إعراب ليس فقط للمبتدئين: كادَ المُعَلِمُ أن يكونَ رَسولا/ رفيق شامي
كادَ: فعل ماض مبني على الفتح يُطلَقُ عليه لقبي ناقص وناسخ، صفتان تثيران الفضول. نقول أحياناً، مثلاً: هذا فعل ناقص بمعنى فعل حقير بحق إنسان، فتعذيب إنسان مهما كان جرمه، مثلاً، فعل ناقص. وسرقة أموال الإغاثة ستين مرة فعل ناقص. ووجود مليونير عربي واحد إلى جانب طفل سوري جائع فعل ناقص مُخْزٍ. نقول عن حديث إنه ناقص عندما يعمل فيه مقص الرقيب، أو خوف من قريب يستمع لحديثنا (لاحظ بربك هذا السجع المتناهي الرقة والذكاء بين مقص الرقيب والخوف من قريب وهذا القرب بالتأكيد عربي محض). وبالمناسبة من قال بأن الأقارب عقارب لا يبالغ كمن يقول عن رجل مات بحادث سيارة إنه شهيد.
بعض الفلاسفة يزعم أن “كاد” تسمى فعلاً ناقصاً لأن أصلها كان “كادح” ومن كثرة كدحها فقدت حاءَها فصارت ناقصة أي فقيرة بكدها. لم أر في حياتي رجلاً صار غنياً بكده. الأغنياء لصوص تنابل لا يكدون سوى بسرقة كد الآخرين.
واللغويون يقولون: “كِدْتُ أَفْعَلُ”، معناه، عند العرب: قاربْتُ الفعل، ولم أَفعل. وكذلك كاد يكاد كان في الأَصل كَيِدَ يَكِيْدُ. الكَيْدُ من المَكِيدَة، والكَيْدُ: الخُبِثُ والمَكْرُ؛ والكَيْدُ: الاحتيالُ، وبه سميت الحرب كيداً.
لكن لماذا تسمى “كان” وإختها “كاد” في الإعراب فعلاً ناقصاً؟ الجواب: الأفعال تكون تامة عندما تدل على الزمن والحدث بنفس الوقت. وأغلب الأفعال التي نستعملها أفعال تامة مثل أكل، شرب، نام، كتب ونسي.. فعندما نقول (أكل سامي) نفهم كل ما حدث زمناً وفعلاً بشكل تام. الفضوليون وحدهم لا يكتفون بهذه المعلومة التامة بل يحفرون بأسئلتهم حتى يعرفوا ما الذي أكله سامي: (حُمُّصَاً، عدساً، أتعابَ الآخرين، كفاً أو قتلة) لكن الفضولية لا محل لها من الإعراب في حالتنا، فالجملة واضحة حتى بدون شرح وتشريح. بينما لا تكتمل الجملة بقولك: كان سامي… أو كاد علي… فإذا توقفتَ عن الحديث لم يفهم أي مستمع أو قارئ ما كان سامي سيفعل أو يشعر، أو كاد علي أن يفعل… إلخ. ولهذا سميت مثل هذه الأفعال بالناقصة… ويُضافُ لتسميتها (أحياناً) صفة الناسخ، والنسخ هنا بمعنى قلب وتغير وإزالة الشيء وليس بمعنى النسخ الذي نستعمله في حديثنا أي بمعنى إنتاج صورة طبق الأصل لصفحة ما سواء بنقل كلماتها أو نسخها آلياً. واستعماله بهذا الشكل نادر جداً. مثلاً، في سورة البقرة 106: “مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.” وهو هنا إِبطال الشيء وإِقامة آخر مقامه، وإعرابياً هو قلب الجملة وتغييرها. فجملة: اليومُ عيدٌ تتألف من مبتدأ وخبر مرفوعان بالضمة، وإذا دخلت “كان” عليهما حولت المبتدأ لإسم كان، ويظل مرفوعاً، وحولت الخبر المرفوع إلى خبر منصوب.
