استبيان صفحات سورية حول الطائفية: ثائر ديب، راتب شعبو وياسين الحاج صالح
المشكلة الطائفية في سوريا (استبيان)
اعداد طريف الخياط
تتفاعل المشكلة الطائفية في مكونات و مجريات الثورة السورية، بشكل لا يمكن إبقائه ضمن خانة المسكوت عنه، إذ بات يهدد بتبعات سياسية و اجتماعية جمة.
و خطر الطائفية أن كان يجري تداولها في الحجرات السرية، بما يتوافق مع مصلحة النظام في كتمها، فيسهل تسخيرها لصالح ترسيخ سلطته. و مع انطلاق الثورة السورية، استخدم النظام العامل الطائفي كأحد أدواته الدفاعية و القمعية، مستفيدا من حصيلة عقود اتسمت بالتجهيل الفكري، أدت إلى إعادة إنتاج سلبية لوعي الطوائف لذاتها و وعيها للآخر،مما أدى لتغول المشكل الطائفي فخرج إلى العلن بطريقة فجة و مهددة. و بالتالي وجب القاء الضوء على حضور العامل الطائفي في السياسية و المجتمع، و بعض مسبباته، و المنابع التي تغذيه، و آثاره القريبة و البعيدة، على مستويات عدة.
من هنا كان تناولنا للشأن الطائفي، عبر عدد من الأسئلة تم توجيهها لأعلام في الفكر و الثقافة السوريين، تتباين آراؤهم من حيث أسلوب تناول المسألة، و يجمعهم الوعي بضرورة الحد من الخطر الطائفي الذي تسرب إلى الثورة و المجتمع، و بذلك نكون قد سعينا إلى تغطية طيف من وجهات النظر، غاب عنه العنصر الإسلامي حيث اعتذر الكاتب في اللحظات الأخيرة.
نتمنى للقارئ الكريم أن يستمتع بالتبحر في هذه المادة الغنية، بما تحتويه الصفحات القادمة من نقاش عميق و دقيق، فالمشكلة الطائفية، بحاجة إلى جهد فكري راهن و مستقبلي، تضطلع به الأنتلجنسيا السورية كجزء من عمل وطني بالغ الأهمية.
شارك في الاستبيان، مع حفظ الألقاب، و حسب التسلسل الأبجدي، كل من: ثائر علي ديب، راتب شعبو، ياسين الحاج صالح.
الأسئلة:
س 1: يتم تسمية الكرد باسمهم الصريح، وعندما بتعلق الأمر بالطوائف، فإن البعض يفضل، والبعض الآخر يتحاشى، الذكر الصريح للطوائف وحضورها في المعادلة السورية. ما هي محاذير الذكر الصريح للمكونات الطائفية، وما هي الموجبات التي تستدعي تسمية الطوائف بأسمائها؟
س 2: هل الثورة السورية بمكوناتها المدنية والعسكرية تأخذ أبعادا طائفية، كيف نستطيع التحقق من هذا الأمر بغياب أرقام دقيقة أو تقريبية تدعم وجهات النظر المتباينة؟
س 3: هل بالإمكان ان نعتبر أن الداخل السوري بمكونه العسكري حاليا ممهد لظهور أمراء حرب، ما هي احتمالات تطور الحالة السورية إلى حرب أهلية شاملة؟
س 4: يحتدم في العراق ولبنان، قبل الثورة السورية، احتقان سني شيعي تؤثر فيه قوى إقليمية. هل لتلك القوى دور في الساحة السورية، وهل من مصلحتها الدفع نحو تطييف الصراع، وهل ينسجم ذلك مع مصالح القوى الدولية في سوريا؟
س 5: شكلت الطبقة الوسطى حاملاً ثورياً في الربيع العربي، كيف تقيم انخراط الطبقات الاجتماعية في خارطة الحراك الثوري بمختلف أشكاله، وهل يوجد تداخل بين العوامل المناطقية والطبقية والطائفية؟
س 6: هل هناك تخوف من تشدد إسلامي يؤثر على حرية الرأي والتعبير والاعتقاد، كيف تنظر إلى هذه المسألة في سوريا ما بعد الأسد؟
س 7: كيف ترى مستقبل سوريا جيوسياسياً من حيث وحدة أراضيها، وشكل النظام السياسي الإداري المقبل، ومن حيث الفدرالية أو اللامركزية أو المركزية، وتأثير العوامل العرقية والدينية والمذهبية على شكل الأحزاب السياسية السورية؟
1- يتم تسمية الكرد باسمهم الصريح، وعندما بتعلق الأمر بالطوائف، فإن البعض يفضل، والبعض الآخر يتحاشى، الذكر الصريح للطوائف وحضورها في المعادلة السورية. ما هي محاذير الذكر الصريح للمكونات الطائفية، وما هي الموجبات التي تستدعي تسمية الطوائف بأسمائها؟
ثائر علي ديب:
لا يعترف الفكر، من حيث المبدأ، بمحاذير ترتبط بذكر أيّ شيء، سواء كان هذا الشيء الطوائف أم الأقوام أم سواها. لكن المحاذير تتعلّق بالكيفيّة التي يجري بها هذا الذِّكر، والمنطق الذي يحكمه، ذلك أنَّ الطوائف في المنطق أو الفكر الطائفي، والأقوام في المنطق أو الفكر القومي، غيرها في منطقٍ أو فكرٍ علميّ يتناول الطوائف والأقوام. المهم في الأمر، إذاً، ليس العنصر (الطائفة أو القوم…) بل العلاقات التي تربطه ببقية العناصر في بنية معينة، وقدرة الفكر الذي يدرسه على تبيّن هذه العلاقات وما يحكمها من تراتب وتحديد، واستكشاف ما لهذا العنصر من قوّة تفسيرية تُسْتَمَدُّ من علميته (التي تُقاس بمدى مضائه في اختراق الواقع وكشفه) وتاريخ استخدامه والتاريخ الذي يُستخَدم فيه الآن (بمعنى اختلاف درجة صلاحيته بل ومعناه من مرحلة إلى أخرى). وعلى سبيل المثال، فإنَّ معنى الطائفة والطائفية وما تشيران إليه في المشرق العربي يختلف أشدّ الاختلاف قبل أواسط القرن التاسع عشر عنه بعدها (انظر، أسامة المقدسي، ثقافة الطائفية: الطائفة والتاريخ والعنف في لبنان القرن التاسع عشر تحت الحكم العثماني، ترجمة ثائر ديب، دار الآداب 2005، وكذلك، مهدي عامل، في الدولة الطائفية، دار الفارابي، 1986).
من جهة أخرى، لقد ارتبط مفهوم القومية بعصر كامل من التطور التاريخي الاقتصادي الاجتماعي الثقافي دُعي “عصر القوميات”، مما جعل استخدام مفهوم القومية أمراً طبيعياً (وتقدمياً) في أوروبا طيلة ذلك العصر الذي ما إن “انتهى”، كما ينتهي كل عصر، حتى اقتربت القومية كثيراً من كونها أمراً رجعياً خطيراً وبات الدفاع عنها هناك أقرب إلى العنصرية (أمثال قومية لوبان اليمينية في فرنسا)، بل إنَّ ذلك الخطر تجسّد بالفعل في بعض الأحيان آخذاً أبعاداً كارثية عالمية المدى (قومية النازية والفاشية والحرب العالمية الثانية). غير أنَّ استعمار العالم الثالث والاضطهاد القومي الذي مورس فيه ولا يزال، أعطى دفعاً جديداً لمفهوم القومية جعله قريباً من الحرية والتحرر لا من الرجعية والاستعباد. ومقابل كلّ هذا التاريخ الزاخر الذي حظي به مفهوما القوم القومية، فإنّ مفهومي الطائفة والطائفية لم يحظيا بأيّ عصر بالمعنى السابق للكلمة، وهما أوهى وأضعف بكثير من حيث قدرتهما على التفسير والكشف، كما أنهما أضيق بكثير وأدنى إلى العنصرية.
