إيران من شريعتي إلى مشائي
حسام عيتاني
قضى علي شريعتي نحبه على أيدي عملاء استخبارات شاه إيران قبل عامين من انتصار الثورة التي بشّر بها طويلاً وكتب لها وفكر فيها كثيراً. سعى شريعتي إلى التوفيق بين الإسلام والتشيع لآل البيت من جهة والنزعات التحررية التي سادت أوساط الأكاديميين والشباب الأوروبيين في الستينات، من «عالمثالثية» إلى ماركسية، من جهة ثانية. وتأثرت بالنزعة التوفيقية هذه شرائح واسعة من المعارضين لحكم آل بهلوي من «مجاهدين خلق» إلى التيارات الإسلامية الباحثة عن مقدار من الانفتاح على مناخات العصر.
ومقابل المديح الذي أطنب القادة اللاحقون للثورة الإيرانية في إسباغه على شريعتي (لمَ لا، فهو ليس في هذه الدنيا ليزاحمهم على السلطة)، تعرضت طروحاته لنقد قاس من واحد من أبرز المفكرين الإيرانيين المعاصرين، حيث أخذ داريوش شايغان عليه إدخال الدين، بكل ما يفترض أن يحمله من تعالٍ، في ساحة الصراع الأيديولوجي الراهن وجعله حزباً سياسياً يخوض المعارك ضد فئات وأحزاب منافسة، وهو ما يسحب الدين إلى ساحة ليست ساحته ويعرضه لمحاكمات لا تحتملها طبيعته. ومن يقرأ كتاب شريعتي «الإسلام ومدارس الغرب»، على سبيل المثل، يدرك صواب ملاحظة شايغان.
فشريعتي الحاصل على شهادتَي دكتوراه من الجامعات الفرنسية، يبدو عند محاولته نقد المدارس الفكرية الغربية ضعيف الاستعداد والحجة ويسكنه هاجس تسجيل الأهداف في مرمى الفكر الغربي، المادي الملحد الوضعي، لمصلحة الفكر الإسلامي الروحي، والفوز بتأييد الجمهور الإيراني المنحاز سلفاً إلى الإسلام.
لكن على رغم المآخذ التي قد تطيح ما يمكن وصفه بـ «المشروع الفكري» الذي حاول شريعتي تشييده أو «علم الاجتماع الإسلامي» على ما يود تلامذته تسميته، يبقى له الفضل في السعي إلى عقلنة الفكر السياسي الاسلامي وتحديثه والسعي، إضافة إلى ذلك إلى جعل الاعتراض الشيعي التاريخي، حاملاً تقدمياً وثورياً رافضاً ما يصفه «بالتشيع الصفوي» المستخدم من قبل السلطة لتبرير استبدادها وتسلطها، على ما يشدد في كتابه «التشيع العلوي والتشيع الصفوي» الذي، وإن حفل بانتقادات لجوانب في التشيع الصفوي، يعود لتبنٍّ ضمني للرواية «الصفوية» لتاريخ إيران باعتبارها ضحية اضطهاد السلاطين السنّة منذ الفتح العربي. بكلمات ثانية، يقع مجدداً في التفسير الثقافوي القائم على صراع أزلي بين جوهرين متناقضين هما السنّة والشيعة من دون الأخذ في الاعتبار السياقات التاريخية والاجتماعية والتطور الذي طرأ على المذاهب والمجتمع الإيراني على امتداد مئات الأعوام.
مهما يكن من أمر، فإن شريعتي يظل صاحب جهد متقدم مقارنة بما تحمله أخبار إيران الحالية عن خلفيات المرشحين، خصوصاً أسفنديار رحيم مشائي المدير السابق لمكتب الرئيس محمود أحمدي نجاد ومستشاره الخاص ونسيبه.
مستنداً إلى تأييد عريض من الفئات الشعبية، الأكثر تطلباً للعدالة الاجتماعية والأكثر إيمانا بالخوارق والمعجزات في آن، فاز أحمدي نجاد في الانتخابات الرئاسية في 2005 و2009. ولا يكاد يمضي شهر من دون إثارته جدالاً بين السياسيين ورجال الدين حول ظواهر إعجازية يراها أو يشارك بها أو يتحدث عنها، لعل أبسطها النور الأخضر الذي رآه يحيط به عندما ألقى كلمته في الأمم المتحدة قبل ثلاثة أعوام ونيف، وصولاً إلى ترويجه «لاجتماعات» يعقدها مرشد الجمهورية علي خامنئي مع الإمام المهدي.
وفي الوقت الذي لا تخفى الغايات السياسية المباشرة للأقوال هذه، في اللعب على عواطف البسطاء من الناس وفي تملق أجهزة السلطة الفعلية في مكتب المرشد، وسط الخيوط المتشابكة والمعقدة للسياسات الإيرانية، يبدو الثنائي أحمدي نجاد ورحيم مشائي (الذي أشاع أن هالة من نور أضاءت حول أوراق تسجيله اسمه مرشحاً للانتخابات الرئاسية الأسبوع الماضي)، عازماً على السير في طريق نشر الخرافات كأداة من أدوات العمل السياسي.
ولا يغيب عن البال أن القشرة الديموقراطية في إيران القائمة على الانتخابات البرلمانية والرئاسية، يجري توسلها من قبل أجهزة السلطة، الدينية والأمنية، لدوام نفوذها عبر اللجوء إلى ابتزاز المشاعر الدينية (تتحدث شيرين عبادي في مذكراتها، على سبيل المثل، عن الحملات الانتخابية التي يعلن فيها المرشحون في الأرياف خصوصاً، أن من يؤيدهم هو مؤيد للإمام الحسين ولآل البيت، فتنهار كل محاولة لإضفاء صفة سياسية على العملية الانتخابية بحضور «أدوات الإقناع» من العيار الثقيل، واستحسنت الأحزاب المتأثرة بالثورة الإسلامية السلوك هذا وأدخلته إلى ممارساتها السياسية بعنوان «التكليف الشرعي»).
وبعد عقود على نقد سياسي للتشيع الصفوي قاده شريعتي، يظهر مستشار المرشد، وزير الخارجية الأسبق علي أكبر ولايتي ليدافع عن القوة الصفوية في كتاب يقال إنه حظي بتأييد المرشد (ولم نتمكن من الاطلاع عليه). ولعله من المفيد عدم وضع هذه الكلمات في إطار مقولة متهافتة عن «الصفوية الجديدة» في مواجهة «العثمانية الجديدة». فالـتاريخ ليس مسطحاً إلى هذه الدرجة.
يمكن، في اختصار، وضع محاولة شريعتي «العقلانية» في مقابل خرافات أحمدي نجاد ورحيم مشائي. لكن الأهم هو النظر إلى المعنيين الاجتماعي والسياسي لهاتين الظاهرتين وإرجاعهما إلى أصولهما التي تقول بانحسار نفوذ البرجوازية الصغيرة المدنية التي حملت لواء شريعتي الساعية إلى إبداع نوع خاص من الحداثة الإسلامية، لمصلحة تقدم القوى الأكثر جذرية في محافظتها، تقول بالوصول إلى نهاية الطريق وترك «إمام العصر (الإمام المهدي) يغير الظروف» على ما قال مشائي، بحيث يوافق مجلس صيانة الدستور على ترشحه للانتخابات الرئاسية.
الحياة