لا تمثل كان وأخواتها مشكلة كبيرة ويسيطر عليها التلميذ بعد جهد، الطامة الكبرى تضادُّها مع بنات حميها إن وأخواتها (أن ولكن وكأن وليت ولعل)، فهذه تنصب المبتدأ ويسمى اسمها، وترفع الخبر ويسمى خبرها، عكس كان وأخواتها. وهكذا قاعدة مصطنعة تُعْتَبَر علاك (وتعني المَضغ، وهي في العامية الدمشقية تعني الكلام الفارغ، ويماثلها في هذه العامية الرائعة قولهم: أكل هوا)… علاك النحويين الذين أرادوا منع انتشار اللغة بتعقيد قواعدها. ولم يفكر أحدهم يوماً بالأطفال، بل أراد إثارة دهشة سلطانه ومنافسيه ليبرر الدنانير التي يبلعها. ولا يسبق تضاد هاتين المجموعتين (كان وأن) سخافةً وغباءً سوى فرض سلسلة من القواعد لا مبرر لها على الأعداد التي نستعملها يومياً مما يصيب كلَّ عربي(ة) بالحيرة والارتباك. فلماذا يتبع تذكير وتأنيث العدد جنس المعدود في واحد وإثنين ثم يعاكسه من ثلاثة حتى التسعة؟ وأما رقم عشرة فمنفصم الشخصية فهو يخالف المعدود |إذا كان وحده، فنقول: التقطت عشر صور لمظاهرات حمص البطولية، ويوافق تذكير وتأنيث المعدود إذا كان مركباً أي نقول: إثنا عشر أستاذ تاريخ فشلوا في إقناع طلابهم بصحة تسمية ساحاتنا في دمشق بأسماء المجرمين؟ وهل يقبل عاقل أن قول ثلاث رجال خطأ وغير مفهوم لأن أحدهم قرر أن يقال ثلاثة رجال وثلاث نساء؟ لن يجد كل صاحب عقل أي فائدة واحدة لهذه الثمرة الفاسدة التي أنتجها اللغويون نتيجة مللهم، فاللغة العربية جميلة وتتحلى بمرونة فائقة وتدخل القلب والعقل بسرعة، وبالتالي لو تركوها بسلام لكانت أجمل، لكنها كانت ستجعلهم عاطلين عن العمل. ومن هنا قاموا بمثل هذه الاختراعات السخيفة سخف تلافيف مخهم.
المعُلِمُ: اسم كاد، والحقيقة أن المعلم في أيامنا صار ملازماً لفعل كاد كظله واسمه، فالمعلم ذو الضمير لا يصل إلى أهدافه على الغالب وإلى لقمته. فهو دوماً في وضعية كاد. وهذا ما يسبب أزمات نفسية لبعض المعلمين بينما لا يهتم أغلبُهم إلا بعدد الأيام التي تفصله عن التقاعد. والمعلم هنا مرفوع بالضمة الظاهرة على آخره ومنصوب عليه في الحياة. المعلم كان في الأزمنة الغابرة، قبل قرون عصر الانحطاط البعثي، له قيمة، وكانت كل أسرة تفخر بإنجابها معلماً. وانا أعتبر انحطاط مكانة المعلم بداية لانحطاط المجتمع. وقد بدأت منذ تلك الأيام ظاهرة التعليم للحصول على مرتبات وللوصول إلى سلطة مال أو سياسة وطز على المجتمع إذا كان يحتاجها أو لا. وهل يعجب ذو عقل ألا يخترع 300 مليون عربي ما يخترعه شعب صغير كان للأمس متأخراً كشعب فينلندا أو كوريا الجنوبية مثلاً؟
