اتفاق جنيف : تسوية بافتراض فشل الثورة: سمير سليمان
سمير سليمان
كان التشكيك في الإتفاق الروسي – الأمريكي لعقد مؤتمر دولي , من أجل ترسيم المرحلة الإنتقالية لإنهاء الصراع في سورية , هو رد الفعل الأسرع الذي تلى الإعلان عنه . والتصريحات التي صدرت عن طرفي هذا الإتفاق , عقب هذا الإعلان , هي مابررت كل الشكوك وانعدام اليقين بجدية هذا الإتفاق وجدواه . وهي شكوك عبر عنها معظم المراقبين السياسيين وكتبة الصحافة ومتابعي الشأن السوري . والسوريون على وجه الخصوص , بحكم وضعهم في عين العاصفة على مدى زمني تجاوز السنتين , هم أكثر الأطراف تشككا في هذا الإعلان , وفي جدية أصحابه ونواياهم . وليس هذا سوى نتيجة لما خبروه وعانوه , من إنعدام الجدية لفرض حل سياسي عند أصدقاء ثورتهم , إنعدام يصل لحدود التواطؤ , يقابلها جدية فائقة لقمع الثورة بالعنف عند أعدائهم تصل لحدود الإبادة . ولايشمل هذا التوصيف القسم الأكبرمن المعارضة السياسية الرسمية , التي تتلمظ شهوة لرؤية حل سياسي ما , لاتفعل شيئا حقيقيا لتساهم فيه , بل تنتظره يسقط من سماء الإتفاق الدولي كما يسقط المطر .
وكما هو متوقع , يذهب معظم هؤلاء المشككين , إلى تبرير شكوكهم على خارطة المصالح الدولية , وتناقضاتها , وانتفاء مساحات التقاطع في تلك المصالح , مما يجعل التسوية السلمية غير ناضجة إجرائيا . ولكن مايلفت النظر , هو إغفال دور الصراع المسلح الدائر بين قوى الثورة من جهة , والقوى المناهضة لها من جهة أخرى , وما يتسم به هذا الصراع من تناقض وجودي في الإرادات , ومن إقتناع شديد بالرهانات المستحيلة التلاقي , في لحظة الصراع الحالية . بمعنى آخر , لايمكن لحل سياسي ان يحظى باحتمالات التحقق في ظل قناعة سائدة عند طرفي الصراع بإمكانية إلحاق الهزيمة بعدوه , وبالضرورة القصوى لتحقيق الإنتصار عليه على الأرض , من أجل إستثمار هذا النصر سياسيا . أما إحتمال أن يكون طرفا الصراع قد توصلا إلى الإقتناع بلاجدوى الإستمرار بالقتال , فهذا يبدو أبعد من إحتمال استمرار الصراع حتى الإنهاك التام للنظام والمجتمع السوري على حد سواء .
ويبدو لنا في الواقع , أن جوهر الإتفاق بين الأطراف الدولية , والمسمى إتفاق جنيف , هو تحميل الشعب السوري , مرة أخرى , الثمن الباهظ لعدوان النظام عليه , بعد أن دفع من حريته ودمه , عبر نصف قرن , ثمن وجود هذا النظام , ودفع مرة أخرى الثمن الباهظ خلال السنتين الماضيتين , في محاولته إنتزاع حريته وكرامته من الأذرع الأخطبوطية الخانقة لهذا النظام . إذن , يطلب الأطراف الدوليون أصحاب الإتفاق , من الشعب السوري الآن , أن يدفع مرة ثالثة ثمنا غاليا لما فعله النظام به من قتل وتدمير . إتفاق جنيف هو جوهريا , بصيغته الراهنة , عقابا للشعب السوري على إخفاقه في الإنتصار على النظام , عقابا يتمثل في الطلب منه نسيان كل مالحق به من دمار وموت , من جهة . وهو , من جهة ثانية , عقابا لبشار الأسد في إخفاقه بقمع الثورة رغم كل الفرص والدعم الذي أتيح له , عقابا يتمثل بإنقاذ رأسه من المقصلة مقابل الطلب منه التنازل عن بعض أو كل صلاحياته . والفارق بين ” بعض ” الصلاحيات و” كل ” الصلاحيات , هو الفرق المحدد بين جماعة ” هيئة التنسيق ” وأشباهها , وبين بقية المعارضة السياسية بكل أطيافها , الديموقراطي والإسلامي .
فاتفاق جنيف إذن , بكل تفسيراته , لايعكس رغبة السوريين الثائرين , الذين يطالبون بالقصاص العادل لمن ارتكب بحقهم جرائم الإبادة الجماعية , وهو مطلب عادل بكل مقاييس العدالة الإنسانية , وإنما يعكس قبل كل شيء , رغبة الأطراف الدوليين والإقليميين , باستثمار مايبدو وكأنه فشل للثورة في تحقيق انتصارها .
