إسلاموفوبيا الممانعين” ما عادت تجدي نفعاً في سوريا
وسام سعادة
بعد هجمات الحادي عشر من أيلول، راجت في الإدارة الأميركية نظرية “محور الشرّ” المعيّن أساساً بثلاثية العراق وإيران وكوريا الشمالية.
بموجب هذه النظرية اعتبر النظام السوري في منزلة بين منزلتين: يتشارك مع الأنظمة الثلاثة في البلدان الآنفة الذكر في صفات المروق وإيواء المنظمات الإرهابية ودعمها، وله باع في الغازات المحرّمة دولياً، لكنه لم يصنّف من ضمن “محور الشرّ”. يمكن القول إنّه “رديف” لهذا المحور، أو “لاعب احتياط” أو “قيد الدرس”. ويمكن التسلّي باختبارات “تغيير سلوكيّاته”.
بالطبع، كانت الأوساط التي وضعت أو روّجت لنظرية “محور الشرّ” متيقّنة من أنّ أيًّا من هذه الأنظمة لم يكن له ضلع في الهجمات على نيويوك وواشنطن، كما أن المحور لم يكن محوراً بمعنى عقد صلات تحالفية بين أركانه الافتراضيين، ولو كان هذا هو المعيار لأمكن الحديث عن محور تسليح يشمل أنظمة كوريا الشمالية وإيران وسوريا ويستثني العراق.
لكن ما برّر نظرية “محور الشرّ” عند أصحابها، هو أن ما أصاب الجبروت الأميركيّ جراء الهجمات الإرهابية ليس عرضياً، والأخطر أنّه يفتح الشهية لكي يتكرّر، والأخطر من ذلك أنّه يطلق العنان لتفلّت كذا “موّال” معادٍ للهيمنة الامبراطورية الأميركية عبر العالم، ويعيد تظهير حقيقة أنّ ما ربحته الولايات المتحدة معنوياً وذاتياً بحسمها الحرب الباردة لصالح المعسكر الغربي، هو أكبر بكثير مما ربحته مادياً وموضوعياً.
ولأجل ذلك، اعتبرت هذه النظرية أن أوّل خطر ينبغي استباق وقوعه هو حدوث “تلاقح” بين الأنظمة المارقة، وتحديداً “محور الشرّ”، وبين التشكيلات الإرهابية العابرة للحدود، وذلك تفادياً لانتقال تكنولوجيا تدميرية أو تخريبية مرعبة إلى هذه التشكيلات.
تطبيقياً قضت هذه النظرية بشن حربين: واحدة ضد أفغانستان التي ليست من “محور الشرّ”، لكن حركة طالبان تأوي فيها الجسم الأساسي لتنظيم القاعدة. وثانية ضدّ العراق، الذي اعتبر بمثابة الحلقة الأضعف في محور الشرّ، بعد هزيمته في “عاصفة الصحراء” والحصار الذي فرض عليه بعدها ومناطق الحظر الجوي والمراقبة الدولية لتسلّحه.
في مقابل نظرية “محور الشرّ” بالتحديد طرح “محور الممانعة” نفسه وساق نظريته. تشكّل هذا المحور من النظامين الايراني والسوري والحركات المسلّحة الدائرة في فلكهما في لبنان وفلسطين. اعتبر هذا المحور أنّه بإمكانه أن يسخّر هجمات أيلول لمصلحته إن هو أحسن إعادة تدوير “الإسلاموفوبيا” الغربية مذهبياً. فإذا كان الغرب حائراً بين حصر الاتهام بالمتطرفين “القاعديين” فقط وبين من يوسّع الدائرة ثقافياً وحضارياً، اعتبر محور الممانعة أنّه يمكنه أن يحرف هذه الدائرة في الاتجاه المذهبي، وليجترح الحلّ في الاتجاه المذهبي أيضاً. من جهة، اعتبر هذا المحور نفسه “ممانعاً” للهجمة الامبريالية الغربية على المنطقة، ومن جهة أراد أن يقول بممانعته للغرب أن مشكلة هذا الغرب ليست مع النظامين “البعثي السوريّ” و”الخميني” إنما مع الدائرة المذهبية السنية التي تشكّل الجامع المشترك بين أسامة بن لادن والملا عمر وصدّام حسين وياسر عرفات، وبالتالي لا بدّ من أن تسهّل الإمبريالية المجال لمحور الممانعة كي يفكّك هذه الدائرة المذهبية السنية ويؤطّرها من جديد في صيغة نظام إقليمي جديد للمنطقة عنوانه الأبرز تزعّم إيران لها.