باختصار، يبقى موجب ذكر الطوائف أن يكون هذا المفهوم ضمن إطار علمي نقدي، إطار يمارس نقده أول ما يمارس على مفهوم الطائفة ذاته. وإذا ما كان الفكر القومي أسوأ طريقة لفهم القوميات (إن كان يمكن أن يفهمها أصلاً)، فإنَّ الفكر الطائفي يتجاوزه كثيراً في أنّه أسوأ طريقة لفهم الطوائف (إن كان يمكن أن يُسَمَّى فكراً أصلاً).
راتب شعبو:
من الواضح أن الانتماء القومي يمتلك اليوم، على العموم، مشروعية وقبول سياسيين أكثر من الانتماء الديني أو الطائفي. رغم أن كلا الانتمائين لا إراديان ومفروضان على المرء بحكم المولد.
وقد يكون مرد ذلك إلى أن المرء يرث الانتماء القومي والانشداد إلى جماعة بشرية يتقاسم معها عوامل عديدة مثل اللغة والأرض والتاريخ دون أن يقتضي ذلك منه وراثة أفكار معينة ضد جماعات معينة ممن يشاركونه اللغة والأرض والتاريخ كما هو الحال بالنسبة إلى الانتماء الطائفي. بهذا المعنى يكون الانتماء القومي أرقى سياسياً. كما أنه أرقى إنسانياً ذلك أنه لا يفترض أساساً العداء لجماعات أخرى إلا في حالات صراعات عابرة جراء تضارب مصالح تتم تسويتها بشكل ما لاحقاً. أما الانتماء الديني فإنه يحدد موقفاً ثابتاً ونهائياً من جماعات أخرى بحكم طبيعة الدين التي لا تقبل المرونة في العقائد. فإما أن تكون مؤمناً أو كافراً، والإيمان عند جماعة يعني كفراً عند الجماعة الأخرى. على هذا فإن الانتماء الطائفي يورث أفكاراً وهذه الأفكار تحمل عداء وموقفاً نهائياً من جماعات دينية أخرى، وهذا ما يجعل إعلاء هذا الانتماء تخلفاً من الناحية الإنسانية والأخلاقية، وهو ما يجعل المجاهرة والذكر الصريح للطوائف محرجاً شيئاً ما ومخجلاً.
وحين يفرض الواقع الطائفي نفسه سياسياً فإن المحلل يقع بين محظورين: الأول هو إنكار الواقع، والثاني هو الحديث عن أبناء البلد بحسب منابتهم الطائفية. ولذلك يشعر المتحدث بالحرج ويحتاج إلى جواز مرور للدخول إلى موضوعه، كأن يقول إنه مضطر للحديث بهذه اللغة التي يرفضها.
من جهتي لا أرى ضيراً في الحديث عن الطوائف حين تتراكب الشروط السياسية في البلاد بما يجعل من الانتماء الطائفي عاملاً مؤثراً في السياق السياسي ويجعل من الطوائف كتلاً سياسية لا بد من إدخالها في الحسبان لفهم الواقع السياسي للبلد، ولكن المحذور هو أولاً التعامل مع هذا التراكب السياسي المؤقت كمعطى نهائي وتثبيت الطوائف ككيانات سياسية متراصة وجوهرية. وثانياً المغالاة في التحليل الطائفي بشكل يهمش عوامل أخرى أساسية في فهم اللوحة السياسية للبلد
ياسين الحاج صالح:
أمر الجماعات القومية (كرد، أرمن، و…عرب) مختلف عن الطوائف. الدولة الحديثة مبنية على المبدأ الوطني (أو القومي)، الذي ينظر إليه إيجابيا، وتسوغ جماعات إثنية أو لغوية نفسها به، وبمبدأ حق تقرير المصير الذي يترتب عليه. ويخفض هذا المبدأ نفسه من قيمة التمايزات الدينية ويحيلها إلى نطاق الخاص، ويميل عموما إلى التكتم عليها.
لكن ربما يجب أن نميز بين مطالب المعرفة، وهي تقتضي طبعا أن نسمي الأشياء بأسمائها، ونذكر ما في مجتمعنا من تمايزات موروثة وندرس تفاعلاتها ودينامياتها وصراعاتها المحتملة…، وبين مطالب السياسة العملية الموجهة نحو وحدة الشعب وبناء هوية عليا جامعة، وربما قدرا من النسيان وقدرا من التكتم. في المعرفة نُظهر ونكشف، و”نحلل” و”نفكك” و”نسبر ونقسم”، أي نفرق الظاهرة المدروسة كي نسود عليها عقليا، أما في السياسة فنستفيد مما تحصل لنا في مجال المعرفة، لكن ما يوجه عملنا هو التوحيد والجمع والتعبئة، و…النسيان.
في أوساط المشتغلين بالشأن العام في سورية مقاربتان لتناول الطائفية. مقاربة متعففة، تعتبر أن الكلام على مسلمين ومسيحيين وسنيين وعلويين… عيبا وطينا؛ ومقاربة أخرى إباحية، لا تتميز بعدم التحفظ في الكلام على الطائفية فقط، ولا بـ”اللغبصة” بأيد عارية في أحشاء مجتمعنا فقط، إنما في سفاهتها وصدورها دوما عن موقع طائفي. أهل العفة يعتبرون أن الكلام على الطائفية هو الطائفية، وأهل الإباحة يرون أن الطائفية متولدة عن وجود الطوائف بحد ذاته، وأن هناك طائفة أو طوائف شريرة (طائفتهم أو طوائفهم) وطائفة أو طوائف خيرة (طائفتنا). وعموما يفترض المتعففون أن الطائفية نتاج وجود أشخاص سيئين وطائفيين، ولولاهم لما كان هناك مشكلة، فيما يرى الإباحيون أن الطائفية نتاج وجود طوائف سيئة، فإذا تخلصنا منها “مشي الحال” وانحلت المشكلة.
ورأيي أن الطرح السليم في هذا الشأن ينضبط بمبدأ “لا حياء في العلم” الذي يطبق على تناول الأطباء أو المحللين النفسيين… للشأن الجنسي. لا مناص من تناول هذا الشأن ومن الكلام على الأعضاء التناسلية والحياة الجنسية…، لكن السياق ودور الشخص المعني يهيئ سامعيه لتوقعات وتداعيات بعيدة عن الإباحية (التلصص على نشاط جنسي أو مشاهدة فيلم بورنو مثلا)، ودون مجاملة للتعفف الذي يضر في هذا الشأن ولا يفيد. أمر الطائفية أشد تعقيدا من الشأن الجنسي لأنها بطبيعتها شأن اجتماعي عام، ولأن التعفف عن تناول الظواهر الاجتماعية يمكن أن يكون مصلحة لقوى سياسية أو اجتماعية أو نتاجا لهيمنة تحدد ما هو مقبول التفكير والنقاش فيه وما هو غير مقبول، وذلك لأسباب خاصة ولحماية أوضاع وامتيازات غير عادلة. وهذا هو الحال في سورية اليوم. يستفيد النظام من هيمنة الطرح الوطني التقليدي (عيب هالحكي يا شباب، كلنا سوريين!) كي يسدل ستارا من الصمت على ممارسات طائفية متنوعة يقوم بها ويستفيد منها. نتواطأ معه إذا ركنا إلى هذا الهيمنة.
