إعادة صياغة الوطنية السورية/ غازي دحمان
إذا أردنا كتابة الوقائع السارية بشكل تقريري، بما يشبه عملية التشخيص السريري، نقول إن ما يحصل في سورية، اليوم، هو حروب القبائل ضد بعضها، حروبها على موارد الحيز “الكيان”، من ثروات ومناصب وقيم معنوية ورمزية، ولا يحرمها طابعها القبلي من استعارة أدوات الصراع الاجتماعي الحديثة وقيمه، كما لا يمنعها من الاندراج في سياقات الحراكات ذات الطابع التغييري السياسي والاجتماعي السائدة في العالم، ولا بأس أن تتلفع بشعارات الحرية والعدالة، في حين تتلطى القبائل المضادة لها وراء شعارات الدولة والقانون.
ولكن، لماذا هي صراعات قبلية؟ الواقع أن البنى الاجتماعية الوحيدة التي تعي نفسها في سورية، وتملك شرعية الإعلان عن نفسها بوضوح، هي القبائل، وحتى السوريون كأفراد عرفوا عن أنفسهم، طوال عقود، بصفتهم أبناء قبائل، كان ذلك قبل حكم البعث الذي توجه له التهمة بتعزيز الانقسامات الطائفية في سورية، وكانت القبيلة الإطار الوحيد الذي أخذ شكلاً منتظماً تتضح فيه آليات الحكم الحديث ” شيخ ـ كبار رجال القبيلة – المحاربون – المنتجون وهم فلاحون أو رعاة”، كما أنه شكّل الجهة الناظمة للعلاقات بين القبائل، كما أن المكونات الأخرى، الأكبر من القبيلة والأصغر من الدولة، “الجهويات والطوائف”، كانت تنطوي بداخلها على نظام تشكل القبيلة الوحدة الأساسية فيه، ويخضع تاليا للتمايزات التي تحددها معايير قوة كل قبيلة، من حيث العدد والثروة والقوة، ولم تكن مكونات متماسكة، إلا حين يتعرض وضعها القبلي لتهديد خارجي.
وفي التاريخ الحديث، كان الغزو الوهابي الذي جرى على حوران من 1790 إلى 1825 يستهدف قبائل درعا والسويداء، بكل مكوناتها السنية والدرزية والمسيحية، وكانت هذه القبائل تواجه هذا الغزو بتحالفات على أسس قبلية. لذا أعادت صياغة خريطة انتشارها في المنطقة، بناء على هذه التحالفات، كما أنها تخارجت من طوائفها وتداخلت ضمن طوائف أخرى، بناء على هذا المعطى. لذا، ليس غريبا أن نجد اليوم في المنطقة الجنوبية من يردّ هذه القبيلة، أو تلك، إلى أصول طائفية، غير التي هي عليها اليوم.
على ماذا يدلل ذلك؟ على حقيقة أن سورية وطن قبائل، وليست بلاد طوائف، لم يتكرس البعد الطائفي، ولم يتبلور كوعي، على الرغم من وجود بعض توجهات من هذا القبيل في مراحل تاريخية، لكنها لم تنجح، وشكلت لحظات عابرة، انتهت في وقتها. كان الانتماء للقبيلة أكثر وضوحاً، وكان الانتماء المناطقي أكثر جاذبية وترسّخاً، والواقع أن صراع السوريين “الراهن”، في بدايته، كان صراعاً قبلياً محضاً، اختلفت فيه نظرة قبائل الريف مع عائلات المدينة، أما الجزئية الطائفية فالواضح أنه جرى استعارتها، عندما ضعفت القبائل. ولأن تجارب المنطقة كانت سابقة في هذا المجال، فقد جرى تصدير نموذجها الطائفي إلى سورية التي لا تزال مرتبكة، في أغلب فئاتها، وخجولة من البعد الطائفي، وترفض الاعتراف به.
لكن، ما دام الأمر على هذه الشاكلة، فلماذا لم تشهد سورية حكماً قبليا؟ الواقع أنّه لدى التدقيق في الخريطة القبلية، يتّضح أنّ وضع القبيلة في سورية استثنائي، بعض الشيء، عن باقي المنطقة. إذ ثمة توازن قبلي بين القبائل، سواء لجهة العدد، أو لجهة امتلاك الثروات وأماكن الانتشار. في كل منطقة، كان يوجد أكثر من قبيلة بالحجم نفسه، ما منع أي إمكانية للتفرد بالسلطة، وثمة معطى ثان، يتمثل بأن سورية بلد مدينة قديم، فدمشق وحمص وحلب وجدت قبل تجمع القبائل وتشكّل الأرياف، وهذا حوّلها، على الدوام، إلى مراكز سلطوية، امتدت سلطتها إلى الأرياف، حيث كان الأعيان فيها هم من يملكون الأدوات الإنتاجية لأهل القبائل، كالأرض، أو يتحكمون بتصريف منتجات القبائل من صوف ولحوم ماشية.
