إشكالية وعي اللحظة الراهنة
معتز حيسو
في سياق النهوض الشعبي السوري، بات كثيراً من القضايا والمفاهيم السياسية والنظرية بحاجة إلى تدقيق ودراسة. ومن هذه القضايا: كيفية تشكّل بنية نمط الوعي السائد الذي يتحدد في سياقه ومن منظوره وعلى أساسه، آليات وأشكال وسياقات تجليات الوعي العياني. لكن إشكالية بنية الوعي وأشكاله السائدة تكمن بكونها تأسست و تطورت في سياق الوعي السياسي والاجتماعي الذي اشتغل النظام المسيطر على تكريسه وتعميمه وتمكينه اجتماعياً. أي إن أشكال تجليات الوعي السائد وإن تفاوتت، فإنها نتاج وعي اجتماعي تشكّل في إطار بنية نظام شمولي أحادي تأسس على الاحتكار السياسي والثقافي والاقتصادي في سياق رفض وإقصاء وقمع أي فكر يعارض بنية وعيه السلطوي المسيطر وأشكال تجلياته، ويصل مستوى إلغاء الآخر لدرجة هدره كيانياً. وفي إطار هذا النمط من الهيمنة الشمولية لم تستطع أطراف المعارضة تأسيس وعي سياسي يقطع مع الوعي السائد، بل تماهت وفكرها مع وعي وثقافة السلطة السياسية المسيطرة. وتكمن المفارقة أيضاً في تقاطع بنية وآليات عقل الفئة المسيطرة وبعض من قوى المعارضة، وإن بأشكال مختلفة، مع بنية الوعي الديني المسيس، وتحديداً السلفي التكفيري..الذي يتطور في سياق رفض الآخر وتكفيره وإهدار دمه إذا لم يتماهى معهم مذهبياً. ومن المخيف اقتران وتقارب أو حتى تماهي هذا الفكر في اللحظة الراهنة وفي بعض الجوانب مع الفكرة الجهادية. ومن الواضح بأن الفِرَق السلفية الجهادية التكفيرية وتحديداً من هم من غير السوريين يتوافدون للجهاد إلى داخل سورية من أجل إقامة الدولة الإسلامية، وهذه المجموعات لا تستهدف النظام الحاكم لذات الأسباب التي انتفض من أجلها الشعب السوري،بل تستهدف النظام والسلطة تحديداً من منظور طائفي/ مذهبي/ ديني، ومن ذات المنظور يحددون شكل علاقتهم مع من يخالفهم الاعتقاد الديني،حتى لو كانت هذه الفئات والشرائح الاجتماعية تتموضع في حقل المعارضة للسلطة المهيمنة. فهم ينضدون الآخر أياً كان فرداً أو فئة أو مجموعة من منظورهم المذهبي المستند إلى الشريعة: مرتد، ذميّ، كافر، ملحد أو زنديق… لهذا يجب أن نلحظ خطورة انعكاس آثار الفكر العقائدي الأحادي سياسياً كان أو دينياً على الوعي والواقع الاجتماعي،لأن أشكال الوعي القائم على بنية ثقافية عقائدية أحادية ترفض الآخر وتهدر حقوقه بمستويات وأشكال مختلفة ساهمت وتساهم في تكريس التخلف والتقوقع على الذات، سواء كانت هذه الذات فردية أو جماعية: مذهبية أو إثنية أو سياسية، وتحديداً لأن الجميع يدرك أن السلفية الجهادية لا ينحصر نشاطها في منطقة محددة، بل في أي دولة يتوافر فيها المناخ المناسب للجهاد، لأن هدفها الإستراتيجي هو الانتقال للدول إسلامية في سياق يستعاد فيه عهد الخلافة.
