إسلاميو «داعش والمشرق»: ورثة الصراخ الأيديولوجي/ حمّود حمّود
من المثير أنّ أسطورة من أساطير الحلم القومي تدخل عالم التحقق: تكسير الحدود والإجهاز على جغرافية قيل إنها من صنع سايكس – بيكو وتوابع الإمبريالية. لكن، من المثير أكثر أنه بعد نضال مرير من الصراخ الأيديولوجي العابر للدول أنّ هذا الحلم لم يتحقق على أيدي دعاته من القوميين، بل على أيدي إخوة منافسين لهم. يبقى الأمر عند القومي، ربما، التاريخ لم يبتسم بعدُ بوجهه، الوجه الغاضب دوماً. وبالفعل، ما لم يستطع فعله القوميون على مدار قرن من الضجيج وتكسير العظام والحكم الدموي والصراخ من أعلى المنصات والكراسي ضد الدولة والجغرافية، ضد من يؤمن بـ «تقطير» الجغرافية (وهم، على أية حال، أذيال الإمبريالية في «الجسم العربي الواحد»)… إلخ، الآن بعد قرن من كل ذلك أتى تنظيم إرهابي إسلاموي، لم يكمل بعد عقده الأول في المشرق، ليحقق ما عجزت عنه أيديولوجية «الإحياء العربي»، أيديولوجية تكسير الحدود وتوحيد القوم.
قرن من الصراخ والاصطراخ، قرن من العويل والأيديولوجية (حتى الفأر لم يحالفه الحظ لأنْ يولد من تمخض جبال الصراخ العربية)، قرن من النضال في زعيق الكلام نجده الآن يُترجم من قبل جهة ليست بعيدة تماماً في العمق عن الأسلاف القومية. الحلم بتكسير الحدود بين العراق وسورية (وهو حلمٌ قد راود «الموحدين» القوميين منتصف القرن العشرين، حتى بالقفز إلى مصر معهما وتكسير حدودها كذلك) يحدث الآن على أيدي ثلة مخلوقات إرهابية لم نعهد عنها أنها تصرخ. القضية عند هذه الثلة ليست الصراخ، بل الذبح. لكن أيضاً إنهم لم يأتوا بجديد عن سابقيهم سوى أنهم يذبحون على الهواء، ولا يتحرجون إذا رأوا إرهابهم يتناقله الإعلام، بخاصة أنهم يؤمنون أنّ مثل هذا الذبح هو لتجسير الفجوة بين المدنس والمقدس.
ليست هذه المخلوقات غفلة من التاريخ. هل ننكر أنهم خرجوا من على هامش عمليةٍ سميت بـ «الربيع»؟ من رحم هيجان ضدّيّ؟ يحدث الآن أنّ القرضاوي يشرعن لذلك تحت مسمى «الثورة السنّية» وذلك في جو شحن طائفي شديد، ويحدث كذلك أنّ قادة دينيين كباراً من الشيعة، منهم من يرتدي بزة عسكرية، يتنادون لـ «الجهاد المقدس». إنه الجهاد الذي لم ير السيد نوري المالكي بأساً في دعوته بكونه استمراراً للمعارك بين «أنصار يزيد» و «أنصار الحسين». وهذا بالفعل ما برهن عليه المالكي في فيديو بث أخيراً (يوتيوب) بأنّ المعركة بين أنصار يزيد وأنصار الحسين مستمرة: «إذاً، أنصار يزيد وأنصار الحسين مرة أخرى وعلى طول الخط يصطدمون في مواجهة شرسة عنيدة. وهذا يعطينا رؤية بأنّ الجريمة التي ارتكبت بحق الحسين لم تنته…»، يصرح المالكي. هكذا، إذا ما تنادى جهاديو السنّة لحضور القادسية في بغداد ضد الفرس (المعركة التي ذكرنا بها صدام في حربه مع إيران)، فإنه هناك كذلك الأمر التلبيات الشيعية الحماسية للانتصار على بني أمية.
أحد المعاني المهمة لتكسير الحدود اليوم بين دولتي البعث هو الانكشاف الصريح لما كانت تستبطنه قومية العرب: حرب الطوائف على الطوائف وحرب الأصوليين على الأصوليين. ولا بأس إذا تحوّل قادة قوميون إلى قوّاد طوائف. وعلى العموم، في عمق الأيديولوجية القومية العربية ليس هناك من فرق كبير! هناك أمثلة ما زالت حاضرة (صدام حسين مثلاً) كيف يتحول القائد القومي من قائد وحدوي عربي، إلى وحدوي إسلامي، ثم بلمحة بصر إلى قائد طائفة. من هنا ليس مستغرباً إذا خرج داعش، بلمحة بصر أيضاً، من عمق هذه التنقلات الهوائية العابرة للدول. ليست المسألة أنه من «حول» البعث خرج إسلاميون، بل بالأحرى من «داخل» البعث قد «انبعثوا» (ينطبق هذا الكلام أيضاً على إرهاب «إخوان» سورية الذين كانوا في يوم ما أصدقاء لصدّام).
لنتذكر أنه لا يمكن الجغرافية أنْ تضبط الأصولي. إنه حرٌ منها، حرٌ من ثقلها الثقافي. ما إنْ يركن الأصولي بجغرافية حتى تستقبله جغرافية أخرى، ما إنْ يتموضع بثقافة ريف حلب حتى تستقبله ثقافة الموصل، وهلمّ جرا. عند الأصولي وطأة العقيدة أقوى من وطأة الجغرافية. الخميني مرة كان يتكلم بهذا اللسان أو بالأحرى كان يراهن على هذه العقيدة الأصولية المتحررة من الجغرافية والمتحررة من الدولة: لقد كان يريد تصدير «ثورة إسلام» تتجاوز الدول. مخيال الطائفي أيضاً، كما لا يستطيع امتدادُ الجغرافية ملءَ شبق مخيلته، فكذلك الأمر لا يمتلك أيّ تاريخ سوى تاريخ الطائفة كما يتخيله. ما يقدمه اليوم البلدان الشقيقان في «البعث»، سورية والعراق، يجسد مثالاً مهماً على هذا، ويبرهن، مرة أخرى، على أنّ البيئة التي أثمرت في يوم ما «الإحياء العربي»، هي نفسها البيئة التي تتحف إعلام العالم اليوم بمخلوقات «داعش» ومنافسيهم، جنوباً الذين دعوا إلى الجهاد المقدس واستكمال المعركة الأسطورية أو الحروب الأهلية بين أشقاء الفضاء الثيولوجي الواحد.
أرض البعثين، بعث دمشق وبغداد، والتي قيل يوماً إنها من أعتى الأراضي التي شهدت نداءات قومية والنضال من أجل فلسطين، لكن بالكلام والصراخ، هي نفسها اليوم أرض «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، أرض بعثي الإسلام، أرض بعث الطوائف، أرض جاذبية الطوائف، أرض استكمال المعارك الأسطورية التي لا يبدو أنها ستُحل، لكنها أيضاً الأرض التي تم الصراع يوماً على هويتها الطائفية المقدسة، واليوم يُطل هذا الصراع من جديد في أشكال جديدة من الهيجان والدم. ما لم يستكمله القوميون في الصراخ والعويل الأيديولوجي يقوم به «داعش»: تكسير حدود الدولتين «القطريتين»، وتقديم درس آخر في الجغرافيا.
* كاتب سوري
الحياة