وكل تلك عوامل ساهمت في إضعاف القبائل، لصالح سلطة العائلات المدنية، وتاليا تحكم المدينة في الريف، وحتى حينما كانت تتعرض المدن لغزوات القبائل، لم يكن القصد السيطرة على تلك المدن، بقدر ما كان هدف الغزوات الحصول على الغنائم، لسد حاجتها في سنوات القحط، وحتى في العصر الحديث، عندما وصل أبناء القبائل على السلطة، فذلك لأن أبناء عوائل المدينة صاروا يأنفون القيام بمهام العسس والحراسة، ما أوجد اتفاق جنتلمان بين القادمين من الريف وأهل المدينة، بأن عليكم الحماية والحراسة، مهناً تعتاشون منها، وعلينا دفع الضريبة المناسبة من فائض تجارتنا وصناعتنا.
“كان “أبناء العشوائيات” الطرف الأكبر والأكثر فاعلية في الثورة السورية، والأكثر تمثيلاً للمكونات السورية”
حسناً، ما علاقة ذلك بالوطنية؟ تقول الوقائع المعاصرة إن ادراج القبائل ضمن صيغة وطنية أسهل بكثير من إدراج الطوائف، ذلك أن المكوّن الديني يتفوق على البعد الوطني والقومي وينافسه، في حين أن الانتماء القبلي لا يملك حساسية من الاندراج ضمن المكون الوطني، وذلك لسهولة دمج القبائل في العملية السياسية، كما أن البعد الطائفي يبدو مكتفيا بذاته، وقاطعا لكل المشتركات الوطنية لأبناء الحيز الواحد، في حين أن البعد القبلي يبقى ناقصاً ومشدودا لتحالفات وطنية أكبر.
على مدار سنوات الاستقلال، امتلكت سورية بعض الأبنية السياسية والمؤسسات البيروقراطية، “الدستور، البرلمان، الجيش ومؤسسة التعليم، ووظائف المؤسسات العامة”، على قلة فاعليتها وتأثيرها السياسي، إلا أنها ساهمت، بدرجة أو أخرى، في صياغة شكل وطني، وعملية اندماج مقبولة. لم يكن الخلاف في سورية يوما سوى على محاولات نظام حكم الأسد شد الوطنية باتجاه تعزيز سلطته، ومحاولة إعادة صياغتها على شكل قالبٍ، يتوافق مع حكم سلالته التي أراد التأسيس لها، فحوّل سورية إلى سورية الأسد، واحتاج، لتثبيت هذه الصيغة، إلى تحالفات قبائلية، قام بتقديم إغراءات السلطة والثروة لها، أو قدّم لها فرصة لتغيير أوضاعها من القاع الاجتماعي (بمدلول الثروة) مع تحالفات مع عوائل المدن المركزية، أصحاب النظرة المحافظة للتغير الاجتماعي، فجمع، في لحظة تاريخية واحدة، بين نقيضين، هما الساعون إلى السلطة (القوى الريفية الطالعة في فترة الستينيات والسبعينيات) والرجعيون (بيئة النخب التي حكمت من ثلاثينيات القرن الماضي إلى بداية ستينياته)، “ليصوغ توليفة جديدة من المحافظين على الوضع الناشئ، وهذه الصيغة المتناقضة من أسباب الثورة لما أنتجته من تهميش وقسوة على مساحة كبيرة من أبناء البلد”.
اليوم، ما هو تحت الضرب ويترنح، هو وطنية دولة سورية الأسد، والصراع سيطول ما دامت هذه الوطنية موجودة، وسينتهي بانتهائها وعدم قدرتها على المقاومة. لكن، ما هو شكل الصيغة الوطنية السورية الجديدة؟ هل من الممكن أن يجري تثبيت الطابع القبلي فيها؟ لا شك أن النموذج المفضل هو الشكل الذي تقوم عليه الوطنيات الغربية المنتمية للوطن، والتي يتمتع فيها المواطن بالعدالة والفرص المتكافئة، ولا شك أن تحقّقها على هذه الشاكلة سيسهم، بدرجة كبيرة، في تعزيز الانتماء الوطني، وتقوية رصيده على حساب الانتماءات الأخرى، فإذا كان فضاء الوطن يضمن للفرد حقوقه وأمنه، لا تعود هناك حاجة للالتجاء إلى الانتماءات الأخرى، لضمان تحقيق هذه الحاجات. وقد أثبتت الثورة السورية، في بدايتها، نزوعات واضحة صوب هذه الاتجاهات، مثّلها أبناء العشوائيات “سكان ضواحي دمشق وحلب وحمص” الذين تفكك عندهم الانتماء القبلي، بفضل انخراطهم في المدينة، ونمط حياتها ومنظومتها القيمية، ولم تحتوهم، في الوقت نفسه، العوائل المدنية. وكانت هذه الفئة “أبناء العشوائيات” الطرف الأكبر والأكثر فاعلية في الثورة السورية، والأكثر تمثيلاً للمكونات السورية، وكانت رؤيتهم الوطنية أكثر وضوحاً، فهم أصحاب شعار “واحد واحد الشعب السوري واحد”.
العربي الجديد