وحين تتبين أنه ليس هناك كتاب واحد عن الطائفية في سورية كتبه سوري في الخمسين سنة الماضية (وربما منذ نشأة الكيان السوري الحديث قبل 94 عاما)، مع علمنا جميعا بأننا حيال مشكلة وطنية كبيرة؛ وحين تلاحظ أن عموم من يرفضون تناول الطائفية على نحو ما يمتنعون عن تناولها على أي نحو، أي أنهم ضد مجرد النقاش فيها وليس ضد ما يفترض أنها طرق خاطئة في النقاش، من المشروع أن تستخلص أن هذا التعفف أثر للهيمنة، هذا حين لا يكون تواطأ مع أوضاع تمييزية تناسب المتعففين .
والأثر المباشر للهيمنة هو وضع مطالب الفهم في صدام مع مطالب التفاهم الوطني أو تغليب مطالب التفاهم على مطالب الفهم (ومطالب السياسة على مطالب المعرفة على ما سبق القول). أنا لا أرى قيمة لتفاهم مبني على رفض الفهم أو نكران الحقيقة ولا أظنه يدوم، ولذلك نحن مطالبون بتطوير فهم يحيط بهذه الظاهرة بكل تفاصيلها، لكنه يعرض حساسية وطنية وإنسانية في الوقت نفسه.
تقديري أيضا أن طرح المشكلة علنا بغرض التعمق في فهمها يتوافق مع مقاومتها وتشكل جبهة اجتماعية واسعة ضدها، فيما سهّل التكتم المديد عليها من تمكنها من السياسة والمجتمع والثقافة في بلدنا مثل مرض خبيث.
إلى ذلك هناك سبب فكري إيجابي للتناول الصريح للمكونات الطائفية يتمثل في ضرورة نقل هذه الظاهرة الاجتماعية المقلقة من الشفاهي إلى المكتوب والموثق، ومن الإباحية في النطاق الخاص والعفة في النطاق العام إلى المسؤولية المعرفية والسياسية. هناك كثير من النميمة والتلطيش ومنطق الاتهام في مجال الشفاهي والخاص، وكثير من الحشمة المصطنعة في مجال العام. هذا وضع فصامي يلزم نقده وكشف منطقه والانتهاء منه. أعتقد أن المداومة عليه مهينة لنا، كمثقفين ومجتمع وبلد.
2- هل الثورة السورية بمكوناتها المدنية والعسكرية تأخذ أبعادا طائفية، كيف نستطيع التحقق من هذا الأمر بغياب أرقام دقيقة أو تقريبية تدعم وجهات النظر المتباينة؟
ثائر علي ديب:
ليست الطائفة مفهوماً بدهياً واضحاً بذاته ويمكن أن يدركه الجميع على النحو الصحيح. وهي ليست مفهوماً طبيعياً يشير إلى معطى طبيعي راسخ، بل هي مفهوم مبنيّ بناءً أو مصنوع صنعاً، لا بمعنى أنّه مُلفَّق بل بمعنى أنّ له تاريخ دنيوي ليس طبيعياً ولا إلهياً، تاريخ ولادة وتطور وموت. وهذا يعني أنّ فهمه يقتضي معرفة كيفية بنائه بتحليل هذا البناء أو تفكيكه. وهذا يحتاج إلى عدّة وأدوات، هي المنطق العلمي وما يشتمل عليه من مفاهيم قادرة على هذا التحليل والتفكيك. والطائفية في سورية، شأنها في كلّ مكان آخر، لا يمكن أن تُفهم من دون علاقتها بالسياسة والسلطة. بل إنّ الطائفة ذاتها علاقة سياسية وليست جماعة بشرية. علاقة سياسية تربط جماعة بشرية بالسلطة، وهذه الجماعة البشرية قد لا تستغرق الطائفة كلها وقد لا تقتصر على أفراد منها. وهذا ما يجعل فهم السلطة المعنية أساساً لفهم الطائفة وليس العكس. والدليل على ذلك أنَّ العلاقة السياسية المشار إليها التي تربط الطوائف بالسلطة تختلف من بلد إلى آخر. وعلى سبيل المثال، فإنّ هذه العلاقة السياسية تغزو في لبنان -الذي هو دولة طائفية مؤسّسة دستورياً- كامل البنية الاجتماعية والقوانين والدستور، فلا يظهر الأفراد في المجال العام إلا بوصفهم أبناء طوائف، ولا يمكن لمرشّح إلى البرلمان أن ينافس سوى أبناء طائفته الذين جرى تحديد عدد ممثليهم في الندوة النيابية مسبقاً؛ أمّا في سورية، فالطائفة هي علاقة ولاء تقتصر غايتها على حماية أفراد السلطة وإحاطتهم بسور من الأمن، دون أن تغزو بالضرورة كامل البنية الاجتماعية أو كامل المجال العام أو القوانين أو الدستور. ودون أن تطال كامل أبناء طائفة معيّنة أو حتى أن تقتصر عليهم. فالمهم في الأمر هو الولاء، وليس الطائفة. مع أن علاقة الولاء هذه تتحدد وتتقلّص بحسب أزمات السلطة ومآزقها. لكن الجوهري في الأمر هو أنَّ حراسة النظام والثقة بالحرّاس ليس أساسها طائفي بل أساسها المصلحة والولاء. حتى “الشبّيحة” ليسوا من طائفة واحدة، ذلك أنَّه كان من الضروري أن يكون “شبّيحة” التجار الأغنياء ورجال الأعمال وأصحاب رؤوس الأموال وزعماء العشائر من أصول ريفية متنوعة طائفياً تطال كامل سورية، خاصة مدنها. وإذا ما كانت شعبية الثورة وطائفية النظام قد أخفت حال “الشبّيحة” إلى حين، إلا أننا نعلم الآن حقيقتهم -طوائفهم ومناطقهم وأسيادهم…- وأنهم ليسوا علويين ومن الساحل فقط كما يزعم بعضهم جهلاً أو تحريضاً.