إن إشكالية اختلاف وتناقض تجليات أنماط الوعي السائد الذي تمتد جذوره المعرفية والثقافية إلى أعماق الموروث الثقافي المتعدد المنابت والمشارب الإثنية واللغوية والدينية والعرقية والإثنية .. ،لا يمكن رده إلى ذات بنية الوعي السائد في هذه المجتمعات فقط، بل إلى بنية السلط السياسية وبنية الدولة ودورها السياسي والاجتماعي وإلى بنية الاقتصاد وأشكال تجلياته، وذلك بحكم الترابط الجدلي بين بنية السلط المسيطرة وبين بنية الوعي السائد. إن كلاً من هذه العوامل يساهم في التأثير على البنى الاجتماعية و أشكال تجليات الوعي الاجتماعي السائد الذي يتمظهر وفق آليات وأشكال ومستويات مختلفة. لكن في المحصلة النهائية، فإن تقاطع هذه العوامل، يساهم في تشكيل حتى الوعي الذي يبدو ظاهرياً أنه متمايز عما هو سائد من الوعي. لذا فإن اختلاف تجليات بنية الوعي السائد التي تقوم على الأحادية(المانوية)، لا تعبّر عن تغيير في بنية الوعي الاجتماعي السائد. لأن سياق تغيّر وتغيير الوعي أو ما يطرأ من تغيير على بنية الوعي وأشكال تجلياته يتعلق ويتحدد بسياق التطور الاجتماعي العام وتحديداً المستوى الاقتصادي الذي يحدد موضوعياً الوعي السياسي في سياق الترابط الجدلي بين المستويين. وهذا لا يلغي تأثير العولمة الثقافية على التبدلات والتغيرات التي تطرأ على أشكال الوعي، ونخصّ هنا المجتمعات الخاضعة لتأثير الوعي المعولم. لكن لو دققنا قليلاً في العوامل الكامنة والمسببة للتأثير الثقافي للدول الرأسمالية المركزية، نرى بأن إنعكاس تأثير آليات اشتغال رأس المال وما ينتجه من تجليات اجتماعية و ثقافية وإعلامية، له الدور الأبرز في سياق العمل على إعادة توضيب وترتيب وتكييف نمط الوعي والبنى الثقافية وأشكال تجلياتهما في البلدان المتخلفة، التي ترتبط حكوماتها السياسية بأشكال من الارتهان السياسي والتبعية الاقتصادية للدول الكبرى. ويساهم في تمكين هذا التحوّل تسارع وتائر وتأثير الثورة الرقمية التي كشفت حجم الفجوة المعرفية بين الدول المتقدمة والمتخلفة، والتي ساهمت أيضاً في اختراق الفضاء الإنساني لترسم ملامح الأشكال الثقافية وتحديداً في البلدان الطرفية والمتخلفة، مُحدثة تخلّع وتصدع في بنية الوعي السائد، دون أن تساهم في التأسيس لوعي بديل يقوم على التأصيل الثقافي والمعرفي، بل تشتغل على تشكيل وعي معرفي مشوه ومفكك يقوم على ركام من المعلومات، في سياق تخليع أوصال وأركان وبنى المكونات الثقافية التي تشكل موضوعياً البنية الثقافية العامة. مما يترك مكونات الثقافة الأصيلة نهباً لعواصف تأثير المد الثقافي المعولم،الذي لا يترك مجالاً للتحولات والتغيّرات الموضوعية، وبذات اللحظة يعمل على تمكين أشكال ثقافية استهلاكية تقوم على تسليع الإنسان ووعيه وحقوقه الأساسية على أنقاض ثقافة محلية مخلّعة.
وقد تزامن اشتغال النظام السياسي السائد على تكريس أشكال وعي يتجلى بالفساد والتبعية والاستزلام والاسترزاق والتقيّة والأحادية والتذرر والخضوع والخوف و ثقافة الاستهلاك المشوه .. مع ما تشتغل عليه المراكز الإعلامية من تشويه معرفي وثقافي يهدف لإحداث زيادة وتعميق تخلّع بنية الوعي المتخلف والمتناقض، في سياق إعادة توضيب البنى المعرفية بما يتلاءم مع السياسات الإستراتيجية للدول المهيمنة التي تعمل على إعادة توضيب وترتيب آليات وأشكال إخضاع شعوب المنطقة سياسياً واقتصادياً وثقافياً.
