اتفاق موسكو … بداية الحل أم انقلاب أميركي على الثورة؟
وحدة تحليل السياسات في المركز
قام وزير الخارجية الأميركي جون كيري بزيارة هي الأولى له إلى موسكو منذ توليه منصبه الجديد في الولاية الرئاسية الثانية لباراك أوباما، وأجرى خلالها مباحثات مطوّلة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ووزير خارجيته سيرجي لافروف تركزت على الأزمة السوريّة. وقد أسفرت الزيارة عن اتفاق الطرفين على استعجال الحل السياسي للأزمة عبر عقد مؤتمر دولي موسع حول سورية يكون متممًا لمسار إعلان جنيف، وتحضره، فضلًا عن روسيا والولايات المتحدة، الأطراف الإقليمية والدولية الفاعلة في الأزمة السوريّة بما فيها إيران، إلى جانب طرفي النزاع الرئيسين (النظام والمعارضة). فما الذي دعا كيري لزيارة موسكو بحثًا عن حل سياسي في هذا التوقيت؟ وما الذي تأمل واشنطن وموسكو تحقيقه من هذا المؤتمر؟ وما الذي تغيّر في الموقف الأميركي حتى تقبل إدارة أوباما حضور أطراف جرى استبعادها في لقاء مجموعة العمل حول سورية التي أقرت إعلان جنيف العام الماضي (أي ايران والنظام السوري)؟ وهل قبلت واشنطن بالتفسير الروسي للاتفاق المذكور؟ وهل زالت جميع العقبات التي كانت تعترض تنفيذه؟
أوباما المأزوم يبحث عن حل في موسكو!
جاءت زيارة كيري إلى موسكو إثر الضغوط المتزايدة التي أخذت تتعرّض لها إدارة الرئيس أوباما داخليًا وخارجيًا لتبنّي سياسة أكثر وضوحًا وفاعلية على خلفية التطورات الميدانية الأخيرة في سورية، وأهمها استخدام النظام السوري للأسلحة الكيماوية، ودخول إيران وحزب الله بشكل مباشر في الصراع إلى جانب بشار الأسد، واتخاذ الأزمة منحى أكثر تعقيدًا وخطورة بعد العدوان الإسرائيلي الأخير على مواقع عسكرية في دمشق وقربها.
وكان الرئيس أوباما اعتبر السنة الماضية أنّ استخدام النظام السوري للأسلحة الكيماوية يشكل خطًا أحمر سوف يستتبع بالضرورة تغيرًا في قواعد اللعبة؛ ما فسّره الكثيرون على أنّه تهديد بعمل عسكري أميركي ضد النظام. وقد أبلغ الأميركيون هذا الموقف إلى الجانب الروسي الذي يبدو أنّه قدّم ضمانات لواشنطن بأنّ حليفه – أي النظام السوري – لن يلجأ إلى استخدام هذه الأسلحة.
لكن استخدام النظام السلاح الكيماوي في غير مكان في سورية لوقف تقدّم قوى المعارضة سبَّب حرجًا كبيرًا لكل من الروس والأميركيين على السواء. وعلى الرغم من أنّ واشنطن حاولت التملّص من التزاماتها بسبب خرق النظام “خط أوباما الأحمر” عبر التشكيك في صحة التقارير التي تحدثت عن استخدامه السلاح الكيماوي، فإنّ الأمر غدا بالغ الصعوبة مع تزايد الأدلة على حصول ذلك، إلى أن اضطرت الخارجية الأميركية والرئيس أوباما نفسه للاعتراف باستخدام السلاح الكيماوي. حاول الروس من جهتهم التملّص من الإحراج الذي وضعهم به النظام بإلقاء اللوم على قوى المعارضة.
ومما زاد من حدة الضغوط على إدارة أوباما دخول إيران وحزب الله بشكل مباشر في الأزمة السوريّة؛ فعلى الرغم من أنّ دعم إيران وحزب الله للنظام السوري لم يكن خافيًا على أحد منذ بداية الثورة، فإنّ خروج هذا الدعم إلى العلن وبطريقة مباشرة خلال الأسابيع الأخيرة شكّل تحديًا كبيرًا لحلفاء الثورة للقيام بفعل شيء ما في المقابل. فحزب الله أرسل مئات من عناصره للمشاركة مع قوات النظام في استعادة مناطق حيوية في محافظة حمص، وبخاصة في منطقة القصير، وزادت إيران وجودها العسكري في سورية بعد أن أعلنت أنّها لن تسمح بسقوط النظام. كلُّ ذلك زاد الضغوط على الرئيس أوباما الذي ظل يرفض تزويد المعارضة السوريّة بالسلاح، ويحث حلفاء الثورة الإقليميين على اتخاذ الموقف ذاته.
مكّن دعم إيران وحزب الله النظام السوري خلال الأسابيع الأخيرة من تحقيق اختراقات عسكرية في مناطق مختلفة من ريفيّ دمشق وحمص، كما استطاع فك الحصار عن معسكري وادي الضيف والحامدية في ريف إدلب، وتجددت محاولاته لاستعادة السيطرة على بلدة معرة النعمان الإستراتيجية على الطريق بين دمشق وحلب. وينذر هذا التدخل من حلفاء النظام بدخول قوى إقليمية أخرى لها مصالح كبيرة على خط الأزمة في سورية، ما ينبئ بأنّ الصراع ربما بدأ يخرج عن نطاق السيطرة، ويتحول إلى مواجهة إقليمية كبرى تقلب الحسابات الأميركية.