وإذا ما قصرنا الكلام على الطائفة العلوية في ظل النظام الأسدي، فإننا لن نجد أيّ شيء خاص بهذه الطائفة يتعدّى جسد النظام المباشر. فقد عانت هذه الطائفة ما عاناه السوريون جميعاً، ما عدا تلك القلّة التي تشكّل جزءاً عضوياً من النظام إلى جانب سواها من الأجزاء المنتمية إلى مختلف الطوائف. لقد عانت الطائفة العلوية، كغيرها من الطوائف، الفقر والتهميش والبطالة والهجرة والقمع وعمالة الأطفال واستغلال النساء … الخ. وعندما استقبل السوريون عموماً، وعلى رأسهم التجار ورجال الدين، حافظ الأسد قائلين: “طلبنا من الله المدد فأرسل لنا حافظ الأسد” لم يفعل “العلويون” أي شيء يزيد على ذلك. ومن جهة أخرى، فإن هذه الطائفة قدّمت كثيراً من المعارضين الذين لم يترددوا في مناوئة النظام، بل وزادوا على ذلك أنهم لم يعارضوه من منطلق طائفي، كعلويين، بل كوطنيين وباسم المجتمع السوري برمّته، بخلاف من يدعون اليوم إلى بيانات “علوية” تقف مع الثورة، مع أنها ليست في النهاية سوى بيانات متخلفة تضرّ بالثورة، لأنّ أي خطاب طائفي لا يفيد في النهاية سوى بتفعيل تلك المطرقة وذلك السندان الطائفيين اللذين عرفهما صراع الثمانينيات من القرن الماضي وسآتي إلى ذكرهما بعد قليل: مطرقة النظام الطائفي وسندان المعارضة الطائفية. وهذه دينامية مجهضة للثورة. فما بالك لو كان بعض هؤلاء الدّعاة أشبه بالكراكوزات المضحكة والمنفّرة التي لا تدور إلا حول أوهامها أو مخاوفها الخاصة وهي تتنطح لتمثيل طائفة تخترقها التناقضات والصراعات والهويات التي لا نهاية لها شأنها شأن أية طائفة أخرى؟
بهذه المعاني، نعم للثورة السورية بعدها الطائفي. وباختصار، الطائفية في سورية تابعة للديكتاتورية وتتحدد بها، وهذه الديكتاتورية ذات البعد الطائفي هي التي تعيد إنتاج النظام، أمّا في لبنان فالطائفية هي التي تقوم بهذا الدور. ويبقى أنَّ الأرقام، على أهميتها، لا تأخذ دلالتها من ذاتها فحسب، بل أيضاً من المنطق الذي يستخدمها ويحلل واقعها ودلالاته.
والحال، أن أساس النظام الأسدي، لا يختلف عن أسس أنظمة دكتاتورية كثيرة، بعضها له طابع طائفي وبعضها ليس له، وهذا الأساس هو العمل على تأبيد سلطة الدكتاتور وإعادة إنتاجها حتى بعد موته عبر التوريث ولو كلّف ذلك التهام الدولة والمجتمع عبر أجهزة الأمن المستشرية. وتتوسّل هذه الأنظمة لذلك ما هو متاح لها من قبلية حيناً أو طائفية حيناً آخر أو جهوية في حين ثالث أو عائلية في حين رابع، أو خليط من كلّ ذلك أو سواه لكي تتوصل إلى الشرط الذي لا بد منه لاستمرار الدكتاتورية الشمولية، ألا وهو إلغاء السياسة من المجتمع.
والأمر المهم الثاني، هو أنَّ تطور النظام السوري، وكون السلطة فيه هي مصدر الثروة الأساسي، قد أفضيا إلى ارتفاع مميّز للنظام فوق جميع الطبقات والشرائح والطوائف وتخليه عن تمثيل أيّ منها بالمعنى الكلاسيكي للتمثيل السياسي والإيديولوجي، فبات شريكاً للتجار بالقوة والعنف وليس ممثلاً لهم كما يبدو للوهلة الأولى، وبات القالب الذي ينبغي أن يتكيفوا معه. وهذا ما يصح، بوجه عام، على علاقة النظام بالطوائف، خاصة الأقليات وكذبة حمايتها، وعلى رأسها الطائفة العلوية.
راتب شعبو:
في رأيي أن اللون الطائفي تغلغل في أعطاف الثورة السورية بعد الموقف السلبي ثم المضاد للثورة من جانب جماعات دينية ومذهبية معينة في سوريا، ولاسيما العلويون منهم. وقد جرى ذلك بآلية التغذية الذاتية، بمعنى أن سلبية “الأقليات” دفعت لظهور ملامح طائفية عند الحراك الثوري وهذه الملامح عادت لتغذي سلبية “الأقليات” مما دفع الحراك الثوري باتجاه قول، وفي أحيان غير قليلة، فعل طائفي زائد، وهكذا.
وقد زادت عسكرة الثورة من هذا الفعل التبادلي بين الطوائف بأن زودت كل جهة بأعمال شريرة من جانب الجهة الأخرى يرتاح عليها ضميرهم الجماعي وتسوغ موقفهم.
وتعمل الممارسات المنهجية المدروسة للنظام على صب الزيت على اللهيب الطائفي حيثما أتيح له ذلك.
ولا أظننا بحاجة إلى تحقق وأرقام دقيقة كي نلمس هذه الحقيقة. اللون المذهبي السني غالب على الحراك الثوري في سورية، والجهات الإقليمية التي تجاهر بدعم الثورة السورية هي من لون مذهبي واحد وترى إلى الصراع في المنطقة على أنه صراع شيعي/سني وتريد زج الثورة في هذا القالب. والموقف المضاد للثورة غالب على الأقليات ولاسيما على العلويين، الذين ينفرون حتى من إطلاق تسمية ثورة على ما تشهده سورية. كما أن الجهات الإقليمية الداعمة للنظام هي من لون مذهبي واحد بما يسمح لمن يشاء أن يضع الثورة السورية في سياق صراع سني/شيعي يراد له أن يشكل واجهة تخفي وراءها حقيقة التناقضات المغذية للصراعات في المنطقة، وأقصد بهذه التناقضات تلك القائمة بين قوى الاستبداد وقوى التحرر، بين قوى الاستغلال والنهب والاحتكار والقوى والفئات الشعبية التي تزداد فقراً، بين المستعمِر والمستعمَر ..الخ
ياسين الحاج صالح:
على مستوى الدوافع والقيم الأولى الموجهة، الثورة السورية ثورة وطنية وديمقراطية، تعترض بصورة أساسية على نمط ممارسة السلطة العمومية، وتستند إلى القيم الإنسانية العامة من حرية وكرامة ومساواة وعدالة وأخوة واحترام متبادل بين الأفراد والجماعات، وتعتمد أسلوبا سلميا في احتجاجها، وتحيل إلى الشعب ككائن سياسي واحد (الشعب السوري واحد)، يريد شيئا (إسقاط النظام) ويأبى شيئا (ما بينذل)، ويعمل على صنع مصيره. هذه الملامح لم توفر سببا قويا لأي كان كي يعادي الثورة، إلا ملوثي الأيدي والضمائر من الملتحمين بالنظام.
لكن كان ظاهرا أن عتبة تماهي جمهور سني، في الأرياف والأحياء الطرفية بخاصة، في الثورة أدنى من غيره، بحيث لا يكاد يحتاج إلى جهد خاص كي يتعاطف معها أو يشارك فيها. بينما كانت عتبة تماهي عموم العلويين وقطاعات أكثرية من الأقليات الدينية والمذهبية الأخرى بالنظام هي المنخفضة، وبالثورة مرتفعة. هذا نتاج سياسة تعب عليها النظام ونخب مرتبطة به طول أكثر من أربعين عاما. وبفعل المواجهة الحربية للثورة من قبل النظام، واستهدافه التمييزي للبيئات السنية الحاضنة للثورة بأشد بطشه، اتسعت قاعدة الثورة في الوسط السني، وجنحت أكثر وأكثر نحو المقاومة المسلحة، فيما لم تتسع بالقدر نفسه في أوساط الجماعات الأخرى. لكن قطاعات مؤثرة منها ظلت إلى جانب الثورة، وإن كانت قلة ضئيلة من الثائرين غير السنيين يشاركون في المقاومة المسلحة.
وبالتدريج انزاحت الأرضية العقدية للمقاومة المسلحة وبثبات نحو “الإسلام”، وصارت تشرع نفسها أحيانا بمفهوم الجهاد. منذ أكثر من جيل هناك تقارب بين المقاومة المسلحة والإسلام في بلداننا، بعد جيل سابق كانت المقاومة تمارس على أسس قومية وبسارية.