إن جملة العوامل والأسباب التي ذكرناها ساهمت في إنتاج أشكال وعي اللحظة الراهنة. أي إن ما يمكن أن نلحظه من خلل أو إشكالية يعاني منها الوعي السائد في فهم وإدراك اللحظة الثورية، ليست وليدة اللحظة، بل هي نتاج بنية ثقافية ومعرفية عميقة الجذور، ونتاج آليات اشتغال أنظمة سياسية شمولية قمعية أحادية تتقاطع وتتزامن مع ما تشتغل عليه الدول الكبرى في سياق إعادة إنتاج علاقة الإخضاع والخضوع /التبعية والاستتباع،على المستويين الدولي والمحلي. إن هذه الآليات والأشكال من العلاقة، ساهمت في تعزيز التخلف والتبعية والفقر والاستبداد في البلدان الطرفية في سياق علاقة تقوم على التماهي والارتهان والتبعية.ومن أهم التحديات التي يمكن أن تواجه التحول الديمقراطي الاجتماعي(السياسي،الاقتصادي،الثقافي)هو تماهي وعي النخب السياسية مع وعي السلط السياسية الحاكمة. لهذا فإننا نراهن نسبياً على قدرة وإمكانية المكونات الأولية والأساسية للحراك السوري الديمقراطي السلمي،على كسر الحلقة المفرغة المولدة للاستبداد والتسلط والاحتكار السياسي والاقتصادي والثقافي.. ونتوقع بأن مجرد تجاوز حالة الركود والاستنقاع المولدة للاستبداد والقهر، فإن القوى الاجتماعية المقهورة ومن خلفها القوى السياسية التي تحمل مشروعاً ديمقراطياً علمانياً على المستويين السياسي والاجتماعي، تكون قد وقفت على عتبة التحول السياسي والثقافي الديمقراطي، وهذا ما يجب تقويته. أي تمكين المجتمع وقواه السياسية المدنية الديمقراطية العلمانية واليسارية الوطنية من الإمساك بتلابيب اللحظة الراهنة، والمرحلة الإنتقالية، دون أن نتناسى ضرورة العمل على أن يكون هذا التحول في سياق إنتاج وعي سياسي واجتماعي ديمقراطي يقطع مع الوعي السائد للسلطة السياسية المسيطرة ، ويشتغل على نقد ونقض الفكر الجهادي التكفيري.لهذا فإن الإشكالية التي يجب التركيز عليها، تتمثل في أن فئات متعددة ومتنوعة من المجتمع السوري لا ترى بأن اللحظة الراهنة، هي لحظة نهوض ثوري ضد كافة أشكال الاحتكار السياسي والاقتصادي. لذا يجب التأكيد والتوضيح على إن الجذر الأساس للنهوض الاجتماعي والشعبي الذي تشهده سورية والذي شاركت به و ساندته فئات واسعة من المجتمع السوري، يمثل لحظة صراع طبقي ضد سياسة الإفقار والتهميش والإقصاء والاحتواء التي يمارسها النظام ضد المجتمع السوري، معتمداً سلطته الأمنية التي حوّل من خلالها سورية لدولة أمنية، يسودها صمت القبور. ونؤكد بأن المتضررين من تقاطع وتزامن آليات السياسات الاقتصادية التي اعتمدت النهب والفساد والإفساد والإفقار المنظم والممنهج، مع سياسة أمنية جففت المجتمع السوري من أية إمكانية لنشاط سياسي أو حتى مدني أو أهلي مستقل.. يشكلون غالبية المجتمع السوري. لكن لم يتحول عند هذه الفئات الإحساس والشعور بواقعها الاقتصادي والسياسي