إعادة ترتيب الأوراق
على ما يبدوا فإن صدى قرار جامعة الدول العربية كان ضخما على الشارع السوري بكل أطيافه… فأنا الآن بدأت أرى الجميع يفتح أوراقه و يحدد خياراته بشكل واضح
قرار جامعة الدول العربية جاء بموافقة ثمانية عشر دولة عربية و مع الأخذ بيعين الأعتبار أن القرار يحمل في طياته تهديد مباشر و رسالة صارمة جدا من النادر أن يجمع عليها هكذا عدد من الدول العربية…. فكان لا بد للجميع من وقفة “تعبوية” و إعادة ترتيب أوراقه بما يتناسب مع المرحلة المقبلة
فعلى الصعيد الدولي مثلا…. فالجميع الآن بات مدركا أن الأزمة السورية تتجه بشكل مباشر نحو الانفجار…. بعض الدول سارعت إلى سحب رعاياها…. و البعض الآخر سحبت دبلوماسييها…. و البعض الآخر خرج عن صمته المباح…. و ربما تكون تصريحات الرئيس اللبناني ميشال سليمان خير دليل على مدى تأزم و خطورة الوضع
من الواضح للجميع على الصعيد الدولي أن جامعة الدول العربية الآن تسيير حسب خطا مجلس التعاون الخليجي…. فالأوضاع الضبابية في الدول العربية الكبرى مثل مصر و مع سقوط النظام السوري سياسيا و فشله في اللعبة الدبلوماسية العربية و خسارته لكافة الكروت التي تركها نظام حافظ الأسد له و ذلك عبر سلسلة من الأخطاء السياسية الفادحة منذ تسلم القيادة الحالية لدفة الحكم…. و مع حالة الغليان التي يشهدها الشارع العربي في شمال إفريقيا و في الأردن و اليمن و السودان و و…. كل هذا ترك الباب مفتوحا لمجلس التعاون الخليجي بأن يكون هو المتحكم بكافة قرارات الجامعة و هو الطرف السياسي الوحيد الذي يستطيع أن يرسم السياسات العربية و لو حتى شكليا أمام العالم…. و إذا أردنا التفصيل أكثر فنجد أننا حقا أمام سياسات ترسمها السعودية بالتنسيق مع كبار الاعبين الدوليين و تمررها تحت غطاء خليجي أولا و عربي ثانيا…. و بالتالي فإن قرار جامعة الدول العربية يحمل في طياته و بين سطوره الكثير الكثير…. و هذا ما أدركه مباشرة النظام السوري الذي بادر بداية إلى قبول المبادرة العربية دون تحفظ بمحاولة يائسة منه لاحتواء الأزمة ربما و لكسب بعض الوقت أيضا….. لكن بالتأكيد فقطار الأحداث هذه الأيام أسرع بكثير من عربة النظام السوري التي يقودها حمار…. لهذا نرى أن أولى ردات الفعل الرسمية للنظام كان عبر مندوبه في الجامعة و التي خرجت عن سياق الأعراف الدبلوماسية لتصل برداءتها إلى مستوى “الزعرنة” و “التشبييح” و ذلك بتعبير واضح عن مدى سوء إدارة الأزمة و مدى التدهور السياسي الذي وصل له النظام
على المستوى الشعبي السوري…. كان قرار جامعة الدول العربية بمثابة الرافعة للحراك في سوريا…. فهو كان بمثابة الخبر الجيد الذي وصل “الثوار” بعد طول انتظار…. كما أن أطياف “المعارضة” في سوريا كان لابد لها من أن تعييد حساباتها فورا على وقع تطور الأحداث….. فمثلا أصبح المجلس الوطني يجد ربما لنفسه مستقبلا بعد أن كان يسير دون هدى….. و هذا ما دفعه ربما بعد نصيحة البعض لقياداته بأن يحاول التوجه إلى الانفتاح أكثر مع باقي أطراف المعارضة من أجل توحيد الصفوف استعدادا للمرحلة المقبلة التي ربما تكون الاعتراف به عربيا و بالتالي دوليا
و كان صدى القرار العربي أيضا واضحا لدى هيئة التنسيق الوطنية…. و إذا كان البعض يغفل حجم التمثيل الشعبيي التي يملكه أعضاء الهيئة في المدن السورية الكبرى فإن أطرافا عربية و دولية تدرك أن هذه الهيئة لابد أن تكون جزءا من الحل المفترض…. و أعضاءها لابد لهم الآن أن يتماهوا مع المجلس الوطني ولابد أن تكون مواقفهم واضحة لا لبس فيها و إلا فإن القطار أيضا سيسبق عربتهم
أما على صعيد ما يسمى الأغلبية الصامتة…. فبدى من الواضح أن الجميع الآن قد حدد خياراته و خرج الجميع عن الرمادية و بدأنا نرى فتح الأوراق و الحديث المباشر من الجميع…. ربما قد أدركوا أن السفينة تغرق فعلا ولا مجال للصمت بعد اليوم….. و هكذا كانت قرارات الجامعة العربية بمثابة اللسعة التي أخرجت ما يبطنه الجميع….. و عمّت حالة من الهيستيريا الجميع…. فالبعض خرج ليبشر بمستقبل بائس لهذا الوطن…. و ذهب بعيدا إلى رفضه التغيير و التمسك بالنظام القائم خوفا على مستقبله و مستقبل أحبابه و أصحابه…. و بدأ الحديث فجا عن “الطائفية” و “الجهل” و “التخلف” و “المؤامرة” خارجا عن سياقه