هل فشلت الثورة فعلا ؟ وأليس من المبكر الحكم عليها في هذه اللحظة من تطور الصراع ؟
إن تحقيق إنتصار عسكري على الأرض , يؤسس مناخا صالحا للتسوية السياسية التي ترضي الأغلبية السورية الثائرة , أصبح ضرورة ملحة للثورة .
ذلك أن إتفاق مايسمى جنيف 2 لايعبر عن توازن الطاقة الصراعية للطرفين في الداخل السوري , بقدر ماهو
إنعكاس لتوازن سياسي خارجي بالنسبة لساحة الصراع , وليس انعكاسا لتوازن القوى على الأرض في الساحة السورية . وإذا كان من الصحيح تماما أن تسوية سياسية لاتتحقق إلا بشرط التوافق الدولي , فليس صحيحا أن التوافق الدولي وحده يشكل شرطا كافيا لتسوية سياسية . فالتسوية لاتتم وتستمر بنجاح , إذا لم يتطابق هذا التوافق الدولي مع توازن يتناسب معه في قوى الصراع على الأرض . وهذا الشرط لايتوافر اليوم في سورية , ولذلك لن يتخلى الروس ولا الإيرانيون عن بشار الأسد في توازن القوى الراهن , كما أن الأمريكيين والأوروبيين يبدون ترددا وضعفا يفرضه عليهم التناقض بين أجنداتهم وأجندة الثورة التي يدعون تأييدها . فهم لايريدون الإطاحة ببشار الأسد ونظامه , ولكنهم لايستطيعون في الوقت ذاته تمرير أية تسوية سياسية بدون موافقة السوريين أصحاب الفعل الحقيقي على الأرض , وهؤلاء السوريون , يرفضون بحق , الإقرار ان ثورتهم فشلت , وليسوا مستعدين بالتالي للتنازل عن شرطهم الأساسي في تنحي النظام بكل رموزه , وإحالة مجرميه إلى المحاكمة . فهذا مطلب سيبقى قائما طالما لم يتحقق , بغض النظر عن إعلان أية تسوية لاتتضمن ذلك , وبغض النظر أيضا , عن تنازلات المعارضة السياسية .
يستمر النظام السوري في وجوده على دعامات حلفائه الخارجيين , وقد دفع للمعركة كل مالديه , وكل مايمكن لحلفائه أن يساعدوا به , وقد وصل إلى سقف حدود قوته , ولايملك آفاقا جديدة لمستويات أعلى في القدرة القتالية . أما الثورة فلم تستنفذ آفاقها , ولكنها بحاجة لتوحيد صفوفها , وتصويب قيادتها , ودعم في التسليح يمكنها من تحقيق إنجازات عسكرية هامة تشكل شروطا جديدة لتسوية قائمة على الإعتراف بانتصارها , فلا تجد بالتالي مبررا لقبول اتفاق يشبه الإعتراف بالفشل , والتخلي عما قامت من أجله في إسقاط النظام , وخصوصا بعد إنكشاف هذا النظام على بنية , ليست فقط استبدادية فاسدة , بل بنية فاشية لاوطنية لاترى عدوا لها سوى الشعب السوري ذاته . فلا نرى بالتالي حظوظا لأية إتفاقية بالنجاح إذا لم تشترط تلك الإتفاقية تقديم رموز هذا النظام ومجرميه للقصاص العادل . إلا إذا أريد لهكذا إتفاق أن يكون تأسيسا لحروب طائفية صغيرة لاتنتهي .
على هذا الأساس , تشكل الثورة السورية , في لحظتها الراهنة , عقبة صعبة الإجتياز لطرفي الإتفاق , فحلفاء النظام يريدون أن يتضمن هذا الإتفاق مايعجزون عن ضمان تحقيقه بالقوة العسكرية , و” أصدقاء الشعب السوري ” يريدون منه القبول باتفاق يعكس إقرارا بفشل ثورتهم , في حين يرى السوريون أن موتهم الذليل يكمن في القبول باستمرار هذا النظام ورموزه , ولأنهم لا يستطيعون قبول ذلك , سيكون عليهم كسر هذا التوازن القائم باتجاه المزيد من تحقيق الإنجازات الميدانية في صراعهم مع النظام وحلفائه .
من هذا الواقع , سيترتب على أمريكا وحلفائها الأوروبيين , عندما يمتلكون الرغبة والإرادة في طرح أية تسوية سياسية , القبول بضرورة تسليح المعارضة السورية لتحقيق إنجاز عسكري يمكن استثماره في تسوية سياسية يرغم حلفاء النظام على قبولها , تسوية ترتكز على إنجازات محققة للثورة , وليس على فشلها .
خاص – صفحات سورية –