والاجتماعي إلى لحظة وعي طبقي يقوم على إدراك مصالحها الحقيقية وعلى تحديد خصمها الطبقي الذي اشتغل في سياق تجديد وتأبيد سيطرته الطبقية على إفقارها وتهميشها وإقصائها و نهب الثروة الوطنية، وإفساد المجتمع،في سياق اشتغالها على تحرير الاقتصاد والأسواق والأسعار…وربط كافة المؤسسات التي تمثل الكيان الحقيقي للدولة على أسس أمنية إستخباراتية، تغولت لتجتاف سلطة الحزب الذي يقود إسمياً وظاهرياً الدولة والمجتمع،وتبتلع الدولة والمجتمع لتتقيؤها في إطار عجلتها الأمنية السلطوية سلعاً وأدوات وأشياء،وكل هذا يتجلى في سياق إعادة إنتاج وتعميق سلطة سياسية قهرية تختزل الدولة والمجتمع في شخص الرئيس الذي يختصر بذاته المجتمع بكافة تجلياته السياسية والاقتصادية والثقافية، ويجتاف الدولة ويشتغل على تحويلها في سياق بناء الدولة الأمنية لتكون نسخة مطابقة لذاته.وأي مساس لشخصه يشكّل إنتهاكاً وتعدياً على كيانية الدولة.فهو ذات الدولة والمجتمع في سياق تحوّله لذات مقدسة.إن الدمج والتماهي بين شخص الرئيس والدولة، يعتبر التهديد الأكبر لأي تغيير ديمقراطي، وما نشهده من نهوض يشارك فيه غالبية الفئات الاجتماعية لا يشكّل بالنسبة للسلطة وبطانتها والمدافعين عنها، إلا مؤامرة تستهدف دولة المقاومة والصمود، ونعلم بأن المقاومة لا تبنى إلا بمواطنين أحرار بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. ونتساءل عن كيفية تحوّل المواطن المقاوم في لحظة الحراك الشعبي السلمي من وجهة نظر رموز السلطة إلى خائن(هل لأنه طالب بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية؟؟!!). وما يزيد من حدة الاستقطاب والتناقض الاجتماعي، إن من يدور في فلك النظام والخاضعون لسلطته السائدة وآليات تفكيرها، يعبّرون عن تجليات النظام الذي لا يرى في الحراك الشعبي إلا مؤامرة ضد الشعب و الدولة.ويعتبرون بأن كافة المشاركين في هذا الحراك خونة للدولة والشعب،رغم أن هذه الفئات هي الأكثر تضرراً من تناقضات هذا النظام سياسياً واقتصادياً.
إن شكل وعي اللحظة الراهنة يشكّل أحد الإشكاليات والمفارقات التي يجب العمل على تجاوزها، ليس بالتخوين والإقصاء والعنف… بل بمد جسور الحوار الشامل والعميق في سياق المحافظة على استقرار البنى الاجتماعية، لنزع غطاء الشرعية عن الجرائم التي ترتكب باسم الشعب كائناً من كان مرتكبها. ونؤكد بأن السلطة المسيطرة توظّف وعيها الزائف في تدعيم شرعيتها وتبرير ممارساتها. وهذا يفترض تكثيف الجهود لتغيير بعضاً من أشكال تجليات التفكير السائد في سياق تمكين وعي مدني ديمقراطي بدأت ملامحه تتجلى في سياق تخلخل وتراجع بنية وأشكال الوعي السائد. وهذا يستدعي التركيز على ضرورة إنجاز وبلورة هوية ثقافية ديمقراطية على قاعدة وعي طبقي علماني ديمقراطي في اللحظة الثورية التي يشهدها المجتمع السوري.