في بداية عهد الانحطاط البعثي تكاثر عددُ الذين يدرسون ويمارسون الطب لأنهم وبسليقتهم البدوية اشْتَمُّوا رائحة مرض المجتمع وعرفوا أنهم ضمنوا مستقبلهم بعيادات مليئة بالمرضى. وامتلأت صفوف الجامعات بأصدقاء رفعت الأسد وصديقاته الذين لم يفلحوا في الحصول على البكالوريا بشكل لائق فدخلوا في المغاوير الفولكلورية التي أُسِّسَتْ لفرفشة إسرائيل… فضحك الإسرائيليون حتى أصابتهم غصة لمنظر تلك الفتيات وهن يقفزن بالمظلات فوق ملعب كرة القدم وكل قفزة بمقعد جامعي… وصار كل مواطن شريف يبكي وهو يراقب مصير الجامعة السورية وقلبه يقطر دما من الحزن. وزاد الطين بلة- كما نقول في الشام- عند تضاعُف البلاوي، أن إحتل سدة الحكم أطباء: الطبيب نور الدين الأتاسي كرئيس غير منتخب للجمهورية، والطبيب يوسف زعين كرئيس وزراء لا يعرف يمينه من يساره، وإبراهيم ماخوس كطبيب ودقاق طبول لا أكثر في مؤتمرات الجامعة العربية. لكن هؤلاء الثلاثة كانوا من الشرفاء نظيفي اليد والقلب، رغم ذلك، يئست آنذاك من حكومة يديرها أطباء معرفتهم السياسية لا تتجاوز معرفة طالب بكالوريا. ساعتها قلت لنفسي: هذا البلد أصيب بمرض البعث. وعندما انقلب حافظ الأسد على أصدقاء أمسه لم يحرك مواطنٌ واحد يدَه أو حتى رجله كمقاومة ناهيك عن اليسار البعثي الذي مثله هؤلاء الثلاثة… على ما يبدو كان مصاباً بالرشح أو الإنفونزا…
لنعد إلى المعلم المسكين الذي صار يحيي العَلَمَ بدل العِلْم صباحاً، ويدخل صفه وهو غير قادر على التدريس ولا على ضبط الصف. وأذكرُ قصصاً وصلت رائحتُها حتى المانيا. أن يسأل المعلمُ طالباً ما سؤالاً علمياً أو يطلب منه حل مسألة حسابية فيرفض هذا الطالب، سواء كان طفلاً أو شاباً، الإجابةَ جملة وتفصيلاً، ويقول ذلك بكل وقاحة وبمنتهى البرودة، ويُحَذِّر معلمَه أن يزعجه مرة ثانية بأسئلته…عندما يفكر الأستاذ (القادم من فترة ما قبل إجتياح البعث للسلطة) بعقاب التلميذ قليل الأدب هذا ينبهه أحد الخبثاء هامساً أن هذا التلميذ إبن كلب كبير في المخابرات وما أدراك ما المخابرات!… وقد حكى لي أحدهم، أنهم، عندما اكتشفوا هذا الخوفَ عند معلمهم، تحولوا كلهم بقدرة قادر لأبناء أخت وعم وخالة ووووأحد ضباط فروع المخابرات التي تكاثرت كالجراد. المهم، تحول الصف إلى نادٍ لأشبال المخابرات، فكيف لهذا المعلم أن يُعَلّم جوقة من الزعران كهذه؟ المعلم هذا كخبير في الدفاع عن النفس والالتفاف على الحواجز ونحن شعب تعود على الالتفاف وتحايُد المواجهة لا لعطل فينا بل لاضطهاد أجداد أجدادنا بوحشية لم تعرف الثقافات الأخرى مثيلاً لها وعائلة الأسد لا تقوم إلا بتعميق هذا التراث. لكن حظ هذه العائلة سيء بأن شجع إبنها بشار انتشار الإنترنت وما أدراك ما الإنترنت فلم يعد بالإمكان إخفاء جرائم نظامه، وصار كل متظاهر قادراً على تصوير الفضائح عبر جواله ونشرها من مشارق الأرض حتى مغاربها.
