ارتحال الحكايات/ ممدوح عزام
تنفرد الحكايات من بين الفنون بقدرتها على الارتحال، والأفضل أن نقول قابليتها. وهي تتجاوز في العادة الحدود السياسية والجغرافية، وقلّما تحتاج إلى جوازات المرور. والمرجّح أن تكون الحكايات الشفهية هي الأكثر قدرة على القيام بهذا الارتحال الحر، لأنها تستطيع تجاوز قوانين المراقبة التي قد تقوم بها الحكومات لمنع تسرّب الأفكار الأجنبية، أو تلك التي يسميها مثقفو الأنظمة: الأفكار المستوردة.
وبفضل هذه الحرية في الترحال، تمتلئ الحكايات بآثار الديانات والفلسفات والعقائد لأبناء البلاد المتاخمة للحدود جغرافياً وحضارياً، بقدر امتلائها بمثيل ذلك من فلسفاتها وعقائدها- كما يقول فاروق خورشيد صاحب كتاب “عالم الأدب الشعبي”.
وأهمّ ما يميّز تلك الحكايات أنها ترفض الانعزال، والفكر الانعزالي. فالحكايات لا تقدّم في ارتحالها الحرّ بين الحدود الجغرافية والتاريخية ثقافات الشعوب بعضها لبعض وحسب، بل تعمل على ترسيخ قيم إنسانية كبرى هي: قوّة الكلمة وقدرتها على تجاوز الممنوع. تبادل الخيال بين الشعوب. التسامح والتفهّم والمرونة والاستعداد لاستقبال حكايات الآخر من قبل الشعوب المرسلة والمستقبلة.
ربما كانت “ألف ليلة وليلة” واحدة من أكثر الحكايات حضوراً لامتلاك هذا التجاوز الذي لا يعترف بالحدود السياسية أو الثقافية أو العرقية. وسبق أن قال بورخيس (نقلاً عن عيسى مخلوف في كتاب “الأحلام المشرقية”) إن عنوانها من أجمل العناوين في العالم، وقدّم ملاحظات هامة عن أثرها في الآداب الغربية، وفي نتاج كتاب لامعين هناك (يكشف بورخيس أن رواية لويس كارول “أليس في بلاد العجائب” كُتبت بتأثير من “ألف ليلة وليلة”).
لكن إذا كانت “ألف ليلة وليلة” تمثّل حواراً بين الشرق والغرب، كما يقول بورخيس أيضاً، فإنها مثّلت ذات يوم حواراً آخر بين الشرق والشرق، حين كان تبادل الحكايات، لا الحروب، والمعارك، والتدمير، هو عنوان العلاقات بين الشعوب. غير أن الواقع اليوم، لا يشير إلى استمرار الحوار، بل إلى انقطاعه، وتحوّله إلى لحظات العداء.
اللافت أن أطرافاً عديدة في الثقافة العربية، تتخذ موقفاً متناقضاً من الليالي، فهي تعلن عن اعتدادها وفخرها بـ”ألف ليلة وليلة” التي تركت أثراً كبيراً في المخيّلة الأدبية على الصعيد العالمي، غير أنها في المقابل، لا تسجّل اختراقات ذات قيمة في العناية بها. بل إن أكثر البلدان تمزيقاً في النسخ المطبوعة من تلك الحكايات، هي البلدان العربية؛ أي تلك التي ينتمي إليها مؤلّفو تلك الحكايات البديعة.
وما نتحدّث عنه هنا هو عن الثقافة الرسمية التي تملك مفاتيح الرقابة والسماح بالنشر. بينما كانت الشعوب العربية قد استقبلت تلك الحكايات بكثير من التسامح، وتفاعلت معها، وأعادت إنتاجها، ومنحتها نكهتها العربية، وتفاصيل الأحداث فيها.
وقد يكون الموقف من الليالي حكماً في التعرّف إلى لون الثقافة العربية التي تنتجها الأنظمة، أو التيارات المتشدّدة في المجتمع، مثلما تكون حكماً في مدى استعدادها للحوار مع غيرها من الشعوب. ذلك أن ألف ليلة ليست مجرّد حكاية عن شهرزاد وشهريار، بل هي عنوان على الكيفية التي تتفاهم بها الشعوب داخل أروقة الخيال.
العربي الجديد