استئناف التاريخ عربياً
ماهر الجنيدي *
كأن القدَر كان يتواطأ مع التاريخ في سيدي بوزيد ليوجّه الضربة القاضية لنظريّة «نهاية التاريخ»، التي جاء بها فرانسيس فوكوياما، الأميركي الياباني الأصل، في أعقاب انهيار الكتلة الاشتراكية، أوائل التسعينات، مبتسراً بكثير من السذاجة ماركس وهيغل بقوله إن «التطور المضطرد للمجتمعات البشرية لا يسير إلى ما لا نهاية، وإنما هو محكوم بتوصل الإنسان إلى شكل محدد لمجتمعه يرضي احتياجاته الأساسية، وعندما يتم التوصل إلى هذا الشكل يتوقف التطوّر، أو بمعنى آخر يتوقف التاريخ».
خصّص فوكوياما كتاباً لشرح موضوعته في شأن «نهاية التاريخ»، ملخّصاً فكرته بعبارة: «لا أقصد توقف استمرارية الأحداث أو تواترها، حتى الضخم أو المروع منها، وإنما توقف التاريخ كما أفهمه ويفهمه الكثيرون غيري باعتباره تجربةً بشرية تتطور بشكل متصل ومتماسك».
والحال أن فكرة «نهاية التاريخ» باتت على مدار العقدين الماضيين الناظم الخفي وراء سلوك النظم عموماً، وليس العربية منها فحسب، التي اطمأنّت إلى الفكرة، وركنت إليها، فأرادت أن تتلمّس سبل حجز مقعد لها في قطار التاريخ بمساره الناجز المنتهي، الخالد المخلّد. فلجأت هذه الحكومات، في ما لجأت، إلى منهجية الاستعانة بما يسمى «بيوت الخبرة» العالمية، مثل: «ماكينزي آند كومباني»، و «برايس ووتر هاوس كوبرز»، وما شابه، ليس لمساعدتها فحسب في وضع استراتيجيات لحوكمة بعض الهيئات والمؤسسات الحكومية، وإنما في كثير من الأحيان لتعهيدها رسم الخطط الاستراتيجية للدولة بكاملها، على مختلف قطاعاتها الاقتصادية والاجتماعية والأمنيّة، والدفاعية أحياناً.
نتلمّس هذه المنهجية وذلك الناظم في دول عديدة، من أقصى شرق المعمورة، مروراً بسنغافورة وماليزيا وفيتنام والصين وبدول عربية خليجية وغير خليجية، وبدول ومقاطعات أوروبية، وصولاً إلى دول وولايات أميركية، غرب المعمورة.
والواقع أن «بيوت الخبرة» تعاملت مع المعضلات المعروضة أمامها، وفي كل حالة على حدة، بمنتهى الاحترافية. فتناولتها على أنها مسائل مثلّجة، وردت في ورقة امتحانات جامعية، لتقدّم بالنهاية مجموعة متكاملة قدر الإمكان من الحلول الأكاديمية التكنوقراطية، مدروسة من حيث الجدوى الاقتصادية، مشفوعة بجداول ومخططات بيانية عن مكامن القوة والضعف وعن الفرص والمخاطر، أو SWOT، كما يصطلح عليه في عالم الأعمال.