لنعد، بعد هذه الشطحة التقنية، إلى معلمنا الذي أيقن أنه إذا قال رأيه في هؤلاء الكلاب فمصيره “تدمُر” أو “المزة” ـو “صيدنايا”… (هل تلاحظون يا سوريون كيف أن أسماء مناطق كانت للأمس قبل البعثي أسماء سياحية وتحولت لتصبح رمزاً للسجون والمعتقلات؟) فانتقم من تلاميذه بخبث ودهاء بأن قرر الضحك عليهم وقضاء استراحة فكاهية معهم في حصصه حتى تقاعده، هكذا أمضى السنين دون مأزق واحد لا مع التلاميذ ولا مع أهاليهم، لا بل توسط أحد تلاميذه عبر أبيه وفك أسر ابن عم المعلم الذي قبض عليه أثناء تهريبه لطن من الحشيش، فأفرج عنه لقاء هدية متواضعة بقيمة 10% من ثمن الحشيش الذي أعيد للرجل بأمانة بني يعرب.
خرَّج التلاميذ برعاية هذا الأستاذ “حميراً في بنطلون” كما نقول في الشام، بينما صرف هو كل طاقته بالتدريس الخصوصي بعد دوام المدرسة، وهناك دَرَّسَ بكل ضمير طلاباً أغنياء يدفعون له أضعاف معاشه…
المعلم عدو الجهل. ولكنه يتحول لناشر للجهل عندما يكره وظيفته، ويكره ما ومن يعلمه.
راودتني فكرة اللعب باسم وليد (المعلم) وملأت نصف صفحة بالضحك على هذا الطبل، لكني قررت حذفها لأنها من نوع الضحك الرخيص، فالأسماء اعتباطية ولا مبرر لاستغلالها أكثر من اللزوم.
أنْ: حرف نصب، والنصب والاحتيال ككل مهنة لها مقدمات ضرورية. فمثلاً الخباز له مقدمة وهي حاجة الإنسان للأكل، والحلاق لضرورة تهذيب الشعر… إلخ. النصب والاحتيال يحتاجان لمقدمة ضرورية وهي وجود لطرفين أحدهما أغبى من الثاني. لأنه لو كان الطرفان بنفس الذكاء والغباء لما كان الاحتيال ممكناً.
يَكونَ: فعل مضارع ناقص منصوب وعلامة نصبه الفتحة. وقد فسرنا بما فيه الكفاية أعلاه وجهة نظرنا عن الأفعال الناقصة. ولهذا الفعل الناقص أيضاً اسم وخبر، الاسم هنا مستتر تقديره هو أي المعلم. (يدعى اسمُ “يكون” في هذه الحالة رسمياً “ضميراً مستتراً” نظراً لأن ضمير اللغويين مستتر على الغالب لا تراه الشمس ولذلك تراه يتعفن في غبار مكتباته).
رَسولا: خبر “يكون” منصوب بالفتحة. وجملة “يكون رسولا” في محل خبر لكاد. أي كتتمة للجملة الناقصة كاد المعلم…(ان يكون رسولا) وهذه من صفات “كاد” لأنها على عكس “كان” لا تكتفي بخبر من كلمة كقولك: كان العَرَبُ كرماءً (ومن هنا تأتي سخرية العامة عن شيء انقرض بقولهم صار في خبر كان) بل تحتاج دوماً لجملة تبدأ (ليس بالضرورة ولكن على الأغلب) بـ (أن) كقولك يكاد الائتلافُ أن يصبحَ مهرجاً.