بين نظريتي “محور الشرّ” و”محور الممانعة” حدثت منذ هجمات الحادي عشر من أيلول تقاطعات عديدة وانفكاكات عديدة، خصوصاً بعد احتلال العراق، وتمكّن النظامان السوريّ والإيراني من الاستثمار في الحرب الأهلية في هذا البلد باستراتيجية جهنّمية أتاحها الخطأ الأميركي الجسيم في تغليب الشيعة على السنّة بعد سقوط صدّام، الأمر الذي استبشر به البعض بلورة استقطاب ثنائي بين مرجعيتي قم والنجف، وبين التشيع الإيراني والتشيّع العراقي، لتكون النتيجة في نهاية المطاف نقل العراق من “محور الشرّ” في ظل صدام حسين إلى الموقع الرديف لـ”محور الممانعة” في ظل نوري المالكي، وإن كان لا يمكن اعتباره ركناً أصيلاً في هذا المحور.
بيدَ أن أخطر لجوء إلى التدوير المذهبي لـ”الإسلاموفوبيا الغربية” من قبل محور الممانعة تمثّل في التحريض المذهبي على الثورة السورية. منطقياً، يفترض أن يكون الإقرار بالطابع الأكثري للمذهب السني في سوريا سبباً كافياً لخلع نظام يتنازع الحكم بصدده إن كان نظام أقلية أو أقلية أقلية أو تحالف أقليات. لكن ما استنتجه محور الممانعة من هذا الطابع الأكثري جاء في الاتجاه المعاكس: أكثر السوريين سنّة، إذاً اكثر الثوّار سنّة، إذاً أكثر الثوّار إسلاميين، إذاً أكثرهم تكفيريين، إذاً ينبغي استخدام المفهوم الغربي للإرهاب، الذي قضى حافظ الأسد دهراً وهو يستعصي عليه فهمه، إنما لتبرير القمع الفظيع لثورة السوريين.
فإذا جمعنا حيثية أنّه لا مهرب من أن يكون هناك متطرفون إسلاميون في مواجهة مسلّحة كالثورة السورية (من أين يؤتى بالغيفاريين والماويين والفيتكونغ في زماننا ومنطقتنا؟!)، مع حيثية أنّ الإسلاموفوبيا المستعادة مذهبياً من قبل محور الممانعة لقيت صداها في روسيا بشكل محموم وفي الغرب بشكل فيه مد وجزر، كانت النتيجة أن النظام السوريّ أخذ يراهن من الإفلات من حكم التاريخ بحقه، ومن إرادة السوريين الواضحة ضدّه، ومن العقاب الدوليّ الذي لا معنى لأن ينزل بسواه إن لم يشمله.
لكن هذه الموجة بلغت مداها. من الآن فصاعداً ليبلّ “محور الممانعة” نظرية أن الثورة السورية إرهاب وقاعدة وجبهة نصرة ويشرب ماءها ذيفاناً. أقصى تصوير للطابع الإسلاموي والتكفيري للثورة السورية صار وراءنا الآن، ليس فقط مهما حاول النظام، وإيران، و”حزب الله”، بل أكثر من ذلك، مهما ارتكبت الثورة السورية من أخطاء، ومهما ارتكب المتطرّفون التكفيريّون على هامشها من شطط.
لا خوف بعد اليوم من “الإسلاموفوبيا المؤطّرة مذهبياً” كما يسوقها محور الممانعة. لماذا؟ إلى حد كبير بسبب من تورّط “حزب الله” و”الباسدران” في سوريا. في العراق، كان بإمكانهم التلاعب بظواهر كأبي مصعب الزرقاوي. أما في سوريا فقد تورّطوا بكليتهم. اطمأنوا إلى أن الغرب بدأ يراها ثورة تكفيريين، فحسبوا أنفسهم أرباب التنوير والحداثة، في ظل الرايات السود، أو الصفر.
ينبغي تتبع استعادة الزخم الغربي الإيجابي باتجاه الثورة السورية يوماً بيوم، من دون التسرّع. وينبغي تتبع استعادة الزخم الثوري المسلّح يوماً بيوم، من دون التسرّع أيضاً. لكن ما يمكن المجازفة فيه منذ الآن، هو أنّ نظرية “الثورة السورية هي جبهة النصرة” صارت من الآن فصاعداً نظرية يمكن أن يستهلكها يعاسيب الممانعة في ما بينهم.
المستقبل