وربما نرى في المستقبل تجاذبا بين قيم الثورة المحركة أو طبعها الأول، وبين العادات التي اكتسبتها أثناء مواجهة طويلة وبالغة القسوة مع النظام، أو تطبّعها. كلما طال الأمد بالثورة، وزاد الاحتمال بأن يغلب التطبع العنيف الطبع المسالم.
3- هل بالإمكان أن نعتبر أن الداخل السوري بمكونه العسكري حاليا ممهد لظهور أمراء حرب، ما هي احتمالات تطور الحالة السورية إلى حرب أهلية شاملة؟
ثائر علي ديب:
يرتبط ظهور أمراء الحرب، بتفكك الدولة السورية، وتحول النظام إلى مجرد مافيا بين مافيات أخرى. والحال، إنَّ تطور الوضع في سورية إلى حرب أهلية شاملة وارد لكنه يرتبط بالنظام أولاً، فاستمرار النظام بشكله الحالي هو الاقتصاد السياسي (بمعنى السبب الجوهري) اللازم للحرب الأهلية. ومع أن المشكلات الطائفية لا تزول مباشرة بزواله، فإن المفترض بها عندئذٍ أن تأخذ بالانحلال وتتراجع شيئاً فشيئاً من الحيّز العام إلى الحيّز الخاص والشخصي بوجود دستور ديمقراطي وتداول السلطة والحريات والحقوق الأساسي… إلخ.
وربما كان من الضروري هنا العودة إلى تجربة الثمانينيات من القرن الماضي، حين لعبت المعارضة الطائفية دور السندان لمطرقة النظام الطائفية، واشتدّ تطييف المجتمع كثيراً بسبب العنف المسلح الذي مارسته تيارات إسلامية متشددة، إلى أن انتهى الأمر بهزيمة دموية لها ومن ثم للمجتمع كلّه، بإلغاء السياسة، وتضخيم أجهزة القمع أضعافاً مضاعفة، وتغلغلها في جميع المفاصل، وتحول أقسام مهمة من الجيش إلى “جيش للنظام”، وإدماج أجهزة الدولة والمنظمات الشعبية في بنية النظام. وكان لذلك كلّه أن يزيد النظام قوة ومنعة بدل أن يكسره. والأسئلة غير النافلة اليوم، هي هل يستطيع النظام، على الرغم من اختلاف الزمان والوقائع، أن يدفع الثورة إلى هذا الفخّ، بوجود أصوات طائفية كثيرة في صفوفها؟ هل يُتْرَك الصراع ليستنقع، بلا غالب أو مغلوب، مما يخلق فرصة لقيام إمارات الحرب وأمرائها؟ أم يكون النصر حليف الثورة في مرحلتها الأولى هذه، بمعنى مضيّ سوريا إلى ما سبقتها إليه ثورات الربيع العربي في تونس ومصر وليبيا واليمن: زعزعة النظام بإسقاط رأسه، والظفر للشعب وقواه السياسية بالحريات والحقوق الأساسية (حق التعبير والتنظيم والتظاهر والتنقل. إلخ، فضلاً عن تداول السلطة)، وهذا يعني فتح المجال العام أمام برامج وتحالفات وفرص يمكن أن تشكّل مراحل تالية متقدمة (اقتصادية واجتماعية) من الثورة، إذا ما اضطلعت القوى اللازمة بمسؤولياتها؟
راتب شعبو:
استمرار الصراع في سوريا على هذه الحال يصنع العناصر الكافية لحرب أهلية شاملة. رأيي أن ما يجري في سورية اليوم هو حرب أهلية، فالعنف الجاري اليوم ليس عنفاً “طبيعياً”. بمعنى إنه ليس عنفاً تمارسه دولة ضد متمردين محدودين من السكان. هناك قطاع بشري واسع ويتسع من المدنيين السوريين الذين فرضت عليهم الظروف اختطاط طريق العنف لتغيير النظام. وهذا يواجههم بأجهزة الدولة القمعية (أجهزة أمن مع جيش) ويستند أكثر فأكثر، مع استمرار واتساع الثورة، إلى وسائل قمع إضافية، هذه الوسائل هي مدنيون موالون يتم تسليحهم (لجان شعبية) وزجهم في دائرة الصراع العنيف. ويعود ولاؤهم لأشخاص نافذين غير رسميين في النظام، وهؤلاء هم من يسمون (الشبيحة). الحرب الدائرة في سورية اليوم هي حرب أهلية مضبوطة، لأن الدولة لا تزال على قدر جيد من التماسك.
مع الوقت وعلى المدى الطويل يجري تحول الجيش أكثر فأكثر إلى جيش لا يعكس التنوع الوطني، بعد انشقاق واسع من عناصره وغالبيتهم من المسلمين السنة والامتناع عن الالتحاق بالجيش (الخدمة الإلزامية) في هذا الوسط، ما يجعل هذا الجيش يرمم ذاته بطلب تطوع لا يستجيب لها سوى أبناء الأقليات، ولاسيما العلويون، وهذا يجعل الجيش أكثر فأكثر ذا لون طائفي غالب لا يعكس التوازن السكاني في سوريا.
في المقابل يتشكل ويتبلور أكثر جيش ثان، هو الجيش السوري الحر، والذي يغلب عليه أيضاً لون مذهبي معين. هكذا يغدو الصراع الذي نشب بين قوى ثورة ضد نظام مستبد صراعاً بين جيشين مذهبيين مع روافدهما. الانتقال إلى حرب أهلية طائفية شاملة بعد ذلك يتوقف فقط على اقتراب هزيمة أحد الجيشين. إذا حصل ذلك، وهو يمكن أن يحصل بحصول تدخل خارجي مثلاً أو بتزويد الجيش الحر بأسلحة نوعية، حينها يمكن، وتحت الشعور بالخوف من الانتقامات غير التمييزية رداً على ما ارتكب النظام وملحقاته من مجازر وقتل وقمع، أن ينخرط أبناء الأقليات ولاسيما العلويون تحت راية كبار الشبيحة (أمراء حرب) في حرب قد تبدو لهم “حرب وجود” في انحطاط سياسي تام.
على الضفة الأخرى من الصراع، تشكلت أجنّة أمراء الحرب وفق تقسيمات تعتمد على مصادر التمويل والتسليح وعلى جهة الولاء وعلى التصورات والمعتقدات السياسية الإسلامية وما إلى ذلك. وعليه فإن انهيار الدولة في سوريا من المرجح أن يليه المشهد الأفغاني أو الصومالي الذي يسيطر عليه “أمراء الحرب”. هذا ما لم يتم التوصل إلى حل سياسي يشكل مدخلاً سلمياً لتفكيك بنية النظام الاستبدادي.
ياسين الحاج صالح:
لدينا اليوم أمير حرب اسمه بشار الأسد، ولا أعرف ما هي الحرب الأهلية الشاملة إن لم تكن الحرب التي يخوضها هذا الأمير من درعا إلى دير الزور؟ وأشك في وجود احتمال لأن نشهد حربا أكثر شمولا مما نرى اليوم.
