إسقاط النظام: وسيلة أم غاية؟
ألفرد مولينا
بعد انفجار مشهد الدم في كل شوارع مدن وقرى سوريا تقريبا، بات واضحا أن الناس لم يعودوا يريدون التفكير بشيء سوى إسقاط هذا النظام بأي ثمن كان ومهما كانت العواقب، وهو أمر بات يشي بخطورة الوضع المتفاقم يوما بعد يوم وبحجم كرة الجليد المتدحرجة فوق رؤوس الشعب الذي قرر المضي حتى نهاية المشوار.
ولا يخفى بأن النظام قد جر الشعب إلى خانة لم يعد الرجوع عنها ممكنا أبدا، ففي مدن كحمص وحماة ودير الزور مثلا لم تبق تقريبا عائلة إلا وفيها شهيد أو جريح، وكأن النظام من حيث لا يعلم وحد قلوب وعقول سكان هذه المدن ووحد هدفهم الذي لم يعد قابلا للتفاوض ولا للحوار: إسقاط النظام وليكن ما يكون.
على أن واجبنا كنخب مثقفة إذا جاز التعبير أن ننظر لا إلى ظواهر الأحداث ولا إلى مقاطع الفيديو وآلاف الصور التي نراها يوميا تبث على كل شاشات العالم، وإنما أن ننظر إلى خلفيات هذه الصور وكذلك ما وراء هذه المشاهد المروعة التي أصبحت كالزلزال في حياتنا ينفض عنا غبار عقود من الخضوع والمهانة والموافقات بالإجماع.
لم يكن غريبا أبدا أن لا توجد لكل هذا الحراك الشعبي الجماهيري الجارف أية قيادة موحدة ولو حتى على مستوى المدينة الواحدة، فبعد ركود سياسي واجتماعي دام ما يقرب من خمسين عاما لا يمكن مطالبة الناس بأفكار وقيم من قبيل “الوعي الجماهيري” أو “التظاهرات المتحضرة” أو “الهادفة” وغيرها، لأن الاختناق الشعبي العام وصل إلى مرحلة إما الموت الأبدي أو التقاط ما تيسر من الأكسجين وتحدي الموت. ولهذا فأنا أعتقد أن الغالبية العظمى مما تورده القنوات الفضائية من اتصالات و مقابلات إذاعية مع أشخاص يقدمون أنفسهم كأعضاء للجان تنسيقية أو شعبية هي مجرد جهود شخصية بحتة ولا تمثل إلا رأي المتصل نفسه. هذا لأن الحراك الشعبي لا يزال وليد اللحظة ولا يزال رهين العفوية والحمية المترافقة غالبا مع تشييع لشهيد أو حماسة لخطبة دينية. وهو ما يفسر خروج الأغلبية الساحقة من المساجد بينما لم تسجل سوى حالات نادرة جدا لتجمعات أو مظاهرات تم الاتفاق على انطلاقها أو تجمعها أمام مؤسسات حكومية أو أمنية معينة. وإذا عدنا لبداية التحركات فقد كانت بعض البدايات في درعا كحركة شعبية مدنية خالصة رافضة للفساد والرشوة ودفاعا عن الأطفال الذين تم التنكيل بطفولتهم وبراءتهم على أيدي جلادين لا يفهمون من الإنسانية سوى مهانتها. وانطلقت في دمشق في البدايات بعض التجمعات المدنية أمام وزارة الداخلية وفي دمشق القديمة ومسيرة للمثقفين في الميدان، ولعل أحد تفسيرات خروج المظاهرات من المساجد هو إمكانية تجمع الناس دون ترخيص أو إذن أو غير ذلك وهو ما يسهل مهمة التظاهر.
