إيران… أوهام القوة والنصر/مروان قبلان
على الرغم من التهويل والعويل، وكل محاولات الظهور بمظهر القوة الإقليمية القاهرة، والتي تنعكس في تحليلات سطحية، بعضها مقصود، تبشرنا، أو تهيئنا، للتعايش مع عصر هيمنة إيراني قادم، (انظر مثلاً مقالة تشارلز كوارثمر في “واشنطن بوست” يوم 22 يناير/كانون الثاني 2015، بعنوان امبراطورية إيران الصاعدة)، إلا أن كل المؤشرات تقود إلى العكس تماماً. فإيران التي تبدو كمن يستعد للإعلان عن نصرها الأكبر، منذ عهود الإخمينيين والساسانيين، كما تشي مزاعم سيطرتها على أربع عواصم عربية، والخامسة التي تنتظر، تواجه جملة تحديات إقليمية وداخلية، تؤكد هشاشة هذه المزاعم وتهافتها. فإيران، اليوم، أضعف، وليست أقوى مما كانت عليه، قبل أربع سنوات، على الرغم من كل مظاهر القوة الخادعة التي تبدو عبر تقدم يحققه حلفاؤها، هنا أو هناك، وبمقارنة بسيطة وحسبة صغيرة، تتأكد صحة هذا الاستنتاج.
فمع نهاية عام 2011، وفيما كان الأميركيون يستعدون لإنهاء انسحابهم من العراق، كانت إيران تتهيأ لربط مناطق النفوذ التي شرعت في بنائها، بعد أن خلصها عدوها المزعوم، جورج بوش الابن، من خصميها الإقليميين الرئيسيين (نظامي طالبان إلى الشرق والبعث العراقي في الغرب)، لكن الربيع العربي عاجلها، وأفسد عليها فرحة الانتصار بإنشاء قوس النفوذ، الممتد من هيرات إلى بيروت. وزاد الوضع سوءاً صعود تنظيم الدولة وسيطرته على معظم غرب العراق، إضافة إلى شرق سورية، محولاً مناطق النفوذ الإيرانية المتصلة جغرافياً إلى جزر معزولة في العراق وسورية ولبنان. وبنظرة سريعةٍ على خارطة المنطقة، نلاحظ أن إيران تسيطر، اليوم، على مساحات أقل بكثير من الأرض التي كانت تبسط عليها نفوذها، من خلال حلفائها في الهلال الخصيب عام 2011 (انتزع تنظيم الدولة ما يقرب من 200 ألف كم مربع من الأراضي المتصلة جغرافياً بين سورية والعراق). ليس فقط أن العراق “السني” لم يعد تحت هيمنة إيران، بعد أن خرج عن سيطرة الحكومة المركزية في بغداد، بل تبدو إيران التي جرت إطاحة أبرز حلفائها (نوري المالكي) أقل قوة في العراق “الشيعي” نفسه، فقد أجبر صعود تنظيم الدولة إدارة الرئيس الأميركي، باراك أوباما، على العودة إلى العراق، واستعادة النفوذ الذي خسرته أميركا لإيران نتيجة التسرع في الهروب من المستنقع العراقي.
لم تعد إيران، اليوم، الحاكم المطلق في العراق، بل أصبح لها شريك قوي يفرض شروطه، فأميركا هي من قرر أن المالكي يجب أن يخرج، وهي من قرر مجيء حيدر العبادي رئيساً للوزراء، وهي من يتولى أمور حمايته الشخصية، وهي من يسيطر على أجواء العراق، وهي من يدفع باتجاه تطهير الجيش وقوى الأمن من أزلام إيران، وهي من يضغط باتجاه عودة ضباط الجيش السابق، وإدماج السنة في العملية السياسية، واستعادة الدفء إلى علاقات العراق العربية، خصوصاً مع السعودية. وإذا تمكن العبادي من إعادة إحياء روح وطنية عراقية، بالتوازي مع استعادة المرجعية الشيعية شخصيتها العربية، فهذا يعني أن نفوذ إيران في انحدار، في علاقة تناسب عكسي بين متغيريْن، محصلتهما مسيرة هبوط، وليس صعود، إيرانية.