وإذا وسعنا دائرة بحثنا في إشكالية وعي اللحظة الراهنة، فإننا سنلحظ شكلاً آخر من تجليات الوعي الذي على أساسه يتم تحليل الحراك الشعبي السوري، وهذا الشكل من الوعي مرتبط أو متأثر أو حتى يتماهى بالفكر والثقافة الدينية والمذهبية المسيّسة الإشكالية، و التي يتم الاشتغال على ترويجها لتشويه وإفشال الحراك الشعبي. ويشكّل من يتبنى هذا الوعي كتلة بشرية لا يستهان بها. وندرك جيداً بأن هذه الكتلة لا يغيب عن وعيها حجم التناقض السياسي والاقتصادي الذي ساهم في إزكاء نيران الأزمة السورية، لكنها حتى اللحظة لا ترى في الحراك الشعبي إلا حراكاً دينياً/ مذهبياً، طائفياً،مما يشكّل تشويهاً لحقيقة نهوض الشعب السوري الذي كان من الممكن لو توافرت له قيادات سياسية وطنية وديمقراطية حقيقية وشروط ومناخات داخلية وإقليمية ودولية مناسبة أن يقطف ثمار ربيعه، لكن مخاطر تحوّل الربيع لشتاء مرعب من الممكن أن يكون قاب قوسين. وهذا يرتبط بحجم التناقض والصراع الدولي في سورية وعليها، لأن جميع الأطراف تدرك بأن شكل حل الأزمة السورية سيكون له انعكاساً واضحاً على شكل وبنية النظام العالمي الجديد، وعلى شكل تجاوز الملفات العالقة في المنطقة وعلى المستوى الإقليمي والدولي. لكن ليس بجديد على الذاكرة الإنسانية أن تتجلى وتتمظهر بعضاً من جوانب ومستويات الحركات الاجتماعي أو حتى بعضاً من الثورات الشعبية بأشكال لا تعبّر عن مضمونها السياسي الحقيقي نتيجة لأسباب ذاتية وموضوعية( عدم تماهي الشكل مع المضمون)، وهذا يتعلق بطبيعة وتركيبة البنى الاجتماعية وأشكال وعيها، ويتعلق أيضاً بطبيعة وبنية السلطة المسيطرة وبالمحيط والمناخ الإقليمي والدولي. وهذا يعززه سعي الدول الاستعمارية لفرض مشروعها السياسي والاقتصادي على المنطقة، في محاولة للخروج من أزمتها الاقتصادية، ولفرض شروط الأحادية القطبية بالقوة. ويدرك كثيراً من المراقبين والمتابعين للحراك السوري وحتى بعض المشاركين به، أن هذا الشكل من الوعي، إضافة لتحول أشكال ومضامين المواجهات المسلحة، والتي باتت تتلبّس لبوساً طائفياً، يساهم في شد العصب الطائفي/ المذهبي عند كثير من الفئات الاجتماعية، ويعزز التناقض بين الأطراف المشاركة في الحراك، ويمنع مشاركة فئات اجتماعية كثيرة انتظرت وتنتظر توضّح بنية وأشكال وأهداف ومآلات(الثورة السورية)، في لحظة تفترض مشاركة كافة القوى والفئات في الحراك الشعبي الوطني الديمقراطي السلمي، الذي يناضل من أجل الانتقال إلى مجتمع ونظام ديمقراطي، وبأدوات ديمقراطية وسلمية. إن الطابع الديني (المذهبي،الطائفي) الذي يغلف الحراك الثوري،يساهم في انكفاء فئات اجتماعية واسعة عن المشاركة في النهوض السوري، وهذا يتقاطع مع الدفع الذي مارسته بعض الأطراف لتشويه الحراك الشعبي وتقديمه على أنه صراع طائفي إرهابي.. ومع رفع وتيرة ودرجة حدة العنف، وهذا لا يتحمل مسؤوليته من خرج يطالب بالحرية والكرامة بأشكال وأساليب سلمية وديمقراطية. بل إن العنف والقمع الذي تمت مواجهة الحراك الشعبي به من قبل الجهات الأمنية والعسكرية، هو من ساهم في زيادة حدة العنف المضاد( رد الفعل من جنس الفعل ) وفي تدويل الأزمة السورية، وتحويلها إلى حرب بالوكالة،وتوفر إمكانية التدخل الخارجي، وهذا ما حذرنا منه ومن نتائجه السياسية والاجتماعية منذ البداية…. دون أن ننسى بأن بعض الأطراف الخارجية والداخلية كانت تدفع بهذا الاتجاه، وكانت ترى بأن العسكرة