هل يمكن أن نشهد مجموعات قتالية متنازعة في سورية بعد سقوط النظام، أو مع بقاء بشار أو من في حكمه أميرا على فلول النظام، وتمترسه في بعض مناطق البلد؟ لا أعرف. هناك ديناميات توحي بذلك، منها تعرية قطاعات واسعة من المجتمع السوري وتركهم بلا حماية من أي نوع ودفع قطاعات متسعة منه إلى التشدد، ومنها تحطيم الروابط الاجتماعية والوطنية وتغذية الطائفية وملايين النازحين والمهجرين، ومنها كلام يسمع أحيانا عن “انفصال” أو “استقلال”… وهذه كلها عمليات لا نعلم إلى متى ستستمر. كلما طالت كان مفعولها التدميري أكبر وكان محتملا أن يتولد عنها مجموعات قتالية متنوعة لكل منها زعامتها الخاصة.
لكن من خصائص الثورة السورية (وكل الثورات) استحالة توقع ما يجري غدا، وربما يقلب الأمور في اتجاه مغاير. وأفضل أن أتخيل أن وزن القوى الوطنية والمدنية سيبقى مهما، وأن من شأن سقوط النظام أن يدفع الأمور في اتجاه معاكس للعسكرة والتصلب النفسي والتشدد المذهبي نحو التقارب بين الناس وصفاء النفوس، ويكون نقطة بداية عملية التئام وطني وروح من التقارب والشراكة الوطنية. في المناطق شبه المحررة اليوم نرى أوضاعا صعبة، لكنها مستقرة، وجهودا لمعالجة ما يعرض من مشكلات، ولا يخشى إلا من العدوان الوارد في كل لحظة من قبل قوات الإمارة الأسدية. ولا أرى سببا كي لا يكون الأمر كذلك في سورية كلها بعد سقوط النظام.
4- يحتدم في العراق ولبنان، قبل الثورة السورية، احتقان سني شيعي تؤثر فيه قوى إقليمية. هل لتلك القوى دور في الساحة السورية، وهل من مصلحتها الدفع نحو تطييف الصراع، وهل ينسجم ذلك مع مصالح القوى الدولية في سوريا؟
ثائر علي ديب:
ج: يرتبط دور الخارج في تطييف الصراع بمصلحة هذا الخارج، غير البعيدة عن مصلحة النظام، والمتمثّلة في حَرْف الثورة عن هدفها في إسقاط النظام لبناء دولة المواطنة الديمقراطية. فليس للأنظمة الإقليمية أو الدولية أية مصلحة في ذلك، خاصةً أن ذلك سيعطي زخماً قوياً جداً للثورة في المنطقة برمّتها. وهذا هو السبب في ما نراه من نفاق دولي إزاء الثورة السورية يبلغ حدّ الحقارة والكلبيّة.
راتب شعبو:
من مصلحة القوى الإقليمية والدولية اغتصاب الثورة السورية، وغيرها من الثورات، وحشرها في قالب من الصراع الديني العبثي اللاتاريخي بين الشيعة والسنةـ لأن إخفاء المعنى الحقيقي للصراع ينأى بالسلطات المستبدة التي تعم المنطقة عن جدول التغيير الذي يجتاح هذه البقعة من الأرض. بهذا المعنى تصبح مشكلة سلطة ما في أن رئيسها أو طاقمها أو الغلبة فيها لأناس من مذهب معين وليس لأنها مستبدة وظالمة واعتباطية واحتكارية وتنتهك القوانين المحلية والدولية وما إلى ذلك.
والواقع أن لهذه القوى فاعلية واضحة في الثورة السورية من خلال الدعم المالي والعسكري والسياسي لكلا الطرفين. فالنظم الاستبدادية المزمنة تمتلك من القوة والسيطرة ما يجعل الدعم الخارجي شرطاً هاماً وضرورياً لنجاح الثورة عليها. وتركت طبيعة النظم الإقليمية الداعمة للثورة السورية وما تتسم به من استبداد وتمييز واحتقار لفكرة المواطنة، تأثيراً سلبياً على صورة الثورة في أذهان كثير من السوريين. فكانت فاعليتها دعماً من الناحية المادية والسياسية وسلباً من الناحية المعنوية.
ياسين الحاج صالح:
لا أعتقد أن هنا سؤالا حول وجود دور لتلك القوى. السؤال هو حول كيفية الدور وأدواته. إيران وحزب الله لا يخفيان دعمهما للنظام، ونظام المالكي ليس بعيدا عن ذلك. إيران تقدم دعما ماليا واستخباريا وتكنولوجيا وإعلاميا، وبشريا. حزب الله يساهم في المجهود الحربي للنظام استخباريا وإعلاميا، وربما بالرجال. المالكي بالمال. ألاحظ تمايزا جزئيا لموقف الحكومة العراقية وشيئا من حرج. يشبه موقف السعودية وقطر من الطرف الآخر في الحرج، وفي فقدان هذه القوى لاستقلالية القرار. والنسق الطائفي في هذا الاستقطاب بعيد عن أن يكون عارضا.
لو كنا حيال عالم عاقل وسياسيين إنسانيين ليس لتلك القوى الإقليمية أو لأحد مصلحة في تطييف الصراع. لكن توسل الطائفية وفي السياسة والتحالفات السياسية ليس جديدا على أي من القوى المذكورة وعلى النظام السوري.
القوى الدولية ليس لديها مشكلة في تطييف الصراع طالما هو لا يمس مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية. هي تميل أصلا إلى التفكير في مجتمعاتنا من مدخلين حصرا: الدين والمذهب وما إلي ذلك من جهة، والمدخل الجيوسياسي من جهة أخرى. المجتمع والاقتصاد والسكان والبيئة الطبيعية والتاريخ… كله غائب.
5- شكلت الطبقة الوسطى حاملا ثوريا في الربيع العربي، كيف تقيم انخراط الطبقات الاجتماعية في خارطة الحراك الثوري بمختلف أشكاله، وهل يوجد تداخل بين العوامل المناطقية والطبقية والطائفية؟
ثائر علي ديب:
شهدت الأشهر الأولى من الثورة انخراطاً متصاعداً لكافة طبقات المجتمع السوري، وكان مأمولاً أن يبلغ ذلك حدّ قيام جبهة إنقاذ واسعة تضمّ الجميع ما عدا الاستبداد والفساد. غير أنّ قمع النظام الهمجيّ من جهة، وما أدّى إليه من ازدياد دور القوى السياسية المعارضة التقليدية والقوى الدولية من جهة أخرى، وعلوّ صوت متخلّف ورجعي في قلب الثورة مع أنّه أقرب إلى الثورة المضادة من جهة ثالثة، كلّ ذلك عرقل تطور الثورة إلى بعد وطني بدل البعد الطرفيّ الريفي، وإلى بعد شامل وجامع ومواطني بدل البعد الطائفي المناطقي، وإلى بعد مدني ونقابي بدل البعد الأهلي. وإذا كان للأبعاد المناطقية والطبقية والطائفية أساسها الواقعي الموضوعي، إلا أن انتصار الثورة يقتضي تطورها بالاتجاهات المشار إليها، ونادراً ما انتصرت ثورة دون أن يخاطب الثوار المجتمع كلّه بأنهم يمثلون مصالح جميع طبقاته وفئاته وطوائفه أحسن تمثيل.