بعد ثمانية أشهر من الحقن و الحقن المضاد…. و البعض الآخر من الفئة الصامتة المزعومة خرج عن سكوته ل”يشمت” بال “منحبكجية” و يعبر عن غباءهم و عن عنصريتهم في حالة مضحكة مبكية تضع الواقع في خارج سياقه و تشوه حقيقة خطورة الموقف و تزيد الحقن و التجييش و الحقن المضاد…. هذه الأزمة الأخلاقية المزمنة في الداخل السوري و التي تفجرت مؤخرا توضّح للجميع أن “الغسيل الوسخ” لهذا الوطن لم ينته نشره بعد…. و أن الروابط الاخلاقية بين فئات هذا الشعب قد تهالكت و أصبحنا الآن نتحرك بشكل نفعي و بناء على معادلة “أنا أقف مع الأقوى” بدلا من الوقوف ضد الظلم و ضد الفساد و ضد التحريض…. إن بعض الصامتين قد تفاجأوا أن معادلة القوى ليست في صالح النظام…. فذعروا و هبوا لأن سكوتهم سابقا كان عن يقين أحمق بأن هذا النظام و جيشه و أمنه و شبيحته سيفتكوا بهذا الحراك و ستعود الأمور إلى مجاريها كما اعتدنا طيلة خمسين سنة الآن…. وهكذا و في لحظة الحقيقة التي رؤوها في قرار الجامعة العربية و التي تعبر بشكل واضح أن الأمور ليست كما كانوا يعتقدون…. خرجوا الى متاريسهم و خنادقهم ربما في محاولة يائسة من بعضهم إلى تقوية هذا النظام الهش…. كما أن البعض الآخر قد وجد في قرار الجامعة العربية بيضة القبان التي رجحّت ميزان التغيير فآثروا الآن و بعد صمت مطبق طيلة أشهر على ركوب قطار التغيير و التعبير بكل قبح عن أمراضهم الدفينة و عقلية “يلي بيتجوز أمي بناديلو عمي” و بدأوا بالوعيد و التهديد لأخوانهم في الوطن….
أما طبقة الجماهير العقائدية فقد قفزوا إلى ما هو أبعد من الا معقول بكثير…. فجن جنون البعض منهم و بدأت دعوات القتل تخرج منهم دون حياء…. و خرج البعض الآخر علينا منددا بالعروبة متناسيين عن حمق أن قيادتهم قد حملت لواء العروبة و قمعتنا به منذ أكثر من خمسين سنة حتى الآن…. فهم لم و لن يدركوا أن شرعية نظامهم تسقط بما ينادوا به…. و لم و لن يدركوا أن أدلجتهم قد حولتهم إلى قطعان غير قادرة على استخدام العقل في محاكمة الأمور و الالتفات إلى شركاءهم في الوطن بدلا من السير الغريزي نحو الهاوية التي يقودهم و يقودنا معهم إليها هذا النظام…. لم و لن يدرك هؤلاء أن على الجميع الآن رد المشكلة إلى أصلها السياسي و الابتعاد عن تمزيق وشائج هذا الوطن أكثر…. لم و لن يدرك هؤلاء أن السفينة تغرق و أن على الجميع التكاتف و العمل بشكل وطني حقيقي لوقف شلال الدم و احتواء الأزمة في إطار سياسي لا ديني ولا طائفي ولا مناطقي
لا بد لنا الآن من التفكير في المرحلة المقبلة…. يجب أن يدرك الجميع أن سوريا “الوطن” في خطر…. و يجب أن يدرك الجميع الآن أن التعايش و التفاهم هو القدر الوحيد المحتوم على أبناء هذا الوطن….. لا بد أن يدرك الجميع ألا غالب ولا مغلوب في الوطن و أن اللوم السياسي للقيادة السياسية هو المنقذ الوحيد لعقد الشراكة بين أبناء الوطن…. لابد للجميع أن يدرك مؤيدا كان أم معارضا بأن أزمة الأخلاق هذه التي تمر بها البلاد يجب أن يبنى عليها المستقبل الأفضل لا أن نعمل على تعميقها و تضخيمها…. لا بد للجميع أن يدرك أن حلّ الأزمة لا يكون بالعنف و السلاح…. ولا بد للجميع أن يرفع الغطاء فورا عن كل من يستخدم العنف اتجاه أي طرف كان…. ولا بد أن يدرك الجميع أن المستقبل يبنيه الجميع و يقرره الجميع دون إقصاء…. لن ينفع هذا الوطن إلا أبناءه…. و لم و لن ينفعه يوما ما لا جامعة الدول العربية ولا دول الخليج ولا تركيا و لا روسيا ولا الصين ولا إيران….. لا يمكن لهذا الوطن بتنوعه و خصوصيته أن يكون حبيس محور ما…. فكما أدرك السابقون ألا حلف بغداد ولا وارسو ولا النيتو ولا غيرهم يأتي بالخير لهذا الوطن…. و كما أخبرنا التاريخ ألا عبد الناصر ولا الوحدة ولا البعث يمكنهم تقديم الرفاه و الخير لهذا الوطن…. يجب علينا أن ندرك اليوم ألا خيرا سييأتينا من الخليج ولا من تركيا و لا من روسيا ولا من الصين ولا من إيران… لا أحد يجب أن يتجاذب أطراف هذا الوطن… ولا يجب أن ترسم سياساته و مستقبله بالغرائز…. ولا يجب أن ننسى أن من يدن بالسيف يدان بمثله…. و أن من يحميني و يحميك هو أنت و أنا و باقي أفراد الوطن الواحد…. لا قيادة سياسية ولا نظام إقليمي…. ولا حتى النظام العالمي
http://the-syrian.com/archives/53147