تطرح هذه المسألة إشكالية تتلخص في سؤال مهم وهو: من هم المرشحون لقيادة هذا الحراك الشعبي الجارف بعدما ظهر تماما فشل المعارضة الداخلية ناهيك عن السمعة السيئة المعدة سلفا لغالبية معارضة الخارج؟ يخرج علينا يوميا عشرات الكتاب أو السياسيين المعارضين في الخارج وكل منهم يتم تقديمه على أنه ممثل لحركة كذا أو جبهة كذا بأسماء وألقاب لا تنتهي، وبينما يتم ذبح الناس في الشارع بشكل يومي يتبارى هؤلاء في حجز مقاعدهم في طائرة الرحلة الأخيرة المتجهة إلى ما بعد النظام. ولا يخفى أن الكثيرين منهم يعانون من التباس أو تناقض واضح في المواقف أو التصريحات تجاه الكثير من القضايا. فبينما يؤكد هؤلاء أنهم ضد التدخل الخارجي في سوريا نجدهم لا يفتؤون يطالبون بمواقف دولية أقوى وأعنف تجاه النظام، وقد بدا واضحا أكثر من مرة أنه ولدى سؤالهم عن ماهية التحرك الدولي المطلوب فإن الأجوبة تبدو غالبا غائمة وملتبسة وضبابية تزيد من غموض الموقف السوري وتعقيداته.
الشعار الأبرز في المرحلة الحالية هو “إسقاط النظام”، ولئن أصبح لهذا الشعار سحره منذ اندلاع شرارة الثورات العربية من تونس وبعدها مصر، فإن الحالة السورية لا تطرح أي بديل من أي نوع أو شكل، حيث تماهت المؤسسات المدنية والعسكرية على حد سواء في النظام نفسه حتى باتت كلا واحدا، وهو ما يعقد المهمة هنا بشكل يفوق ما حدث في كل من مصر وتونس حيث قررت المؤسسة العسكرية التخلي عن الرئيس وبالتالي تولي زمام الأمور “كمرحلة انتقالية” قد تطول أو تقصر ولكن يبقى هناك من يدير الحد الأدنى من شؤون الوطن، أما الحالة السورية فالأمر أكثر تعقيدا وتداخلا، ولا يفتأ المعارضون في الخارج يتحدثون عن جيش الوطن والجيش الأبي وهم يراهنون على بضع انشقاقات هنا وهناك لم ترق حتى الآن إلى الحديث عن انفصال بين فرق كبيرة قادرة على تحويل مجرى الأمور، ولا عجب فد استثمر النظام الكثير من مقدرات البلد في هذا الجيش من امتيازات لكبار الضباط ناهيك عن احتكار المناصب الرئيسية والحساسة من قبل موالين للنظام “بدمائهم وأرواحهم”، ولهذا سيكون الرهان على الجيش رهانا صعبا جدا وبعيد المنال إلا في حالات خاصة جدا ليس المجال لعرضها هنا.
ومن نافلة القول الحديث عن أي مؤسسات مجتمع مدني وبالأخص تلك التي نشأت في السنوات الخمس الماضية، فقد انكفأت هذه المؤسسات إلى قوقعتها بعد أن انكشفت أدوارها الفعلية في ضم شريحة كبيرة من الشبان والشابات المكتفين ماديا أو أبناء الضباط والمسؤولين الحكوميين الكبار سواء منهم السابقون أو الحاليون، وذلك ليتم إعطاء صورة تلميعية للنظام وأبنائه على أنهم يشاركون “باقي” الناس همومهم واهتماماتهم، ولئن كان بعض هذه التجارب ناجحا إلى حد ما، إلا أنها جميعا انطوت وتمزق بعضها عند انطلاق أول شرارة احتجاج في سوريا، فقد بدأ الفرز بين أعضائها وتمت بناء على ذلك عمليات انسحاب وتكتلات خالفت حتى الهدف الرئيس من إنشائها وبالأخص بعدها “المفترض” عن السياسة والتجاذبات المحلية العشوائية.
من هنا نعود إلى نقطة الأساس: هل إسقاط النظام هو غاية أم وسيلة؟ إذا كان الأمر غاية فنحن مقبلون على فوضى وتقسيم لأن الجماهير لم تعد ترى ما أبعد من أنوفها، وكل الحديث عن وعي الشعب بقي مرهونا بسلمية الاحتجاجات فقط وليس بهدفها البعيد أو توجهاتها، ناهيك عن أن محور الحركات الاحتجاجية كان ولا يزال العصبية بمعناها المديني أو القروي أو الطائفي في بعض الأحيان، وهو ما يفسر تماما خروج أكبر المظاهرات في المدن أو القرى ذات الأغلبية الطائفية الواحدة أو العشائرية، بينما يغلب طابع الصمت على المدن الكبيرة والتي تختلط فيها التوجهات وحيث يعلم الجميع أن قيام مظاهرات فيها قد يفضي إلى حروب شوارع أهلية لا تبقي ولا تذر. إن ذلك لا يرد عليه بأن عددا من المظاهرات خرج في بعض أحياء دمشق كالميدان مثلا، فمن المعروف أن الأغلبية الساحقة من سكان الميدان هم من أهلها الذين عاشوا فيها منذ عشرات السنين وهم مجموعة متجانسة يعضد بعضها بعضا بينما تضمحل هذه التحركات في أحياء أخرى كثيرة لكثرة اختلاطها وبالتالي اختلاف توجهات قاطنيها.
