إعدام شجرة وإحراق علم..!!/ حسن خضر
وقعت قرية سورية حدودية، قبل أيام، في قبضة جماعة تكفيرية، وتناقلت وكالات الأنباء، وشبكات التواصل الاجتماعي، خبر الشجرة البلوط المعمّرة، التي قطعوها، هناك، تعبيراً عن حربهم المتواصلة على “الشرك”. وظهر في الصور، التي تناقلتها وسائل الإعلام، رجل يرتدي قناعاً، ويجز جذع الشجرة بمنشار كهربائي، وفي خلفية المشهد أعلام القاعدة السوداء.
وقد أضفى بعض المعلقين دلالة درامية على الحدث، فنشروا الصور تحت عناوين مثل “القاعدة تعدم شجرة”. وهذا صحيح إلى حد بعيد، ويعيد التذكير بتدمير جماعة الطالبان في أفغانستان، قبيل سقوطها، لتماثيل بوذا التاريخية في منطقة باميان.
وخلال الفترة نفسها، التي شهدت إعدام شجرة البلوط، في سوريا، قام أنصار لجماعة الإخوان بإحراق العلم المصري في ميدان التحرير، في الذكرى الثانية لما يُعرف، هناك، بأحداث محمد محمود. وخلال حكم الإخوان، في القاهرة، اعترض مؤيدون وأنصار للإخوان على تحية العلم، والوقوف احتراماً للنشيد الوطني. وظهرت في الصحافة المصرية، في السياق نفسه، تحقيقات عن مدارس يمنع القائمون عليها تحية العلم التقليدية، التي يؤديها التلاميذ في الصباح.
تبدو هذه الممارسات الرمزية، وكأنها تأتي من زمن مضى. وهذا، أيضاً، صحيح إلى حد بعيد. بيد أن هذا النوع من الممارسات ليس حكراً على العرب، وليس مشروطاً بمعادلة التقدّم والتخلف. ففي مناطق كثيرة من العالم، وفي الولايات المتحدة، وأوروبا، توجد أفكار وممارسات تنتمي إلى القرون الوسطى، وما قبلها. والجامع بينها وبين ما ذكرنا من أحداث، أنها معادية لفكرة الدولة الحديثة، والثقافة الشعبية والعالِمة.
بيد أن ما يجري في العالم العربي، في هذا المعنى، يختلف عمّا يجري في مناطق أخرى من العالم. فالممارسات المعادية لفكرة الدولة الحديثة، والثقافة بنوعيها، لا تشكل التيار الرئيس في المجتمعات الغربية، وما لا يحصى من المجتمعات الأخرى، وهي، دائماً، أقلوية محصورة في الهامش، وعلى الهامش، ولا تحظى بالاحترام، أو النفوذ السياسي.
وعلى الرغم من عدم استنكاف بعض معتنقيها عن ممارسة العنف، إلا أن عنفها نادر، وفردي في أغلب الأحيان، ولا يشكل خطراً على المجتمع، أو النظام العام. وفوق هذا وذاك، والأهم من هذا وذاك، أنها ليست جزءاً من لعبة الأمم في إقليمها، وفي العالم.
وهذه الصورة تبدو مقلوبة، تماماً، في العالم العربي. فالأفكار القادمة من زمن بعيد، والمعادية لفكرة الدولة الوطنية الحديثة، والثقافة بنوعيها، وما ينبثق عن تلك الأفكار من جماعات وتمثيلات سياسية أصولية (على اختلاف أقنعتها، وأساليبها) تمكنت في العقود الأخيرة من اختراق التيار الاجتماعي الرئيس، وتحوّلت إلى ظاهرة سياسية، وأحزاب تمارس التقية، وتنخرط في اللعبة السياسية العامة، وتفوز في الانتخابات العامة، أو تطل برأسها الدموي والانتحاري، في شكل عصابات مسلحة، في كل مكان وهنت فيه قبضة الدولة المركزية.
وفوق هذا وذاك، والأهم من هذا وذاك، أنها جزء من لعبة الأمم في الإقليم والعالم. وهذا يعني، ضمن أمور أخرى، أن تحت تصرفها موارد مالية، وخدمات لوجستية، وتسهيلات إعلامية وسياسية، توفرها كيانات دولانية قوية ومستقرة. وغالباً ما تنبثق هذه اللعبة عن، وتستشري في ظل، فوضى القيم والمفاهيم، وتعفّن القضايا الوطنية والقومية العالقة، وتغوّل الدولة، والتفاوت في توزيع الثروة، وفشل مشاريع التحديث والتنمية، في مجتمعات كثيرة.
ولعل في هذا ما يُفسّر كيف ولماذا تُؤوَّل عمليات إجرامية تستهدف المدنيين، وتزعزع استقرار دول ومجتمعات، باعتبارها أعمالاً جهادية تستحق الثناء والتقدير من جانب البعض، في سياق عنف أعمى، وغير مسبوق في تاريخ العالم.
والمفارقة أن الجانب العدمي لظاهرة العداء للدولة الوطنية الحديثة، والثقافة بنوعيها، الذي يختزله سيد قطب في عبارة: “الوطنُ وثن، والعَلَمُ صنم”، نادراً ما يستوقف المحللين والمراقبين، والأسوأ بين هؤلاء أنصار الجوهرانية الثقافية في الأكايميا الغربية، ومَنْ يعيدون إنتاج أفكارهم في العالم العربي.
فلنفرض، مثلاً، أن المعادين للدولة الوطنية الحديثة، والثقافة، تمكنوا عن طريق العنف (على طريقة الخمير الحمر في كمبوديا، والطالبان في أفغانستان) من تقويض دول، والاستيلاء على مجتمعات، وأعادوا إنتاجها على صورة نموذج مُتخيّل، هل في هذا ما يمثل إجابة على أسئلة من نوع: ماذا عن الخدمات الأساسية، بما فيها الصحة والتعليم، وتوفير السلع الاستهلاكية، والإدارة المحلية، والسلطة القضائية، والنظام المصرفي، والمواصلات، والبنية التحتية، والتجارة الدولية، والدفاع، والعلاقات الدبلوماسية.
هذه الأشياء أكثر تعقيداً من قطع شجرة، أو إحراق علم. بمعنى أن الممارسات الرمزية المعادية للدولة الوطنية الحديثة، والثقافة بنوعيها، لا تكفي، ولا تصلح، لحلها، حتى إذا طردنا من قائمة الأسئلة ما يخص المواطنة، والمساواة، والحريات الفردية والعامة، وقضايا النساء، وتداول السلطة، والفصل بين السلطات. وهذه من سمات الأزمنة الحديثة.
ومن المؤكد أن كل مجتمع أوقعه سوء الحظ في قبضة هؤلاء لن يتمكن من البقاء، على قيد الحياة، إذا كان قليل الموارد، دون مساعدات إنسانية خارجية. ومن المؤكد، أيضاً، أن الثمن الذي يدفعه مجتمع كهذا، باهظ، مبلل بالدم والدموع، عبثي، وغير مبرر. وبالمناسبة، وكلما تعلّق الأمر بالموقف من الدولة الوطنية الحديثة، والثقافة بنوعيها، الفرق بين مختلف الأصوليات الدينية، (مهما اختلفت أقنعتها، وأساليبها، وشطارتها في ممارسة التقية) في الدرجة لا في النوع.
لذا، فالأمر أكثر تعقيداً، وأشد خطورة، من إعدام شجرة، أو إحراق علم.
موقع 24