لقد دفعت هذه التطورات الرئيس أوباما إلى الإعلان أنّه بصدد إعادة النظر في موقفه من تقديم مساعدات عسكرية للمعارضة، فيما رفض الصيف الماضي توصيات من مختلف أركان إدارته – مثل الخارجية والدفاع والاستخبارات – لتسليح المعارضة السوريّة بحجة الخشية من وقوع هذه الأسلحة بأيدي قوى متطرفة في الثورة السوريّة. ويبدو أنّ هذا الاعلان موجّه إلى روسيا أكثر من كونه يعدّ تغييرًا في سياسة إدارته. وكأنّما أراد أوباما أن يقول للروس إنّه ربما يضطر إلى تغيير موقفه نتيجة الحرج الشديد الذي تعرّض له بعد خرق التعهدات بعدم استخدام النظام للأسلحة الكيماوية، وعدم قيام موسكو بما يكفي للجم التدخل الإيراني المتزايد في الشأن السوري.
وجاءت زيارة كيري إلى موسكو لتأكيد هذا الموقف؛ أي إذا لم تقم روسيا بممارسة المزيد من الضغوط على النظام وحلفائه لتسهيل الحل السياسي، فإنّ واشنطن ستجد نفسها مضطرة للبدء بتزويد المعارضة السوريّة بأسلحة تؤدي إلى تغيير ميداني يجبر الأسد وحلفاءه على إعادة النظر بخيار الحل العسكري للأزمة.
العودة إلى جنيف لمنع الانهيار الشامل
منذ إعلان جنيف في 30 حزيران/ يونيو 2012 أوكلت إدارة أوباما مهمة إيجاد حل سياسي للأزمة السوريّة إلى موسكو من دون أن تبدو في عجلة من أمرها. فالولايات المتحدة وعلى الرغم من رغبتها في رحيل الأسد، فإنها لم تخف يومًا أنّها لا تريد انهيار نظامه، أو وصول قوى إسلامية متشددة إلى السلطة في دمشق. كما أنّها ظلت إلى وقت قريب تعتبر أنّ الوضع السوري تحت السيطرة ما دام الصراع محصورًا في حدود سورية ويجري حسبما يعتبره بعض منظّريها على شكل حرب بين “قوى الشر” – أي بين متشددين سنة في مواجهة متشددين شيعة- لا مصلحة لواشنطن في وقفها أو في دعم أحد أطرافها. وباعتباره كذلك، لم يشكّل الصراع السوري أولوية في ظل انشغال واشنطن بملفات إقليمية ودولية أكثر أهمية؛ فإدارة الرئيس أوباما ظلت تؤكد على تهيئة الأجواء للانسحاب من أفغانستان مع نهاية العام المقبل، ولهذا فهي تحتاج إلى دعم روسي وعدم عرقلة إيرانية. كما أنّ واشنطن التي تركز في منطقة الشرق الأوسط على ملف إيران النووي، وكذلك على مصالحها المتنامية في شرق آسيا بما فيها التوتر المتصاعد في شبه الجزيرة الكوريّة، لم تجد أولوية كبيرة لسورية في دائرة اهتماماتها. لكنّ جزءًا من هذا المشهد تغيّر على نحوٍ دفع إلى استعجال عقد مؤتمر دولي جديد لحل الأزمة السوريّة.
شكلت العوامل التي ذكرناها آنفًا مدخلًا لنشاط دبلوماسي أميركي أكبر باتجاه الاتفاق مع روسيا على تحريك الجمود المسيّطر على الوضع السوري منذ الصيف الماضي؛ فاستخدام النظام للسلاح الكيماوي، والخشية من سيطرة جماعات معارضة – لا تُكنُّ الودّ لواشنطن وإسرائيل – على هذا السلاح، وهي مخاوف عززتها مزاعم كارلا ديل بونتي، عضو لجنة الأمم المتحدة للتحقيق بانتهاكات حقوق الإنسان في سورية، حول احتمال استخدام المعارضة للسلاح الكيماوي، بالإضافة إلى تزايد التدخلات الإقليمية في الأزمة السوريّة، كلّ ذلك دفع الإدارة الأميركية للتوجه من جديد إلى موسكو للحيلولة دون انهيار شامل للوضع في سورية والمنطقة.