أما إذا كان الأمر وسيلة، فعلى الجميع البدء بالتفكير جديا لمرحلة الما بعد، فتلك المرحلة لن تكون وادعة كما هو الحال في مصر التي ورغم تسلم الجيش زمام الأمور فيها وكذلك مواصلة الناس لحياتهم شبه الطبيعية فإن الفوضى لا تزال تعم كثيرا من أرجاء مصر ناهيك عن انعدام الأمن في بعض المناطق. فعلينا تخيل الوضع في سوريا حيث لن يكون هناك سوى مجموعات مبعثرة من شبان هائجين وعسكريين موالين ومعارضين دون أية قيادات ذات توجهات سياسية واقتصادية واضحة، وأركز هنا على المسألة الاقتصادية التي نسيها كل المعارضين في نشوة مشهد آلاف المتظاهرين يوميا في شوارع وساحات وأزقة الوطن، ولعل هذه المسألة ستكون عامل الحسم سواء بالنسبة للنظام أو الناس على اعتبار أنها عصب أي حراك أو نظام وأحد أسباب بقائه.
يراهن معارضو الخارج -شاؤوا أم أبوا- على الدعم الغربي لحصصهم من التركة التي يرونها قريبة المنال، لأنني وببساطة لا أرى خيالا لأحدهم ينعكس على الأرض التي ترتوي بدماء السوريين يوميا، فهم بعيدون كل البعد عن الواقع السوري ناهيك عن أن كثيرا منهم قد قضى اليوم ما يزيد عن عشرين عاما في الخارج حيث عاشوا حياة مختلفة في دول ذات قيم وثقافات مختلفة كما أن الأغلبية الساحقة منهم لديها جنسيات البلدان التي يعيشون فيها مما يشكل بالنسبة إليهم عامل أمان إضافيا يحميهم عثرات السنين، بينما لا يجد المتظاهرون على الأرض من يحميهم بعد أن أطبقت آلة الدمار عليهم من كل الأطراف.
في ظل التشرذم المهول لكل قوى المعارضة في الداخل والخارج يبقى المشهد السوري غامضا تماما فيما يتعلق بالمستقبل، وأنا أرى أن هذا أحد أسباب ذلك التخبط والتردد والبرود أحيانا في المواقف العربية والدولية من الشأن السوري، فالمشهد العراقي لا يزال حيا يرزق، ورأت دول المنطقة أية كارثة جرتها على نفسها بدعم الاحتلال الأمريكي للعراق الذي أعطى لكل حصته من التركة بينما بقي العرب خارج السرب تماما. وإن الفوضى التي يمكن أن تحدث في حال أية خطوات غير محسوبة تجاه النظام في سوريا قادرة على أن تصل تداعياتها إلى كل دول المنطقة من لبنان إلى تركيا إلى العراق نفسه إلى الخليج الذي لا تزال نيرانه تضطرب تحت الرماد.
هذا ليس تخويفا وليس تخاذلا حتى لا يتم اتهامنا بالتحامل أو معاداة حركة الشعب، بل على العكس فإن لكل دوره في بناء الوطن، وواجبنا كمثقفين التفكير بالمستقبل مثلما يقوم شبان في عمر الورود بأداء واجبهم في الشوارع حالمين بمستقبل أفضل، فيه الكرامة وفيه الحرية، وفيه الرخاء وفيه الأمان.
*الكاتب هو ناشط في حقوق الانسان وصاحب مدونة مقيم في الشرق الاوسط
http://alfredomolena.wordpress.com/