الفعل الثلاثي رَسَلَ، وهو أصل كلمة رسول، له معان كثيرة، لكن أشهرها هو ما نفهمه في يومنا عند استعمال كلمة أرسل، رسالة، مراسلة، رسول. والإِرْسال: التوجيه، والرسول هو من يحمل رسالة شفهية أو خطية. وتستعمل أيضاً للدلالة على الجمع. أي نقول رسول كمفرد أيضاً عندما نعني الجمع أي الرُّسُل، كقولنا كثر الدولار والدرهم في جيوب المعارضة، ولا نريد به الدولار بعينه أو الدرهم، إِنما نريد كثرة الدولارات والدراهم كرمز للبرطيل ولشراء الضمير. وجمع رسول: أَرْسُل ورُسُل ورُسْل ورُسَلاء (انظر لسان العرب)؛ وأَرسلت فلاناً في رِسالة، فهو مُرْسَل ورَسول. وتراسل القوم تعني أرسل بعضهم إلى بعض رسولاً أو رسالة.
إعراب الجملة: هذه الجملة عَجُزُ البيت الأول من قصيدة لأحمد شوقي.
قُمْ للمُعَلِّمِ وَفِّهِ التبجيلا كادَ المعلّمُ أن يكونَ رسولا
والعرب يحترمون الشعر بشكل مبالغ فيه حتى صوروا البيت الشعري كمخلوق له صدر (مقطع البيت الأول) وعجز أو مؤخرة (المقطع الثاني من البيت في الشعر التقليدي) لكنهم على أي حال كانوا أذكياء بأنهم تركوا الجسد بلا رأس. وهذا واقع أغلب شعرنا.
هذه الجملة لا محل لها في الحياة لغبائها المنقطع النظير. ما المقصود من جملة “كاد المعلم أن يكون رسولا”؟ هل هي بمعنى أنه سيُلَاحَق ويُشْتَم ويُصْلَب ويُنْكَر كما فعل أبناء المنطقة عرباً ويهوداً بأنبيائهم (أو رسلهم)؟
ولقد أتيت على ما حصل للرسل في بلادنا الغراء وما لحق بهم من عذاب في حلقة إعراب سابقة بعنوان: “ضربَ صاحٌ صياحاً” وأنا أكره التكرار لأني أحترم قرائي وقارئاتي. لكني أشفق على المعلم أن يصير مصيرُه فوق كل شقاء لحق به كمصير الأنبياء ويعاني معاناتهم، وأعتبرُ ذلك، إنْ قَصَدَهُ شوقي، ضرباً من السادية.
أم يعني شوقي أن على الطلاب أن يعبدوا معلميهم ويؤمنوا بما يقولونه عن ظهر وباطن قلب لأنهم نصف أو ثلاثة أرباع أنبياء؟ ألم يكفينا ما فينا من ذل ليطلب منا هذا الشاعر المشعور أن نركع وراء معلمينا؟ فكل أنظمة الطغيان العربية من المحيط إلى الخليج تأمر بأن يطيعها المعلم في كل تصرف وإلا فقد وظيفته، فالمعلم رسول النظام مكرهاً أو شبيحاً. ومهمته، حسب قانون الطغيان، أن ينتج جيلاً خانعاً غبياً يسير وراء الحكام كالقطيع.
قصيدة أحمد شوقي عن المعلم طويلة وسخيفة على امتداد 68 بيتاً شعرياً. وتبين بأن الشاعر لم يُعَلِّم يوماً واحداً في حياته، ومن هنا تأتي أغلب نواقص أدبنا شعراً ونثراً. فالكاتب الذي لا يعاني من تجربة ما أو يعيشها لا يمكنه الكتابة عنها بمصداقية تقنع القارئ. حتى ولو أراد الكاتب أن يبالغ أدبياً في وصف حالة أو وضع ما، فإنه يستطيع فعل ذلك بشكل أفضل عندما يعرف حقيقة ما يود وصفه. لكن حتى هذه التجربة الحياتية لا تكفي إنما يلزم تدقيقها وإنعاش نبتتها لتصبح شجرة مثمرة ببحث دقيق لكل محيط هذه التجربة. وقد يستغرق بحث ما لوصف مقطع في رواية لا يزيد عن عشرة أسطر ثلاثة أسابيع من البحث والتمحيص. لكن أغلب (وأقول أغلب وليس كل كما سيتهمني أعدائي دون أن يقرأوا ما كتبت) الشعراء العرب لا يُضنون أنفسهم بالبحث والتمحيص ولا يهمهم إطلاقاً إن عاشوا تلك التجربة التي يتبجحون بقصيدة أو رواية عنها أم لا، وإلا لما كتبوا 90% مما كتبوه.