راتب شعبو:
كان شباب الطبقة الوسطى المفجر الأول للثورات العربية الحديثة، بفعل التفارق الممض بين ما يعونه (عبر وسائل الاتصال والتعبير والحديثة) وما يعيشونه. وقد أجدى تحرك هذه الفئة لأن اللحظة العربية كانت مكتملة العناصر. تراكم طويل من الإذلال القومي والإفقار ودوس الكرامات والاستفشار في الغنى والسلطة والتسيد وسواها. أنظمة عربية لا مشروع لها سوى الحفاظ على ذاتها على حساب المواطن والوطن. وقد وجت الشعلة التي أوقدها الشباب العربي المثقف نفوساً قابلة للاشتعال في طول وعرض البلاد. لكن الحديث عن طبقات اجتماعية متمايزة ساهمت في الثورة كطبقات ذات مصالح، يبقى حديثاً خارجياً، أقصد أنه مقحم على الأحداث. ما جرى في سورية مختلف مثلاً عما جرى في مصر، مساهمة المدن في سورية كانت أضعف من مساهمة الريف، ولعل ذلك عائد إلى ازدياد نسب الفقر والعطالة في الريف، أو إلى أن ظروف الريف وتركيبة أهله أكثر قدرة على مواجهة العنف الرهيب للنظام السوري.
التقسيم العام الأكثر جدوى في التحليل هو بين فقراء ومهمشين وبين أثرياء ومتسيدين. ولا شك أن الانقسامات العديدة داخل المجتمع تركت ظلالها الكثيفة أحياناً على تفاصيل اللوحة. ثمة مناطق سورية أظهرت ثباتاً وكفاحية عالية قياساً على مناطق أخرى من اللون المذهبي نفسه، ويشكل هذا موضوع دراسة مستقل. يضاف إلى ذلك الظلال الطائفية التي شلّت البعد الطبقي تماماً (فقراء ومهمشون يقفون ضد الثورة بفعل وعي طائفي فشلت دعاوة الثورة في تبديده). العامل الطبقي في بلداننا يمر عبر مسارب متعرجة. بمعنى أن التحليل الطبقي يعجز عن تفسير اصطفاف تجار مع النظام واصطفاف آخرين ضده. الانقسام الطبقي لا يعكس نفسه بصورة واضحة في الصراع نظراً إلى أن الوعي العام المصبوغ بخلطة من العناصر الدينية والمذهبية والمناطقية والطبقية .. الخ يمارس تأثيراً فعالاً للغاية في تحديد مواقف الناس من شؤونهم العامة.
ياسين الحاج صالح:
يبدو لي أن القاعدة الاجتماعية للثورة في سورية مكونة من الشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى، ما كان يسمى في أوقات سابقة البرجوازية الصغيرة، في الأحياء الطرفية والبلدات والأرياف، ومن الأصول السنية بخاصة. من خصائص سوق العمل الجديدة التي تشكلت في عهد بشار بفعل “لبرلة” الاقتصاد أنها محابية للمدن على حساب الأرياف، وللمدن الكبرى على حساب الصغرى منها، ولمراكز المدن على حساب أطرافها والضواحي، وللحائزين على كفاءات وخبرات مناسبة لاقتصاد الخدمات الجديد على حساب المحرومين منها أو أصحاب الكفاءات القديمة. ولعل في هذا ما يفسر مشاركة لافتة لمنحدرين من أصول اسماعيلية في الثورة. فأكثريتهم تسكن في بلدات وأرياف لا توفر فرص تأهيل مناسبة ولا تعد بمستقبل اقتصادي آمن.
التقي هذا الشرط الاجتماعي الصاعد مع انحدار القاعدة الاجتماعية للإسلاميين في سورية والعالم العربي كله من شرائح أعلى، تجارية ومهنية، إلى شرائح أدنى يزداد تهميشها الاجتماعي والمكاني، والسياسي. هذا بينما نشأت برجوازية كبيرة جديدة امتيازية وشبه أرستقراطية، مرتبطة بالنظام ومستفيدة من عقوده وصفقاته.
لدينا وضع يشبه وضع طبقة الأعيان التي أطاح بها الحكم البعثي بعد أن كانت أضعفتها الانقلابات العسكرية والوحدة السورية المصرية. لكن مع فارقين مهمين. البرجوازية الجديدة فاشية، ولديها استعداد مجرب للقتل، وفي الأصل يشكل “القسر السياسي” مدخلا مهما لها إلى الثورة والنفوذ على نحو كان يميز التشكيلات الاجتماعية ما قبل الرأسمالية؛ ثم إن إيديولوجيتها اليوم ليست مزيجا من القومية العربية والاشتراكية بل ضرب من الحداثية اليمينية المعادية للديمقراطية والعامة، طورها أصلا مثقفون غير بعثيون بنسخ متعددة تجمع بين “العلم” والابتذال، وتشكل بمجموعها الإيديولوجية العضوية لضباط المخابرات وكوادر من الطبقة الوسطى والعليا ومثقفين مرتبطين بهما. الثورة ضد مجتمع “السوريين البيض” هذا بأكمله، ضد برجوازيته الجديدة وأجنحته الحربية ومثقفيه العضويين.
واللافت أنه ليس هناك إيديولوجية موحّدة للبرجوازية الصغيرة الجديدة، ولا تبدو معنية بتطوير إيديولوجية محددة. بقدر كبير من التقريب ربما نقول إن إسلاما غير متمايز هو إيديولوجية البرجوازية الصغيرة الجديدة. لكن عند التدقيق تجد إسلاما شعبيا وإسلاما إخوانيا وإسلاما سلفيا (هو الموجة الصاعدة في تقديري) وإسلاما سلفيا جهاديا وإسلاما غير عنفي. هناك أيضا مشاركون في الثورة من الطبقة الوسطى المهنية والمثقفين، تجمعهم ليبرالية غير واضحة المعالم بدورها، هي التي تعرض انشغالا أشد بالسلمية وبمبادئ حقوق الإنسان.
6- هل هناك تخوف من تشدد إسلامي يؤثر على حرية الرأي و التعبير والاعتقاد، كيف تنظر إلى هذه المسألة في سوريا ما بعد الأسد؟
ثائر علي ديب:
قد تكون الفترة الأولى التالية لإسقاط النظام شديدة الاضطراب، وسوف ترتبط كثيراً بالدور الذي تقوم به القوى والطبقات والفئات الاجتماعية المنطوية على إمكانية تطوير الثورة والارتقاء بها، ومدى اضطلاع هذه القوى والطبقات والفئات بمسؤولياتها. وسوف تحاول قوى كثيرة، خاصة المتأسلمة وبقايا النظام، أن تلعب دوراً كبيراً لجعل الديمقراطية والمواطنة في حدّها الأدنى، وإعادة إنتاج نظام لا يبتعد كثيراً عن النظام السابق. غير أنَّ أحداً لن يسعه بعد الآن أن يزيل “تداول السلطة” من التشريع السوري بل ومن الواقع السوري، ولن يسع أحد بعد الآن أن يزيل إقرار الحريات الأساسية وحقوق الإنسان والمواطن من التشريع السوري ومن الواقع السوري. ولن يقبل السوريون بعد هذا النظام، كائناً من كان من يخلفونه وحتى لو بقي هو ذاته في معظمه، أن يكون بمقدور أي عنصر أمن أن يدخل أي بيت ولا يترك فيه نسمة دون أن يتعرض لأية مساءلة قانونية … إننا إزاء ثورة سياسية هي ضرورة وشرط لازم للثورة الاجتماعية–الاقتصادية، إذا ما اضطلعت القوى اللازمة لهذه الثورة الأخيرة بمسؤولياتها. وإن لم تضطلع، جاءت النتائج محدودة، ديمقراطية الحدّ الأدنى. علماً أنَّ احتمال الاحتراب المديد المفضي إلى دمار البلد واستنقاع حربه الأهلية يبقى قائماً في سوريا.