أدركت بعض الدول القصور التي يعتور هذه الدراسات، فبادرت إلى إنشاء «مستوعبات فكرية» مساندة، تتلمس الواقع الاجتماعي والاقتصادي عن كثب، كي تقدّم اقتراحاتها ودراساتها في شأن ما تتطلبه الخطط الاستراتيجية من تعديل أو تدقيق. إلا أن السويّة الأكاديمية والتكنوقراطية العالية التي قدمتها «بيوت الخبرة»، ورغم كل جهودها التي بذلتها للاعتماد على مؤشرات وبيانات واستقصاءات ومسوحات تجريها هذه المؤسسة البحثية أو تلك، فقد ظلّت في حدودها العاجيّة الضيقة، التي تنفصل بلوح زجاجي بارد سميك عن قوى المجتمع المدني. ينطبق هذا كثيراً على البلدان العربية، التي جنت منها «بيوت الخبرة» أموالاً طائلة لقاء دراساتها وخططها. وإذا حظيت بعض الدول المذكورة، بفضل قدرتها على الإنفاق، بنسخة أصيلة من هذه الدراسات، أعدت خصيصاً لواقعها، فإن دولاً أخرى استنسخت التجربة استنساخاً مجتزءاً، لتسفر النتائج عن خطط شوهاء لا تخلو من بعض البلاهة. والتجربة الاقتصادية الاجتماعية السورية، المحكومة بتحالف سياسي مالي أمني، شكّلت خلال العقد الماضي، إلى جانب التجربة التونسية، مثالاً واضحاً عن هذا الاستنساخ.
والصفعة التي تلقّاها البوعزيزي فدفعته إلى إحراق نفسه تحوّلت في الواقع إلى صفعة لمجمل هذه الخطط، حين تمخّضت عن شعار «الشعب يريد». و «الشعب الذي يريد» لا يعرف الكثير عن «برايس ووتر هاوس كوبرز» أو غيرها، وربما لم يسمع عنها أساساً. وإذا كانت بعض قيادات هذا «الشعب الذي يريد» تمتلك تجربة في التواصل الاجتماعي وبناء المؤسسات ونماذج الأعمال وخطط الشركات، فإن الدوافع الأساسية لهذه القيادات كانت الحرية والكرامة، بكل ما تمتلكه هاتان الكلمتان من أبعاد اقتصادية وسياسية واجتماعية وأمنية ودفاعية.
انطلقت «الشعب يريد» لتتخطى الحدود وتصل بلدان عربية عديدة من المحيط إلى الخليج، بل تخطّت تابوهات السياسة والأمن لتصل إلى قلب تل أبيب، ولعلّها كانت تُنطق بالفارسية أثناء انتفاضة الشعب الإيراني السلمية، في 2009، والتي قوبلت بسياسة أمنية دموية شرسة. إلا أن المدهش حقاً هو انتقالها عبر البحار. فليس من دون مغزى عبور عبارة «الشعب يريد» مضيقَ جبل طارق إلى قلب مدريد، وعبورها مؤخراً أوقيانوس بحر الظلمات إلى نيويورك، وإلى وول ستريت تحديداً، بما تمثّله من «هيكل» أو «قدس أقداس» للنظام الرأسمالي.
بالطبع، لا يقتصر تهافت نظريّة فوكوياما حول «نهاية التاريخ» على تأكيده أن «لا تقدّم أو تطور بعد اليوم في ما يتعلق بالمبادئ والمعتقدات والمؤسسات»، فثمة جوانب عديدة أخرى. لكن وبالمقابل، يبدو من باب النكتة السياسية، وإلا فمن باب السذاجة، القول إن نبوءة القذافي بحلول عصر الجماهير قد تحققت، ليكون هو أول قتلاها من القادة.
لقد استأنفت الثورات التاريخ، واستأنفته من مدخل المبادئ والمعتقدات والمؤسسات تحديداً. صحيح أنها لم تئِد فكرة الاستعانة ببيوت الخبرة، فليس المطلوب منها أن تئدها في مسيرتها لوضع خطط التطور الاستراتيجي الوطنية لبلدانها، لكن ينبغي وضع هذه البيوت في موضعها الحقيقي الصحيح كاستشاري من الدرجة الثانية أو الثالثة، وأن لا تظفر بعد الآن بدور باتّ قاطع في هذه الخطط. فالشعب يريد، والقوى المجتمعية تريد، والمجتمع المدني يريد. ومن الضروري الاستجابة، إن لم يكن الرضوخ، لبيتٍ معروف ومجرّب، يمتلك باعاً طويلاً من الخبرة، ألا وهو الشعوب ومسيرة التاريخ غير المتناهية.
* كاتب سوري
الحياة