، وهو تاريخ يجعل من القاهرة في السنوات 1869 إلى 1871 موقعاً ملائماً إلى حد غير إعتيادي” إذ أن القراءة الطباقية لتلك الأوبرا تمكننا من الكشف عن “بنية الإحالة و الاتجاهات العقلية في النص وشبكة علاقات المملأة والروابط والقرارات وعلاقات التعاون والتواطؤ، وكلها يمكن قراءتها بوصفها السبب في مجموعة من الملامح المفزعة التي جاء نص الأوبرا البصري والموسيقي متسماً بها” فقصة أوبرا “عايدة” التي تدور حول بطل مصري يقهر الإثيوبيين ولكنه يتهم بالخيانة ويحكم عليه بالإعدام، تستحضر في الذهن التنافس بين القوى الامبريالية في الشرق الأوسط. لقد شجعت بريطانيا تحركات الخديوي إسماعيل في شرق أفريقيا، إذ رأتها الوسيلة المناسبة لعرقلة المشروعين الإيطالي والفرنسي في الصومال وإثيوبيا. ولذا فمن وجهة نظر فرنسية نجد أن أوبرا عايدة “تصور الأخطار التي يمكن أن تترتب على نجاح الخطة المصرية في إثيوبيا”، لذا فهي تعري وتوضح مدى ممالأتها للخطاب الإستعماري و تجردها عن العالم الذي خلقها.
ولنا في رواية ألبير كامو “الغريب” مثال آخر ، إذ يرى سعيد أنها “ترتبط من وجهة نظر تاريخية بعلاقة ممالأة أو تبعية للمشروع الإستعماري الفرنسي نفسه.. وكذلك معارضة استقلال الجزائر معارضة سافرة”. إذ ينبغي النظر إلى الرواية “بوصفها عنصراً من العناصر التي تندرج في جغرافية الجزائر كما شكلتها فرنسا بطريقة منهجية منظمة”.
إن المقاومة عملية ذات شقين:
1.إسترداد الأرض المغتصبة .
2.المقاومة الأيديولوجية، والذي يتكون من “إصرار على رؤية تاريخ المجتمع كاملاً متسقاً غير منقوص ثم البحث عن نهج بديل في رؤية التاريخ البشري… يقوم على إزالة الحواجز بين الثقافات وأخيراً الدخول إلى الخطاب الأوروبي والغربي من أجل الاختلاط به، والعمل على إحداث تحولات فيه ودفعه إلى الاعتراف بالتاريخ المهمش أو المقموع أو المنسي”.
أي أن المقاومة الثقافية هي عمل مزدوج ، ليس تحرراً ذاتياً فقط، إنما هو أيضاً إدراك للهوية الذاتية، ومحددات القيمة فيها، وهنا لا بد لنا أن نشير لتأثر إدوارد سعيد بفرانز فانون إذ يقول:
“إن الجهد الذي يبذله البشر من أجل اقتناص الذات والتدقيق في عناصرها ، وكذلك التوتر الدائم الذي تسببه لهم حريتهم، هما العاملان اللذان من خلالهما يتمكنون من خلق الظروف المثالية في عالم إنساني”.
ولعل تلك السطور تعري في ذاتنا العربية عموماً ، والفلسطينية خصوصاً الحاجة الملحة والضرورية والحيوية لنرى تمثلاتنا الثقافية الذاتية في خطابنا العربي و الفلسطيني، وإلى أي درجة وصلت من المرآوية الصهيونية باعتبارها علاقة (مستعمِر و مشتعمَر)، ينطبق عليها ما إنطبق على غيرها، وإلى أين ستذهب بنا تلك السياسيات الثقافية الغير مقاومة، إلى أي حد سردنا هو علاقة ممالأة فاضحة للإسرائيلي؟