والتسليح يشكل مدخلاً لإسقاط النظام . وأكدنا بأن التغيير بالقوة العنفية وفق الأشكال الحالية لن يساهم إلا بإعادة إنتاج الاستبداد والقهر والأحادية وإن بأشكال مختلفة. ونؤكد من موقعنا الرافض للعنف كوسيلة للتغيير السياسي، لأسباب أوضحناها في نصوص أخرى،بأن تبني أو اعتماد العنف أداة للتغيير، أو لكبح جماح الحراك الشعبي، لا يعبّر في الحالة السورية عن موقف عقلاني وموضوعي،ولن يؤدي إلا لتدمير بنية الدولة والمجتمع، ولن ينتج إلا نظاماً استبدادياً قامعاً للحريات،أياً كان شكل النظام السياسي المقبل، وإن بأشكال مختلفة. لكن بات من المؤكد بأن العنف الذي نلحظ تزايداً مستوياته وأشكاله، سيعمّق الفوضى والحرب المفتوحة ( الكل ضد الكل). لذا فإن مقولة ( العنف مولد التاريخ وقابلته..)من الممكن أن تكون غير موضوعية في الحالة السورية.ونشدد على أن الفئة المهيمنة في السلطة كان من مصلحتها،لأنها غير قادرة على إنجاز التغيير الديمقراطي أن تحوّل الحراك الشعبي عن أدواته وآلياته وأهدافه الحقيقية والسلمية. ولأن التغيير الديمقراطي يعني تصدّعها، فإن استخدامها للعنف وتهديدها بالحرب الأهلية والطائفية والتهديد بخطر التدخل الخارجي وتفتت البنية الاجتماعية وكيانية الدولة…على قاعدة الترويج لفكرة المؤامرة الكونية التي تحاك ضد سورية، كان وما زال يمثل أحد أهم الأدوات لكسر إرادة الشعب السوري الثائر من أجل استعادة حريته وكرامته المهدورة. إن تركيز النظام وإعلامه على أن ما يجري في سورية هو مؤامرة وعنف طائفي وإرهاب ومجموعات من القاعدة التكفيرية الجهادية السلفية.. يساهم في عدم إظهار الحقيقة ، ويشوه المضمون الحقيقي لانتفاضة الشعب السوري، ويساهم في تضليل شرائح واسعة من الشعب السوري(وبات من الواضح بأن القاعدة ومن يرتبط بها من أطراف جهادية و تكفيرية مدعومة من جهات دولية وإقليمية، ركبت موجة الحراك الشعبي السلمي وباتت تتحكم في مستويات وآليات وأشكال الصراع الدائر على الأرض السورية بعد أن فرضت معادلة العنف المدعوم من أطراف دولية وإقليمية، من أجل الاستيلاء على السلطة وفرض الدولة الإسلامية، وهذه الأطراف شوهت الحراك السلمي وأبعدته عن أهدافه وأدواته السياسية، وحتى أنها تساهم في إجهاضه نتيجة آلياتها العنفية والطائفية والإستئصالية والتدميرية..).وهذا ما يجب مواجهته والعمل على تجاوزه ديمقراطياً لتحقيق التغيير الوطني الديمقراطي السلمي على المستويات السياسية الاجتماعية والاقتصادية، كونه يعيق مع القمع السلطوي التغيير الوطني الديمقراطي السلمي.
أخيراً نشدد على أن تجاوز إشكالية الوعي السائد، وبشكل خاص المتموضع منه في الحقل السياسي والثقافي والاقتصادي للسلطة المسيطرة، ومن يخضع لتأثيراته، ويشكّل حواضن اجتماعية له، ويشرعن استمراره، ويدافع عنه، يتموضع في حقل الصراع الطبقي، وهذا الحقل يستوعب ويستغرق كافة مستويات وأشكال الصراع الاجتماعي بأبعاده السياسية والاقتصادية والثقافية … لذا فإن الصراع ضد الوعي السائد والمسيطر يأتي في سياق التأسيس لوعي مدني ديمقراطي متحرر من التابوات المغلقة، وفي سياق التناقض والصراع السياسي مع السلطة القهرية المسيطرة، من أجل التحول لنظام سياسي ديمقراطي(سياسي واجتماعي). ومن الضروري أن يستمد النظام الديمقراطي الجديد مشروعيته من مجتمع يتأسس موضوعياً على الإنسان الحر المتحكم في مصيره والمتملّك لكافة أدوات وآليات ووسائل الممارسة الديمقراطية.