لقد مارست مهنة التعليم لسنين (في مدينة السويداء، ومدينة درعا وقرية الشجرة في الجولان) كما وفي ألمانيا، ولو كان أحمد شوقي لا يزال على قيد الحياة لبينت له أن هذا المديح الفارغ لا يحرك أي شعور لدي لأنه لا يمس حياة المعلم ومشكلته لا من قريب ولا من بعيد، ولا يرد اعتبار معلم طُرِدَ من وظيفته لمجرد إدلائه برأيه في مسألة ما. إنه مديح انتهازي لينال رضى المعلمين، وفي الوقت ذاته هو مدح غشيم. (تستعمل في عامية دمشق للجاهل بالأمور وهي عربية فصحى جمعها غُشماء وغشامى ويقال إنها تنحدر من غشم الحاطب إذا احتطب ليلاً فقطع كل ما قدر عليه بلا نظر ولا فكر).
وهذه قصيدة للشاعر والمعلم الفلسطيني ابراهيم طوقان (وهو أخٌ شقيق للشاعرة الكبيرة فدوى طوقان) انتقد بها أحمد شوقي، ونوردها كاملة وإبراهيم طوقان عمل معلماً في فلسطين ولبنان طيلة عمره.
شوقي يَقولُ وَمَا دَرى بِمُصيبَتي ” قُمْ للمُعلِّم وَفِّهِ التَبجيلا “
اقعُدْ، فَدَيْتُكَ، هَلْ يَصيرُ مُبَجَّلاً مَنْ كانَ للنَشءِ الصغارِ خَليلا؟
وَيَكادُ “يَفلِقُني” الأميرُ بِقَولِهِ “كادَ المعلمُ أنْ يَكونَ رَسولا”
لَو جَرَّبَ التَعليمَ “شوقي” ساعةً لقضى الحياةَ شقاوةً وخُمولا
يَكفي المعلمُ غُمَّةً وكآبةً مَرْأى الدَّفاتِرَ بُكرةً وأصيلا
“مئة على مئة” إذا هي صُحِّحَتْ وَجَدَ العمى نَحوَ العُيونِ سَبيلا
لو كانَ في “التصحيحِ” نَفعٌ يُرتَجى وأبيكَ، لم أكُ بالعيونِ بخيلا
لكن “أصلح” غَلطةً نَحويَّةً مَثلاً، وأتَّخِذُ “الكِتاب” دَليلا
مُستَشهداً بِالغُرِّ مِن آياتِهِ أو “بالحديثِ” مُفَصِّلا تَفصيلا
وأغوصُ في الشعرِ القَديمِ وأنتَقي ما لَيس مُبتذلاً ولا مَجهولا
وأكادُ أبَعَثُ “سَيبويه” مِن البَلى وذَويهِ مِن أهلِ القُرون الأولى
وأرى “حماراً” بَعدَ ذلكَ كُلِّهِ رَفعَ المُضافَ إليهِ والمَفعولا
لا تعجبوا إنْ صِحْتُ يَوماً صَيحَةً ووَقعتُ ما بينَ البُنوكِ قَتيلا
يا مَن يُريدُ الانتَحارَ وَجدتُهُ إنَّ المُعلمَ لا يَعيشُ طويلا
وأحمد شوقي شاعر انتهازي من الطراز الأول. وهذه الصفة منتشرة كوباء بين شعرائنا، ولذلك قررت أن أخصص فقرة إعراب قادمة خاصة لهم.
آذار 2014.
نشر المقال بموافقة الكاتب
كش ملك