وإذا انتقلنا إلى الحديث عن حليف آخر لإيران في المنطقة، نلاحظ مدى الاستنزاف الذي لحق بحزب الله، نتيجة تدخله في الصراع السوري، ومقدار الضرر الذي أصاب قدرات الردع التي كانت لديه، وتؤكده الضربات المتتالية التي توجهها إسرائيل لقواعد الحزب وأنشطته في سورية، من دون أن يستطيع الرد عليها. ألم يدعُ زعيم الحزب، حسن نصر الله، خصومه إلى تجنيب لبنان الصراع، ومنازلته إذا شاؤوا في سورية. ها هي إسرائيل ذا تلبي دعوته، وتستغل تورطه في صراعٍ لا تشمله تفاهمات القرار 1701، وتوجه له الضربة تلو الأخرى، خارج قواعد الاشتباك المعتادة، فالحرب، هنا، تجري على أرض ثالثة، وتنعدم فيها فرص الرد المباشر، ليس لأن الحزب منشغل في حرب أكثر “قداسة” يخوضها في سورية، وليس لأنه يريد تجنيب لبنان ويلات الصراع، بل لأنه يعلم أن وجوده في سورية غير شرعي أصلاً، حتى بالنسبة لقاعدته الشعبية في لبنان.
وفي اليمن، حيث يبدو للملاحظ العادي كأن إيران تحقق انتصارات في هذا البلد، من خلال حلفائها الحوثيين الذين سيطروا، أخيراً، على دار الرئاسة، فإن المشهد هنا يبدو خادعاً أيضاً، فاليمن الذي فشلت كل القوى الإقليمية والدولية تاريخياً في السيطرة عليه (لا ننسى أنه كان مقبرة الأتراك في عهد أعظم السلاطين العثمانيين، سليمان القانوني)، لن يجعل إيران أوفر حظاً، ولن يسمح لها بالهيمنة، حتى من خلال أدوات محلية، فاليمن بلد شديد التعقيد، ليس من ناحية جغرافيته فحسب، بل الأهم من ناحية تركيبته الاجتماعية، القبلية والمذهبية، أفضل ما يمكن أن تحصل عليه إيران في اليمن هو تحويله إلى ساحة صراع بين أنصار الشريعة (القاعدة) وأنصار الله (الحوثيين) في حرب مذهبية، محصلتها النهائية صفرية.
أخيراً، وفيما يبدو أن إيران تحقق إنجازات على صعيد مفاوضاتها النووية مع الغرب، فالحقيقة أنه يجري استنزافها على امتداد الإقليم، كما يجري التضييق عليها لجهة الحصار والعقوبات، والتي كان آخرها انهيار أسعار النفط. أما عروض القوة التي تجريها إيران بين الفينة والأخرى، فلا تقول أكثر مما قالته العروض التي كان يجريها نوري المالكي، قبل أن تتبخر فرق الجيش العراقي العسكرية الثلاث، بعتادها في الموصل، خلال أربع ساعات.
يستطيع المرء في النهاية القول إن إيران قد تكون لاعباً جيداً، ومفاوضاً متمرساً، لكنها غير ماهرة في تسجيل الأهداف، فهي تلعب كل الوقت، وبمهارة عالية، لكنها لا تحقق نتائج، لأن همها ينحصر في لفت انتباهنا إلى مهارتها في اللعب، ما يفوت عليها فرصة التسجيل. وإذا درسنا سلوك إيران وسياستها الخارجية، في العقود الثلاثة والنصف الماضية منذ انتصار ثورتها، نلاحظ أن إيران لم تحقق إنجازاً حقيقياً واحداً في المنطقة. قوتها الحقيقية كانت تتمثل دائماً في قدرتها على إشاعة الفوضى. ومهارتها في بناء أدوات هيمنة محلية (مليشيات وكتائب غير نظامية) تحول دون نهوض الدولة في البلد المستهدف بالسيطرة والنفوذ، لكن إيران تغفل حقيقة أن خصومها بدأوا يلجأون إلى الطريقة نفسها في العمل، ما يعني في المحصلة أن الدولة تنهار في عموم المنطقة، وأن عصر المليشيات ودويلات الطوائف يذر بقرنه، وسيرتد هذا الأمر، في النهاية، على الجميع بمن فيهم إيران، فليس لأحد مناعة في ظل التنوع الطائفي والإثني والاستقطاب الشديد الذي تشهده المنطقة.
العربي الجديد