إيزادورا.. الرقص بوصفه الفكر/ رشا عمران
أنهيت قراءة كتاب إيزادورا دونكان “حياتي”، وهو سيرة ذاتية كتبتها الراقصة الأميركية (1877- 1927) التي كانت لها شهرة واسعة في أوروبا. وعلى الرغم من أن الكتاب (الهيئة العامة المصرية للكتاب، ترجمة مدحت طه) سيرة راقصة، إلا أنه عمل أدبي، بلغته وإحالاته المعرفية، وبتحويل فعل الرقص الذي ابتدعته إيزادورا ليصبح حالة دائمة التشابك مع الفلسفتين، الدينية والمادية، ومع الشعر والنحت والرسم والمسرح، ومع الموسيقى بطبيعة الحال. عاشت إيزادورا في أكثر فترات التاريخ البشري الحديث حيوية وحراكاً ثقافياً وفكرياً، وتنقلت بين عواصم العالم المشعة بالنور والفن والثقافة وقتها، باريس ولندن وبرلين وروما وفيينا وموسكو، إلا أن حنينها الدائم كان إلى أثينا، بلاد الأولمب التي كانت تعتقد أن المنبع الأساسي للفن فيها، من حيث التجلي الأسمى للآلهة الإغريقية العظيمة.
وعلى الرغم من نشأتها المتزمتة التي أتاحت لها، بدايةً، اختراع نوع جديد من الرقص الخاص بالمعابد، إلا أنها استطاعت أن تكتشف تطهرها عبر الرقص، لا عبر الدين، بعد أن حوّلت ديانتها إلى مادة متصلة بالتاريخ الإغريقي الذي فتنها. كانت إيزادورا أول راقصة ترقص حافية القدمين، مرتدية وشاحاً أبيض، وخلفها ستائر زرقاء هفيفة. كان هذا الديكور البسيط يرافق حفلاتها كلها، مبتعدة عن كل ما كان يقيّد حرية الجسد والفكر وقتها، فالحزام الضاغط الذي كانت تلبسه السيدات، ليشد أجسادهن ويجعلها نحيلة، كانت تراه طريقة أولى للحد من قدرة المرأة على التفكير والتحليق بخيالها. الجسد الحر هو بوابة العقل الحر المنطلق. لهذا أيضاً لم تكن معجبة بفن الباليه الذي وجدت فيه إجباراً للجسد على فعل ما يسبّب له الألم في سبيل الفن، والفن يعني الحرية الكاملة، والحرية تعني الاختبار، والتجريب، والفشل، والبدايات الجديدة.
كانت إيزادورا ترى الرقص التعبيري الذي أبدعت فيه يحقق هذا كله. كان الباليه محدوداً، خطواته معروفة، تصبح فقط هي قدرة راقصة الباليه على اجتراح خيالاتٍ جديدة في رقصها، فالتة من الخطوات التي وضعها مدرب الرقص. لم يكن لإيزادورا في رقصها التعبيري مدرب، وحتى الأطفال الذين درّبتهم، تركت لهم تلك المساحة من الخيال، ليتصرفوا بأجسادهم وفق خيالاتهم. ليس ما ساعدها على ذلك كله روحها الحرة فقط، بل تواصلها مع أهم رجال الفن والثقافة والفكر والمسرح والتشكيل في تلك الفترة، ولكم أن تتذكّروا تلك الأسماء التي أسست لنهضة العالم الثقافية والفكرية في العقود اللاحقة. تلك الروح التواقة الحرة لإيزادورا جعلتها تؤمن بالثورة، إذ طالما رفضت الرقص في الملاهي. رقصت، أحياناً، في صالونات الطبقة الأرستقراطية، بسبب حاجتها المادية، وبسبب رغبتها في التعرف على المبدعين الذين استقطبتهم تلك الطبقة، لكنها، تصرّح أنها كانت أكثر سعادة حين ترقص للطلاب، أو في الساحات العامة. لهذا أيضاً، شدّتها روسيا دائماً، وعادت إليها بعد بدء الثورة البلشفية، كانت تقول: مع ثورةٍ كهذه، يمكن لفني أن ينمو ويزدهر. وفي موسكو، تعرفت بالشاعر العظيم، سيرغي يسينين، وتزوجته، وهي التي كانت رافضة فكرة الزواج، كونه يعيق حرية المرأة.
ميلها إلى الشيوعية جعل أميركا ترفضها، وتحاول التعتيم على سيرتها. والمفارقة أن الفيلم الوحيد عن حياتها الزاخرة بالأحداث، قامت ببطولته الممثلة البريطانية فانيسا ردغريف، والتي هاجمها طويلاً اللوبي الصهيوني في هوليوود، لانحيازها للقضية الفلسطينية، وقد أنتجت فيلماً وثائقياً أظهرت فيه الوحشية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين والعرب.
أتخيّل الآن: لو كانت إيزادورا في زماننا، هل كانت ستقف مع الثورات العربية، وهي التي قالت، في رحلة لها إلى مصر، إن روح العالم ستنبثق من الشرق أيضاً، كما انبثقت من الأولمب. أظن أنه لم يكن لأحد أن يسمع بها، ففانيسا ردغريف الواضحة المواقف، قلما يسمع بها أحد حالياً، ولم يستفد من مواقفها أحد من عرب الثورات، ولا شكّلت، مثلاً، لدى فناني الاستبداد وأنظمة القتل العسكرية والدينية.
العربي الجديد