مع وصول كيري إلى موسكو، كانت التسريبات من داخل إدارة اوباما تروّج إلى أنّ هذه الزيارة تمثل الفرصة الأخيرة لإقناع موسكو بتغيير موقفها من الأزمة السوريّة قبل أن تتبنى واشنطن خيار الدفع باتجاه حل عسكري للصراع عبر تسليح المعارضة يجري الإعلان عنه عشية قمة دبلن في أيرلندا بين الرئيسين بوتين وأوباما. فزيارة كيري كانت تهدف – بحسب أوساط رسمية أميركية – إلى اختبار جدّية موسكو ومدى استعدادها للضغط على النظام السوري للعمل باتجاه حل سياسي، أو الولوج إلى خيارات أخرى تؤسس لانخراط أميركي أكبر في دعم الثوار في سورية ودراسة الخطوات العسكرية المناسبة للرد على استخدام السلاح الكيماوي. وقد شجع على توقع سلوك هذا الاتجاه أنّ مجلس الشيوخ الأميركي كان يناقش اقتراحًا بتسليح المعارضة السوريّة في الوقت الذي كان يستعد فيه كيري للذهاب إلى موسكو.
بناءً على ذلك، توصل الطرفان الأميركي والروسي إلى اتفاق يسمح بالعودة إلى إعلان جنيف وتجاوز إشكالية التفسيرات المختلفة التي حالت حتى الآن دون تطبيقه عبر تحديد مصالح مشتركة تشكّل مدخلًا لحل الأزمة. فقد صرح كيري في مؤتمره الصحفي المشترك مع نظيره الروسي: “أنّ ما هو محوري الآن هو أنّنا – أي واشنطن وموسكو – سنتعاون على تطبيق إعلان جنيف، والنظر إلى مصالحنا الإستراتيجية التي تشمل مكافحة التطرف والإرهاب وتفادي تفكك سورية”.
لقد شكّل التفاهم الروسي الأميركي اعترافًا دوليًا بأنّ النظام السوري لن يبقى، وأنّ تغييره يجب أن يجري بوسائل سياسية، لأن العودة إلى الوراء ببساطة غير ممكنة، وإنّ استمرار تدهور الوضع قد يؤدي إلى انهيار شامل ليس في سورية فحسب، بل في عموم المنطقة أيضًا.
موقفا النظام والمعارضة وإمكانيات تطبيق الحل
تلقف النظام السوري اتفاق موسكو سريعًا على طريقته – وبخاصة أنّه يدعوه للمشاركة في المؤتمر المقترح – معتبرًا أنّ ذلك يشكل انتصارًا لمنطقه الداعي إلى “الحوار” لحل الأزمة وتراجعًا أميركيًا عن الدعوة لرحيل الأسد كشرط مسبّق للبدء بأي عملية سياسية. كما رحب النظام بقبول الأميركيين دعوة إيران لحضور المؤتمر، واعتبر أنّ ذلك يعدّ تعزيزًا لمواقفه وإقرارًا بدور حليفته طهران في حل الازمة.
أما المعارضة فقد جاء موقفها متضاربًا ومرتبكًا كالعادة؛ إذ رفض بعض رموزها اتفاق موسكو، واشترطوا رحيل الأسد كمقدمة لأي حوار، في حين تقبّل آخرون الاتفاق بوصفه أمرًا واقعًا حتى قبل تبيُّن تفاصيله. وقد دلّت ردود الفعل المتباينة وغير المدروسة أنّ معظم أطياف المعارضة قد تفاجأت بالاتفاق، وبخاصة أنّها كانت تعدّ نفسها لتلقي مزيد من المساعدات الأميركية وتنتظر قرارًا من إدارة أوباما يرفع الحظر المفروض على تقديم السلاح إليها بعد الليونة التي أبدتها واشنطن بهذا الشأن بعد التأكد من خرق النظام للخط الأحمر المتمثل باستخدام السلاح الكيماوي.
ومع ذلك، فإنّ المواقف الظاهرية لكلٍ من النظام والمعارضة لا يجب أن تحجب حقيقة وجود عقبات كبيرة تعوق تنفيذ إعلان جنيف، يتمثل أهمها بالآتي:
1. رفض بشار الأسد التنازل عن سلطاته لحكومة انتقالية مشتركة كاملة الصلاحيات، ورفض الأجهزة الأمنية والجيش منح الولاء لمثل هذه الحكومة والخضوع لأوامرها طالما بقي بشار الأسد موجودًا.
2. فشل المعارضة السوريّة في تقديم رؤية موحدة لطبيعة المرحلة الانتقالية، وعدم وضوح قدرتها على تنفيذ أي اتفاق يجري التوصل إليه خلال المفاوضات في ظل حالة الانقسام والتشرذم التي تعيشها على الصعيدين السياسي والميداني.
وحتى إن أمكن تجاوز مثل هذه العقبات، فإن الحل الدولي يفرض جملة من المخاطر أهمها: وقوع سورية تحت الوصاية الدولية، واحتمال فرض نوع من المحاصصة الطائفية على غرار ما حصل في العراق بعد الغزو الأميركي، وهو أمر لا يمكن تفاديه إذا لم يتفاهم السوريون على ضرورة تغيير نظام الحكم في بلادهم والانتقال إلى نظام ديمقراطي تعددي؛ لأنّ استمرار الصراع وتحوّله إلى صراعٍ بين جماعات، سوف يدفع كل طرف إلى البحث عن تحالفات خارجية ضد الطرف الآخر، وهو ما يؤدي إلى فرض تسويات بوصاية دولية تتضمن المحاصصة التي حذرنا منها.