راتب شعبو:
. رغم أن التركيبة الاجتماعية في سوريا لا تتقبل التشدد الديني ورغم الاعتدال التاريخي للإسلام في سوريا إلا أن خطر التشدد الإسلامي ما بعد الأسد حقيقي. يزيد في هذا الخطر طول أمد الصراع وجنوح الحراك إلى الاتجاه الإسلامي الذي بدأت تغزوه تيارات متشددة. ويضاف إلى هذا ضعف مشاركة “الأقليات” بما يجعل النصر حين يتحقق ثمرة إسلامية تمهد لإقامة حكم إسلامي ولكن لن يكون له أن يوطد أركانه في سوريا.
ياسين الحاج صالح:
هناك تخوف طبعا. وأتصور أن ذلك يتولد عن نوعين من الظروف. أولهما وزن إسلاميين متنوعين في الحياة العامة في سورية ما بعد الأسدية، ونزوعهم المرجح إلى تشكيل البلد على صورتهم ومثالهم، على نحو يحاكي ما يمكن توقعه من أي قوة سياسية صاعدة، وما نرى بعض مؤشراته في تونس ومصر. وثانيهما وضع الحريات الهش في الفكر الإسلامي، وعدم القبول الحاسم والنهائي بمبدأ حرية الاعتقاد الديني والحرية الجوهرية للإنسان. وهذه قضايا ستصبح راهنة جدا في سورية بعد سقوط النظام.
لكن أعتقد أن العامل الحاسم في وضع الحريات في سورية بعد الثورة هو التوازنات الاجتماعية والسياسة التي ستقوم. لا يستقيم في مجتمع مركب مثل سورية أن يفرض طرف سياسي أو اعتقادي مفهومه للدولة والمجتمع. هذا هو الدرس الأول من الحكم البعثي الأسدي. سورية ما بعد البعثية وما بعد الأسدية لا يمكن أن تكون سورية بعثية بلا بعث وأسدية بلا أسد أو بأسد آخر. هذا لن يمر. إلا ربما بحرق البلد!
7- كيف ترى مستقبل سوريا جيوسياسيا من حيث وحدة أراضيها، وشكل النظام السياسي الإداري المقبل، من حيث الفدرالية أو اللامركزية أو المركزية، وتأثير العوامل العرقية والدينية والمذهبية على شكل الأحزاب السياسية السورية؟
ثائر علي ديب:
كل هذا (مستقبل سوريا الجيوسياسي ووحدة أراضيها، وشكل النظام المقبل، وتأثير العوامل العرقية والدينية والمذهبية على شكل الأحزاب السياسية…الخ) هو محلّ صراع بين الثورة والنظام الآن، وبين الثورة والثورة المضادة الآن وفي المستقبل. وهو رهن اضطلاع قوى الثورة بمسؤولياتها وحشدها القدرات اللازمة لذلك.
راتب شعبو:
الثورة السورية أضعفت السلطة المركزية دون أن تسقطها، وهذا خلق فراغ سلطة يتم ملؤه بالقوى المتوفرة على الأرض. هذا الأمر يمكن أن يترك بصمات دائمة على مستقبل سوريا جيوسياسياً إذا طال أمد الأزمة على هذا النحو الذي يعجز فيه طرفا الصراع عن الحسم. وحين يفشل المجتمع السوري في إدارة ذاته جراء ديمومة الصراع يغدو مستقبل سوريا أكثر فأكثر رهناً بسياسات الخارج (الجوار والدول الكبرى). ولا شك أن للداخل دوره، ذلك أنه مهما زادت قوه الخارج، فإنه لا يستطيع أن يخلق شيئاً من عدم. الخارج يستثمر في قوى وميول واتجاهات موجودة ولها ثقل ما على الأرض.
ما سوف يترك أثره على مستقبل سوريا هو وقوع العبء الأكبر في التخلص من النظام المستبد على كاهل المسلمين السنة السوريين بشكل أساسي. لن يكون غريباً، في حال سقوط النظام، أن يتم النظر إلى هذا الإنجاز على أنه ثمرة إسلامية سنية، وما يترتب على ذلك من توليد قوى نبذ عند باقي فئات الشعب السوري. من المتوقع أن يكون للأكرد مسعى قوي للحكم الذاتي، وسيكون هذا جبهة صراع لاحقة في سورية المستقبل. وقد خلق انكفاء الأقليات عن المشاركة في إسقاط النظام شعوراً بالاغتراب المتبادل بين فئات الشعب السوري، وهذا يغذي انعدام الثقة فيما بينها مما يدفع باتجاه تقاسم طائفي للسلطة، على غرار الحال في العراق أو لبنان حتى.
من المرجح أن نواجه مرحلة انتقالية قاسية يكون محور الصراع فيها بين قوى تدفع لبناء دولة ديموقراطية مركزية تعتمد فكرة المواطنة، وبين قوى تسعى للاطمئنان بتحصين خصوصيتها القومية أو الدينية دستورياً في دولة لامركزية، وقوى تسعى إلى درء تقسيم البلاد بتقسيم السلطة. والحق إنه لا يمكن التنبؤ بالشكل النهائي الذي ستتجمد عليه الأوضاع السائلة اليوم في سوريا. لكن يتعين العمل على كل ما يرجح كفة بناء دولة ديمقراطية لا طائفية، لأن التكريس الواقعي والدستوري للديمقراطية الطائفية سيكون حفرة يصعب الخروج منها مستقبلاً.
ياسين الحاج صالح:
الأمر مرهون بكيفية التخلص من النظام الأسدي، وبمتى سيحصل ذلك: اليوم أم بعد شهور أو ربما أكثر؟ كلما طال الأمد كانت احتمالات التفكك الوطني أكبر.
إذا تخلصنا من النظام بقوانا الخاصة، وإن بمساعدات خارجية (لكن دون تدخل مباشر)، كانت عوائد ذلك أفضل على سلامة الكيان الوطني. والعكس صحيح.
يبدو لي مؤكدا منذ اليوم أنه سيكون هناك حضور أكبر للأهلي والجهوي في الحياة العامة بعد الثورة. هل هذا سيء بحد ذاته؟ هل يتحتم أن يؤدي إلى نظام محاصصة على الصعيد السياسي؟
أنا محتار في هذا الشأن، وموزع النفس بين نموذج الدولة الوطنية المركزية القائمة على المواطنة والمعادية للتمايزات الثقافية أو المتحفظة حيالها على الأقل، وهي لا تزال النموذج المهيمن عالميا؛ وبين ضرب من مجتمع تعددي متمركز حول الحرية، ويتميز بدرجة عالية من اللامركزية المتعددة المستويات، ويبدو أن كل دول العالم، بما فيها الأعرق في االقومية والمركزية مثل فرنسا، تسير في هذا الاتجاه.
وعلى كل حال أتصور أننا بحاجة إلى قدر واسع من اللامركزية والحكم المحلي الواسع الصلاحيات. هذا ضروري تنمويا وسياسيا، ويمكن له أن يكون حاجزا ضد استبداد المركز أيضا.
لكن ألا يحمل مخطر تفكك كيان ليس شديد التماسك أصلا؟ وهل نستطيع رسم حدود واضحة بين لا مركزية إدارية واقتصادية، وبين الحيلولة دون أن تكون الإثنيات والمجموعات المذهبية مراكز فرعية جديدة؟ أي كيف نجمع بين ضروب من اللامركزية مناسبة للتنمية والحكم المحلي، وبين شد بنية البلد وتفوق جاذبيته الداخلية على أية ميول تفككية أو نابذة؟ هذه قضايا أتصور أن تواجهنا في وقت غير بعيد.